سؤال لا يرد فحسب على بال كل فرد من الشعب التركي بعد الهجوم الإرهابي الذي تعرّض له أعظم الأهداف الحساسة في “إستانبول” بل في كل “تركيا” -المتمثل بمطار “آتاتورك” الدولي- مساء الثلاثاء الدامي (29/حزيران/يونيو/2016) أحد أهم مفاصل الإقتصاد التركي المتنامي، بل يُراود أي متتبع لشؤون هذا البلد القويّ سواءً في الجوار أو المنطقة أو الوطن الإسلامي ومعظم العالم القائم… والإجابة عليه تطول إذا ما إبتعدنا عن (نظرية المؤامرة والصنيعة والدسيسة)، والتي لا أؤمن بها كثيراً وأحاول النأي عنها قدر إستطاعتي.
فهذه الهجمة الإرهابية في “تركيا” ليست الأولى من نوعها خلال عام إنقضى، وسوف لا تكون الأخيرة -كما تبدو من تلاحق الأحداث- ولكنها الأكثر دموية، فقد كانت:-
• غاية في إنتقاء الهدف والتخطيط المتقن لدى الإقتراب منه والتنفيذ الجريء عند إقتحامه بواقع (3) مسلحين إنتحاريين -حسبما قيل- حققوا خسائر في الأرواح وتهرؤاً للأجساد، وغالبيتهم العظمى من المدنيين الأبرياء، ناهيك عن الدمار وإستجلاب الإهتمام الواسع لوسائل الدعاية والإعلام.
• إستهدفت رمزاً عظيماً تحوم في سمائه بحدود (1,000) طائرة ركاب ضخمة ما بين إقلاع وهبوط، وتسير في أروقتها ما يقارب (250,000) من البشر ما بين ذاهب وآيب، ومثلهم من المستقبلين والمودّعين، ولذلك يُفترَض أن يكون مُراقـَباً ومحصّناً ومحمياً للغاية، فيما تميَّزَت الأهداف السابقة بكونها ذات طابع أمني كمخافر الحدود النائية ومراكز الشرطة والمباحث إلى جانب عدد ضئيل من المواقع المدنية الصرف كمحطات المترو وسط العاصمة “آنقرة”… وبذلك بانت الهجمة على مطار “آتاتورك” الدولي عظيم الأثر على المعنويات، ولربما راودت الشعب التركي شكوك معمّقة حيال إمكانات أجهزته الأمنية والمخابراتية -المعروفة بكفاءتها العالية- على مقدرته لتجاوز الأخطاء والهفوات قبل تنفيذ الإرهابيين لمآربهم.
• ذات توقيت مدروس بعناية من حيث إكتظاظ أعداد المسافرين والقادمين ومودعيهم ومستقبليهم، والأهم من ذلك إقتراب موسم السياحة الصيفية التي تعقب شهر رمضان، إذْ يستحضر أهالي المناطق التي يتضورون في أتون جحيم موسم صيفهم القارض في بلدانهم للتوجه إلى “تركيا” بواقع ملايين عديدة، ما يحرم الإقتصاد التركي خسائر هائلة تقدّر بالمليارت.وما ينبغي تبياته في هذا الشأن أن “تركيا” أُبتـُلِيَت بالإرهاب منذ تجرّأ “حزب العمال الكردستاني” -المعروف إختصاراً بـ(PKK)- على حمل السلاح ضد الدولة في جنوب شرقيّها، مُطبّـقاً أساليب “حرب العصابات” وسط مناطق جبلية صعبة بتكتيكات الكرّ والفرّ، قبل ما يزيد على (3) عقود، ودارت في تلك البقاع معارك دامية وضعت أوزارها بعض الشيء لمـّا أُجبِرَ مسلّحوه على ترك الأراضي التركية والتوجّه إلى شمالي “العراق” شريطة تسليم أسلحتهم.ولكن الواقع الميداني أنهم عبروا الحدود التركية بمعظم أسلحتهم -فكان غلطة إستراتيجية هائلة لا تـُغتَفَر- وإحتفظوا بها في “سيدَكان، وجبل قنديل” وسواهما في أقصى أقاصي “العراق” ببقاعها العصيبة للإفادة منها في قادم الأيام… فأمسى السلام هشاً وقابلاً للإختراق وقتما تتخذ قادة (PKK) قراراً معاكساً في أية فرصة سانحة… وقد حصل.
