” ان الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان”
– أبو الوليد ابن رشد-
يسعى محب الحكمة نحو المعرفة ويتدرب على السير في نهج الحقيقة والوقوف على مسلك الفضيلة الأخلاقية ويحاول أن يجمع في ذلك بين فن الحياة وفن التفكير وبين الاقامة في العالم وبناء عالم جديد. لعل التفكير الفلسفي بشكل ملموس ينطلق من الواقع الملموس ويمس شيئية الأشياء ووجود الكائنات ويصل الى امتلاك معرفة خاصة ومتميزة عن بقية المعارف الأخرى.
بناء على ذلك يتمثل الحرص الشديد للفيلسوف في تنظيم المعارف الجزئية المكتسبة وحدس الفكرة الشاملة وبناء النسقية العامة والمنظومة الكلية للتصورات والأحكام والمعايير وبلوغ الروح المطلق. وتتمسك الفلسفة في عملها بإتباع المنهج وحسن قيادة العقل وتوجيه الفكر نحو الحق وصيانته بالمنطق والإرادة من الوقوع في الزلل وارتكاب الحماقات والاصطدام بالخلف والامتناع.
هكذا يبدو التفلسف كجهد لتوضيح الفكر وإبداع المفاهيم وترميز النواة الابداعية الخلاقة للثقافة والعودة الى عالم الحياة والاحتكام الى التجارب والخبرات والتمسك بالمنطلقات والذهاب في عمق الاستتباعات وتجذير الاشكاليات وتقليب الأمور على جميع وجوهها وتصويب المطالب نحو عيون المسائل والإبحار في دنيا العلوم وبحار اليقين وقصور البداهة وملكة الصواب والتطابق. يقوم المشروع الفلسفي على تمشيات التهكم والسخرية والجهل الحكيم والتوليد والجدل والتأمل والعرفان وينعطف نحو التعقل والتدبر والشك والارتياب والتظنن والمراجعة والنقد والتصحيح.
لا تقتصر مهمة الفلسفة على تقديم نظرية في الوجود ونظرة للعالم بل تتعدى ذلك نحو تأسيس المدينة والانشغال بفهم الغير والعناية به وتجسير التواصل بين العناصر والمكونات المتنافرة .
يتخلى الفيلسوف عن حكم العادة ويتحرر من سلطان الفكرة الأولى ويجعل من البناء ديدنه ويسرع الخطى نحو الفوز بالمزايا والمآخذ من كل شيء يلتقي به في الطريق ويصعد بالإنسان نحو المراتب العليا ويضع الحرية في مقام رفيع ويرفع لواء الفكر النقدي وشراع الذات الفاعلة.
غني عن البيان أن التفكير الفلسفي يغزو المناطق المظلمة ويستكشف الكهوف المقفرة وينير المسالك الوعرة ويستثمر المتاهات والردوب ويعيد تشفير الألغاز التي كتبت بها ألواح الطبيعة.
في نهاية المطاف ممارسة فعل التفكير الفلسفي بشكل فريد يقتضي التحقق الفعلي للنظرية الفلسفية في الحياة اليومية تمردا على التصحر والارتداد وثورة على الطبقات السلطوية السميكة وإعلان للعصيان على كل أشكال الوصاية والقصور والتبعية والإلحاق والانتداب والوكالة الفكرية.
لكن ماذا يمكن أن تكون الفلسفة اليوم عندنا ؟ وفي أي مظهر يتجلى الفعل الفلسفي الآن وهنا؟
كاتب فلسفي