لا يختلف اثنان على توصيف ما حصل في قطاع غزه بانه انتصار كبير للشعب الفلسطيني بجميع فصائله وتياراته المختلفة، بغض النظر عن موقع ومكان كل طرف من اطراف الانتصار، لأن اي انتصار لا يمكن ان يتحقق الا بتضافر مجموعة من العوامل والعناصر التي توفرت في مواجهة العدوان الصهيوني لتصنع نصرا ضد عدو عجز عن تحقيق اي من اهدافه سواء كانت سياسية او عسكرية..
والانتصار هنا ليس انتصارا عسكريا ماحقا على المشروع الصهيوني، كما يرى البعض من دعاة التفريط والانهزام، والذي يتطلب شروطا فلسطينية واقليمية وربما دولية لم تكن متوافرة في المعركة الاخيرة، بل نصر في حدود ما اعلن العدو الاسرائيلي من اهداف يريد تحقيقها بعدوانه على قطاع غزه وفشل ليس فقط في تحقيقها، بل وفي بروز عناصر قوة في الجبهة الفلسطينية لم يضعها العدو في الحسبان..
لذلك، وفي حدود ما صدر عن رئيس وزراء العدو وعن عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين بأن اهداف العدوان كانت تتلخص في اربع رئيسية:
الاولى هي فصل الضفة الغربية، بما فيها القدس والمقدسات، عن قطاع غزه في اطار استكمال تطبيقات صفقة القرن التي شملت الى جانب عناوين اخرى قضايا تكريس السيطرة على القدس وتعزيز ما يسمى السيادة الاسرائيلية عليها اضافة الى خطة الضم التي تشمل ضم مساحات واسعة من الضفة الغربية.
الثانية تكريس ما استجد مؤخرا من اجراءات ميدانية على الارض، الاستيطان وسرقة الاراضي وهدم المنازل والاعتقال وغير ذلك من ممارسات، باعتبارها حق سيادي لاسرائيل انسجاما مع نص المادة الاولى من قانون الدولة القومية لليهود في “اسرائيل” الذي اقره الكنيست الاسرائيلي في تموز 2018 والذي عرف “ارض اسرائيل(فلسطين) باعتبارها الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وان دولة إسرائيل هي الدولة القومية لهذا الشعب”.
الثالثة الحد من قدرات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزه وتوفير الحماية للمواطنين الاسرائيليين من صواريخ المقاومة. والرابعة استهداف عدد من قادة المقاومة..
في نقاش هذه الاهداف وما تحقق منها على ارض الواقع، فنحن امام نصر حقيقي وكبير حق للفلسطينيين والعرب واحرار العالم ان يحتفلوا به وبالطريقة التي يرونها مناسبة. غير ان الانتصار لا تنتهي مفاعيله لحظة ما يسمى وقف اطلاق النار فقط، بل هي معركة طويلة ومفتوحة مع هذا العدو الذي سيكرر عدوانه من جديد هنا وهناك، لذلك وجب على كل من شارك في صناعة هذا النصر ان يكون حذرا في التعاطي مع يوميات هذا الانتصار.. لان المحافظة على الانتصار، كما قال احدهم في السابق، اصعب من الانتصار نفسه.. وكي لا نضطر الى استحضار ونقاش مقولة الثائر الفرنسي دانتون الذي قال: “ان الثورة تأكل أبنائها”.
نقول هذا الكلام على ارضية تجارب مرة عاشها شعبنا وحركتنا الوطنية في اكثر من مناسبة وحصدنا الكثير من الخيبات والنكسات جراء اما مكابرة او استئثار بالنصر واحتكاره او وضعه في خانة غير الخانة الوطنية الجامعة.. لأن في عرف حركات التحرر الوطني ونماذجها الكثيرة، فان الانجازات قد تتحول الى اعباء واخفاقات إذا لم تحسن الاطراف المعنية ادارة عملية ما بعد الانجاز او الانتصار. فكم من الانجازات الثورية ضاعت هباء، وكم من الانتصارات الكبيرة ظلت نتائجها معلقة الى ان اندثرت واختفت، وكل ذلك نتيجة عدم القدرة على القراءة السليمة لأطراف الصراع، خاصة حين تصل العملية الثورية الى مفصل كبير بسبب تداخل عوامل محلية واقليمية ودولية بعضها ببعض.