وفي الوقت ذاته إنعدم الإستقرار في جميع البقاع السورية المتاخمة على طول حدودها مع “تركيا” منذ إندلع ما يُسمّى بـ”الربيع السوري” عام (2011)، فدعمت “آنقرة” المعارضة السورية المسلّحة ممثلة في “الجيش السوري الحر” -الذي كان في بداياته موحَّداً تحت قيادة واحدة ملتزمة- ضد نظام “دمشق” علانية، فباتت تلك المناطق -بإنقضاء الأيام- مرتعاً للمتطرفين الذين تدفقوا عليها من كل حدب وصوب، حتى تَجَـزّأ “الجيش الحر” على هواه إلى “جيوش”، وبات عدد فصائله بالعشرات وتفرّق وفقاً لمآرب هذا ورؤية ذاك، فساب مبدأ “القيادة والسيطرة”.وخلال هذه الفوضى -غير الخلاّقة- إنبثق “تنظيم الدولة الإسلامية” المتطرّف للغاية والمسمّى إختصاراً بـ”داعش”، فمسك زمام المبادرة وتوسّع سريعاً وبشكل مُرعِب في (ثلث) “سوريا” قبل أن يكتسح (40%) من أرض “العراق” في غضون أسابيع معدودات، فإرتهب العالم بأجمعه وتحشّد لمواجهته وشكّل “تحالفاً دولياً” -على علاّته وضآلته والمآخذ المثبتة عليه- وقد تزعّمته “واشنطن” -كعادتها- بتمويل عربي، ولكن ليس لسواد عيون دول الشرق الأوسط -كما يدّعون- بل لدرء خطر الإرهاب كي لا تصل شروره إلى “آوروبا” التي تمثـّل خط الدفاع الأمامي عن الولايات المتحدة، ولغرض التخلّص من الأسلحة القديمة والأعتدة والمعدات الآيلة إلى التفسّخ والإنقراض مقابل أثمان باهظة.
وقد حاولت “تركيا” أن تبقى بعيدة عن (داعش) قدر المستطاع، ولكنها إضطرت -تحت ضغوط سياسية- من فتح “قاعدة إنجرليك” الجوية أمام طائرات ذلك التحالف وجعلها منطلقاً لضرب أهداف هذا التنظيم في كل من “سوريا والعراق” معاً.
ورداً على ذلك الموقف أعلن “تنظيم الدولة” بأن كل أرض الدولة التركية ومصالحها في كل العالم أضحت أهدافاً لمسلّحيه وتابعيه… وفي توقيت شبه متزامن تراجع (PKK) خلال عام (2015) عن الهدنة مع “آنقرة” من جانب واحد ليضيف عدواً شرساً ثانياً حيال “تركيا”، وعليها أن تجابههما في عقر دارها… وبذلك وقعت الوقائع وجرت الهجمات مستهدفة مواقع عسكرية وإقتحامات مسلّحة لمراكز شرطة ومخافر حدودية، ناهيكم عن قطع طرق المواصلات البرية مع دول الجوار، وقبل إيقاع تفجيرات دامية ومؤذية وسط المدن والبلدات ذات الأغلبية الكردية حتى إنتقلت إلى “آنقرة” قبل “إستانبول”، وآخرها ما حصل يوم (الثلاثاء الدامي 28/6/2016).
إذن فالوضع ليس مُريحاً ولا بد من حلّ… ولكن كيف؟؟؟
• فهل يمكن إمحاء عناصر (PKK) و(داعش) من الوجود في “تركيا” بإستثمار القوات المسلّحة لدى الدولة؟؟؟ فذلك من عداد المستحيلات، ولدى العالم أجمع شواهد سابقة في التأريخ، وبالأخص خلال القرن العشرين… نستذكر منها حروب العصابات في “كوريا، فييتنام، العراق، آيرلندا الشمالية، السودان” إضافة عشرات الأمثلة التي يطول ذكرها… الجواب (كلاّ).
• وهل من المستطاع غسل أدمغة المتطرفين من عناصر (PKK) و(داعش) من براثن التطرف وإستخدام السلاح لتحقيق أغراض، أو فرض شروط، أو لمجرد الإيذاء والثأر والإنتقام؟؟؟… الجواب (كلاّ).
• وهل بإمكان “تركيا” فرض الأمن في متون أراضيها المتاخمة لشريط حدودها الشاسعة بواقع (750) كلم مع “سوريا”، أو فرض “منطقة عازلة” تحت مظلّة الأمم المتحدة هناك، فلطالما نادت بها منذ (4) سنوات، كي تمنع تسلل الإرهابيين؟؟؟… الجواب (كلاّ).
• وهل تتنازل “تركيا” قبالة (PKK) و(داعش) من رؤاها بغية تهدئة الأوضاع والمباشرة بالتفاهم معهما لحقن الدماء والتصالح؟؟؟… الجواب (كلاّ).
• وحتى لو أقبلت “آنقرة” على مثل تلك الخطوة (المستحيلة)، فإن الخصمين ليسا بموقف إستراتيجي أو عملياتي صعب بحيث ترغمهما “تركيا” للجلوس على مائدة المفاوضات… وهما عنيدان -بما لا يقبل الظن- لدرجة لا يمكن أن يتصور أحد معها أن يتقرّبا من حدود التفاوض.
• ووسائل الإعلام العالمي والمناطقي المرئية والمقروءة لا تستجلب على ألسنتها سوى المتطرفين (الإرهابيين)، وخصوصاً الإسلاميين منهم، وبالأخص (داعش والقاعدة) وقتما تقع مثل هذه الأحداث وأشباهها في أي موقع من الكرة الأرضية، في حين تستبعد أي شيء سواهما… ولكن إذا ما تعمّقنا بعض الشيء وطبّـقنا المبدأ الأمني القائل (إبحث عن المستفيد فقد تصل إلى معظم الحقيقة) وفقاً للنقاط البارزة الآتية:-
1. “سوريا روسيا” تفيدان من تراجع قوة “تركيا” في المنطقة، حيث تحقق مثل هذه العمليات ثأراً لما توجهانه نحوها من تـهم في دعم مناوئي “دمشق”… ونظام الرئيس “بشار الأسد” سيحتفل بكل زهو وفخر لو حصل مُنكَر بحق “تركيا”.2. “روسيا” يمكن أن تعدّ أمثال هذه الهجمات إنتقاماً لمصرع قائد طائرتها الهجومية “سوخوي-24” التي أسقطها الأتراك، فضلاً عن تفضيلها أن يصيب خصمه التأريخي والدولة الثانية في حلف (N.A.T.O) الشرور وعدم الإستقرار.
3. “إيران” تتمنى أن تـُصاب “تركيا” بأعظم الأذى كي تتدنى إمكاناتها الإستراتيجية والإقتصادية، فلا تعدو نـِدّاً لها، أوانئذ تتمتع “طهران” بحرية أوسع للتحرّك بالمنطقة.
4. “العراق الحالي” يتناغم وفقاً لنهج “إيران” بلا رَيب.
5. “اليونان، ودول البلقان، وأرمينيا” تحتفل من أعماقها إذا أُصيبت “تركيا” بأذى واسع ينهكها، لما من أحقاد وضعائن حيالها.