وفي واقعنا الراهن، فقد خرجت بعض الممارسات والمواقف التي تؤشر الى ان هناك اطراف ممن لا يروق لها ان ترى الفلسطيني منتصرا تعمل على افراغ هذا الانتصار من مضمونه، سواء من خلال مواقف فئوية هنا وهناك او ممارسات ميدانية من افراد، نضعها حتى اللحظة في خانة الفردية، او محاولات بعض القوى احتكار النصر وتجييره بشكل فئوي لصالحها.. وهذا ما يجعلنا نحذر عقلاء قومنا من ادراك تداعيات ذلك على المستوى الوطني، خاصة وان هناك من له مصلحة فعلية في تعميق الانقسام بل والاقتتال بين ابناء الثورة الواحدة.. والانتصار..
وعلى الجميع التسليم بحقيقة ان النصر هو لكل الشعب، بل لكل القضية، ولكل من يشعر انه جزء منه على مساحة الكرة الارضية. فلا حركة حماس بمفردها او بالتعاون مع حركة الجهاد الاسلامي في موقع يؤهلهما لاستثمار الانتصار سياسيا ولمصلحة كل الشعب، لأكثر من سبب محلي واقليمي ودولي، ولا حركة فتح ايضا بموقعها الراهن كحزب لسلطة قادرة على الاستفادة من هذا الانتصار والمراكمة عليه في مجال تحقيق انجازازت سياسية اخرى في معركتنا مع الاحتلال.. لذلك يبقى خيار الشراكة الوطنية الذي به وحده يمكن ان نراكم وطنيا على ما تحقق من انجاز وطني كبير.
هل مبالغة القول ان انتصارنا الكبير قد يكون معرضا للانهيار، وهل هذه الخشية في مكانها. وحين نقول ان الخشية تنبع من قراءتنا للواقع الذي يتحرك في تفاصيل العمل الوطني الفلسطيني. ولنا في تجربة عدوان العام 2014 على قطاع غزه المثال الحي. فهناك، وعلى ارضية خمسين يوما من المقاومة والصمود والتضحية، تم التوصل الى اتفاق مشرف، رضخ فيه العدو لشروط وقف عدوانه..
ففي حينه استطعنا، وفي حالة نادرة الحدوث، من تشكيل وفد موحد صاغ تجربة جديدة، حين ضم في صفوفه التيارات الرئيسية في الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وحين صاغ قراراته بموجب التشاور والتوافق الوطني، وأخذ بالاعتبار صون وحدة الموقف في صوغ القرار، ما عزز ثقة المقاومة والشارع الفلسطيني به، وأعاد الاعتبار للحالة الفلسطينية في عيون الكثيرين، خاصة عندما تمسك بالمواقف والمطالب والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ورفض التنازل عنها رغم محاولة البعض ممارسة الضغوط عليه.
غير ان كل ما تحقق انهار خلال اقل من اسبوعين، بعد ان نجحت اسرائيل في رهانها على عامل الوقت لافراغ صيغة الوفد الموحد وما توصل اليه من اتفاقات تتعلق بقضايا الحصار كالميناء والمرفا والمطار ومساحة الصيد البحري وغير ذلك من قضايا من كل مضمون.. ولتعود غزه الى مرحلة ما قبل العدوان والانتصار. لذلك قلنا نكرر القول بان صيغة الشراكة الوطنية، بديلاً لصيغة الاحتكار والتفرد سواء بالقرار السياسي الوطني او باستثمار نتائج الانتصار، من شأنها أن تقوي الحالة الفلسطينية في وجه العدو. ويخطئ من يعتقد ان بامكانه القفز فوق الكل الوطني لصالح سياسات واستراتيجيات خارجة عن سياق الانتصار وخارجة عن سياق ما تحقق من خارجة ميدانية جدية بين قوى المقاومة واطرافها..