6. أما “إسرائيل” فهي المستفيدة الأعظم، كونها ترغب من الصميم أن تـُصاب “تركيا” بأفدح قدر ممكن من الخسائر في كل شيء… فمصرع أي مسلم -حتى لو كان طفلاً- من دون أن تقذف “تل آبيب” ولو طلقة واحدة ولا تصرف من خزينتها “شنكلاً” واحداً- لهو مَربَح عظيم لها وإنقاصٌ لجندي مسلم واحد من عديد جيوش المسلمين في المستقبل… كما أنها لم تـَنسَ إهانة الرئيس “رجب طيب أردوغان” لشخص رئيس دولتها “شيمون بيريز” أمام العالم أجمع في “مؤتمر دافوس”، وتسيير “تركيا” لأسطول بحري كبير محمي لإغاثة سكان “غزّة”… فالمعروف عن اليهود أنهم عادة ما يرجئون إنتقامهم من دون نسيانه حتى يحين الحين… فحان الحين.
ولكل ما أوردناه، فليس أمام “تركيا” سوى:-• عدم اللجوء إلى الإعتقالات بالجملة تطبيقاً للآية الكريمة:- ((ولا تـَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى))… أو إلقاء العشرات في السجون لمجرد الإشتباه في إنتماءاتهم وتصرفاتهم، إبتغاءً لـ(قطع الشك بإفتراض اليقين)، فمثل هذه الإجراءات تستجلب الأحقاد والفرقة بين طوائف الشعب الواحد وأطيافه وأعراقه، وقد تودي بالبعض من المحايدين لينتموا لهذه الجهة المتطرفة أو تلك، فيتضاعف عدد المناوئين للدولة وتصعب معالجتهم.
• النأي عن الإنتقام الجماعي -على الآية نفسها-بضرب عنيف جواً وبراً لأهداف لا علاقة (مباشرة) بها مع من قاموا بالتخطيط لعملية ما وأشرفوا على تحقيقها في مكان ما… فمثل هذه الخطوات عادةً ما تـُرَغِّب من يمتلك أحاسيس سطحية إلى تصعيد مشاعره كي ينتمي بفاعلية في صفوف تنظيم إرهابي.
• ترسيخ اليقين بأن أنجع الأساليب للحد من ظاهرة الإرهاب والتطرّف في “تركيا” هي:-
1. تقوية أجهزتها الأمنية الداخلية والمخابرات الخارجية، والتخطيط المتقن بهدف إختراق صفوف هؤلاء الخصوم لإنهائهم في أوكارهم أو القبض عليهم متلبّسين بالسلاح والخطط قبل مباشرتهم بتنفيذ مآربهم.
2. تهيئة مجاميع من القوات الخاصة المدربة خصيصاً لمواجهة الإرهابيين وتخليص الرهائن بأقل الخسائر، ترابط على شكل مفارز صغيرة في زوايا المواقع الحساسة، وتكون متأهّبة على مدار الساعة للمهمات الصعبة.
3. التـَيَقـّن بأن الحرب مع (P.K.K) و(داعش) داخل الأرض التركية -وتسمّى عسكرياً بـ”عمليات الأمن الداخلي”- لا يمكن إدارتها بإستثمار ما لدى الدولة من الإمكانات المسلحة لوحدها -كما يعتقد البعض من الذين لا يفقهون إستراتيجية هذا الطراز من الحرب، وكثيراً ما يتبجّحون بشنّها- بل هناك أساليب ترغيب بالمال والجاه والنفوذ والمناصب ومنح الممتلكات تتفوق كثيراً على وسائل الترهيب والقتل، فتتمخض عنها نتائج باهرة وسريعة بأدنى إراقة للدماء وإحداث الخراب والدمار وهدر الأموال الضخمة وإضاعة الوقت ومزيد من الجهد وتصعيد الأحقاد والضغائن بين حلقات الشعب الواحد والوطن الموحّد… فأهوال الحروب والمعارك ليست في أوارها والتضحيات الهائلة والموازنات الضخمة من أجلها، بل أن الأعظم ما تخلـّفه من اليتامى والأرامل والثكالى والمكلومين والمعوّقين والعاطلين عن العمل والمنازل المهدّمة والبنى التحتية المعدومة‘ وسط إقتصاد متراجع جراء الحرب، مضافاً إليها أعمال عصابات وجرائم بسبب الجوع والحرمان.