ان ما تحقق في الميدان خلال اقل من عشرة ايام هو انجاز غاية في الاهمية ناضلنا من اجل تحقيقه واقعا على الارض منذ اكثر من ربع قرن، وفي كل مرة كان الانقسام يفعل فعله في الجسد الفلسطيني، ويعيد القضية الفلسطينية وحركتنا الوطنية سنوات الى الوراء. لذلك، فان الجميع معني ويتحمل مسؤولية تطوير ما حصل من انجازات استراتيجية كانت سببا مباشرا في تحقيق الانتصار.
اولا) في غزة حيث اكدت المقاومة قدرتها على حماية الشعب والارض وافقاد العدو لصوابه حين استهدف الاطفال والنساء والمنشآت المدنية، ما جعل مقاومتنا تكسب معركة الرأي العام العالمي وتفرغ مضمون الدعاية الصهيونية من مضمونها بأنها تستهدف “مقار اطلاق الصواريخ لمنظمات ارهابية”. وبالتالي فان الاستراتيجيات والتكتيكات التي اعتمدتها المقاومة في تعاطيها مع العدوان بعثت برسالة واضحة انها قادرة على الدفاع عن القدس وبقية الحقوق الوطنية، وهي قادرة ايضا على اجبار المجتمع الدولي على التعاطي معنا بتوازن، لذلك هي مقاومة وطنية ومسؤولة وتستحق ان نوفر لها كل اشكال الدعم السياسي والمادي..
ثانيا) في الضفة الفلسطينية حين انتفض الشعب الفلسطيني امام الحواجز الاسرائيلية وبعض نقاط التماس، في مواكبة للانتفاضة العسكرية في غزه. وتكمن اهمية الضفة الغربية كونها المكان الذي على ارضها يمكن ان يأخذ شعار المقاومة الشعبية مداه الحقيقي بمواجهة المحتلين والمستوطنين. وما كان ينقصها فقط هو قرار سياسي رسمي يوفر لها الحماية والتغطية السياسية، كي لا يتم الاستفراد بأبنائنا من قبل جنود الاحتلال ومستوطنيه،
وكي لا تبقى الوحدة الميدانية مجرد شعار يتم استحضاره فقط في الازمات، مطلوب خطوات جدية لانهاء الانقسام، لأنه كلما تقدمت الانتفاضة الى امام، كلما تراجع نفوذ الاوسلويين، الذين لزموا جحورهم وغابت اصواتهم خلال ايام العدوان، بعد ان عاشوا خرابا وفسادا وعبثا بالقضية الفلسطينية، غير آبهين لا بشراكة ولا بحقوق وطنية ولا حتى بكل عناوين القضية الوطنية. ولا هم لهم الا ارضاء الامريكي والمحافظة على امتيازاتهم ومكاسبهم الشخصية والفئوية الضيقة التي تتناقض مع مصالح الاغلبية الكاسحة من الشعب الفلسطيني..
وبالتالي فان الصمود البطولي للشعب في القدس في تمسكه بأرضه ورفضه لاجراءات الاحتلال، يبقى ناقصا ومحدود التأثيرات ما لم يتم اسناده بحركة شعبية من مختلف مدن وقرى الضفة الغربية، رغم الملحمة الرائعة التي قدمها شعبنا في القدس واثبات قدرته على قيادة حركة كل الشعب، حين قرر الآلاف من الشباب والنساء والأطفال وبدون قرارات فوقية في تحمل المسؤولية في حماية عروبة المدينة وهويتها الوطنية ومقدساتها بصدورهم، باعتبارها عاصمة لدولتهم الفلسطينية.
ثالثا) في الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 حيث انتفض شعبنا هناك ضد نظام الاجرام والقتل والتمييز العنصري، وافشلوا محاولات تحويل الشعب الفلسطيني الموحد إلى مجرد تجمعات سكانية، واسقطو كل مشاريع التهجير التي اقرها قانون الدولة القومية لليهود في “اسرائيل” عام 2018. وهو الامر الذي ارعب الاحتلال لدرجة اعتبار احد قادته “ان تحرك العرب في اسرائيل اشد خطرا مما يجري على حدود قطاع غزه” ، وقد كان واضحا ان الممارسات والقوانين العنصرية باتت تشكل خطرا جديا على شعبنا في اراضي عام 48 تتطلب عدة تحركات شعبية توجت بالمسيرة الكبرى التي شهدتها مدينة ام الفحم في شهر آذار الماضي..
رابعا) في مخيمات اللجوء والشتات وبلاد الاغتراب، حيث ارتفع صوت فلسطين وأصدقاء فلسطين مدويا في وجه عواصم الدعم الاعمى لدولة الإرهاب الصهيوني. وهذا ما يدعونا الى ضرورة تغيير نمط التعاطي مع “الشتات الفلسطيني” وعلى قاعدة استراتيجية عمل واضحة تخاطب شعبنا في الشتات والمهاجر، وتأخذ بعين الاعتبار واقع المكونات السياسية لكل تجمع، وتنطلق من التالي:
– على مستوى دائرة شؤون اللاجئين المعنية بالتواجد الفعلي في جميع البلدان التي تضم اعدادا كبيرة من اللاجئين(الاردن، سوريا ولبنان)، وبهدف الوقوف على مشاكلهم السياسية والاقتصادية بالتعاون مع السفارات الفلسطينية والمكونات المختلفة لشعبنا..
– على مستوى دائرة شؤون المغتربين المطالبة بصياغة خطة عمل تحاكي جالياتنا المختلفة، في اطار واقعها وخصوصياتها، والاسهام الايجابي في تطوير اوضاعها، ووقف العبث بأوضاعها، بل افساح المجال امامها للتعبير عن وطنيتها بعيدا عن التدخلات الفئوية..
– تشغيل بعض دوائر منظمة التحرير المعنية بالتواصل مع الحركات الشعبية العربية في اطار مواجهة عمليات التطبيع، وقد اكدت يوميات العدوان بان القضية الفلسطينية، ورغم كل ما بذل من مساعي سياسية واعلامية وثقافية لحرف بوصلة شعوبنا باتجاه صراعات وهمية ومفتعلة، ظلت القضية بنظر شعوبنا العربية قضيتها المركزية.
لقد اكدت ايام العدوان عدم صدقية دول التطبيع العربي في التبريرات التي ساقتها كذريعة لاتفاقات التطبيع مع العدو بأنها تريد ان تفتح نافذة مع العدو تخدم الشعب الفلسطيني وحقوقه، ليتأكد اليوم محدودية تأثيرها بل غيابها وبشكل كامل عن دائرة الحدث. وهذا ما يطرح فرضية ان يكون هذا التعاطي امرا متعمدا بسعي هذه الدول الى الخروج التدريجي من دائرة الدعم العربي، نزولا عند رغبات اسرائيلية واضحة بعدم تعكير صفو التطبيع.
ان الانتصار الذي تحقق في غزه ما كان ليحصل لولا تلك الوحدة التي تجلت على المستويات كافة: وحدة ميدانية لفصائل المقاومة الفلسطينية والاجنحة العسكرية في القطاع، ووحدة جميع مكونات الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، ووحدة بين الشعب والمقاومة. ولا نأتي بجديد حين نقول ان هذه الوحدة ستكون خلال الفترة القادمة موضع استهداف مباشر من اسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما، بهدف افراغ الانتصار الذي تحقق من مضمونه الفعلي وبعدم السماح المراكمة عليه بانجازات سياسية لاحقة، فهل هم مدركون لكل ما يجري من حولنا؟
فتحي كليب / عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين