يُـمكن القطع بأن العراقيين ينقسمون إلى تيارين عريضين في هذا الصدد. وكنوع من التبسيط، يمكن القول أن كل من يقف في صف المشروع الأمريكي بكل تفاصيله، يقف في الصف المناهض لمشروع المقاومة، فيما يصطَـفّ على الجانب الآخر، كل رافضي هذا المشروع والأحلام والتمنيات والخطط التي جاء بها الأمريكيون للعراق وللوطن العربي والمنطقة كلها.
لا زالت الآراء متباينة في صفوف العراقيين بخصوص توصيف وتقييم أعمال المقاومة المسلحة ضد القوات الأجنبية في العراق
كثيرا ما يتردد على ألسنة المراقبين ومتابعي الشأن العراقي، أسئلة عن مستقبل المقاومة العراقية وطبيعتها وهويتها.
وتظل هذه الأسئلة مثار حديث الناس، ما دامت العمليات المسلحة قائمة في هذا البلد الذي يخضع فعليا لاحتلال عسكري أمريكي بأكثر من 150 ألف جندي.
ولما كان من حق أي شعب يتعرض للاحتلال العسكري، خوض حرب مقاومة ضد ذلك الاحتلال، فإن العراقيين شأنهم في ذلك شأن سواهم. ولكن التساؤل يظل مطروحا: “أية مقاومة يحتاجها العراق اليوم ليتحرر من قيود الاحتلال الأمريكي المباشر وغير المباشر”؟
إنها بالتأكيد – مثلما يرى كثيرون – تلك المقاومة المشروعة التي تجمع العراقيين كلهم في إطار وطني واحد، بمعنى أنها تصهر الجميع في بوتقتها لتكون مقاومة عراقية وطنية خالصة ضد المحتل، الذي يستهدفهم حاضرا ومستقبلا.
وهنا، يتعين الاشارة إلى أن هناك فروقا جوهرية كبيرة بين ما يُـسمّـى حق العراقيين في الدفاع عن بلادهم بالمقاومة المشروعة، عسكريا وسياسيا، وأعمال العنف والتدمير والإرهاب التي بات العراق “ميدانا متقدما لها”، بحسب التعبير الأمريكي.
قد يكون صحيحا القول أنه حتى أكثر الناس تفاؤلاً بمسارات الحرب في العراق، لم يكن يتوقّـع أن تندلع المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال بتلك السرعة التي انطلقت بها.
فقد تصور كثيرون هنا وهناك أن وقتا طويلا سيمضي قبل أن يفيق العراقيون من هَـول الصدمة، ويحملوا سلاحهم ليردوا قوات الاحتلال عن بلادهم، بل ذُهل كثيرون في العالم بما حدث في وقت قياسي.
فالعراقيون لم يكتفوا بعدم استقبال الغزاة بالورود، كما بشّـرت زعامات المعارضة المقيمة في واشنطن ولندن وطهران، وإنما أضافوا إلى ذلك غضباً تحوّل سريعا إلى رصاص وقنابل وصواريخ، وضعت مخططات الاحتلال أمام مأزق حقيقي دفعها إلى التراجع مرة إثر أخرى، وأربك كثيرا من خُـططها، سواء تلك المتّـصلة بترتيب أوراق احتلالها للعراق أو بالبرنامج التالي لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط والهيمنة عليها بأسْـرها.
ولتفسير عُـنصر المفاجأة في سرعة انطلاقها، قد يكون صحيحا القول بأن المقاومة الجارية حاليا تم التخطيط لها مسبقا، حيث يُـصرُّ الأمريكيون وحلفاؤهم من العراقيين على اعتبار أن معظم أعمال المقاومة المسلحة، تُـنفّـذه عناصر مرتبطة بالنظام السابق والقوات المسلحة العراقية بكل صنوفها وتنظيمات حزب البعث السابقة.
وقد بدأت عمليات المقاومة بشكل فردي في الأيام الأولى، وظلَّـت تتراوح بين مواجهات متفرقة هنا وهناك لبضعة أسابيع، تخللتها ردود فعل عنيفة من قبل قوات الاحتلال كانت تزيد النار اضطراماً، إلى أن جاءت قصة مدينة الفلوجة مطلع شهر مايو 2003، حين حاول سكان المدينة إقناع المحتلين بالخروج بسبب ممارساتهم المتناقضة مع أخلاقيات المدينة المحافظة، وخرجوا في مسيرة واجهها المحتلون بالرصاص، فسقط من المتظاهرين 13 شهيداً وبضع عشرات من الجرحى. وفي اليوم التالي، صحا سكان الفلوجة على مشهد قافلة أمريكية شاهدها الناس وهي تحترق.
وإذا كانت هذه هي البداية، فما هو مستقبل المقاومة العراقية وإلى أين تتجه؟ ومع أن أحدا لا يمكن له أن يقطع بشيء في موضوع كهذا، إلا أنه من المُـفيد بالتأكيد، البحث فيه تلمسا لحقيقة هنا وأخرى هناك.
يرى المراقبون المؤيدون لمفهوم المقاومة المسلحة إن قواها ستُـبلور أدواتها العسكرية والسياسية والتنظيمية على نحو أفضل بمرور الوقت، برغم أنهم يعترفون بأن التطور، أداءً وتنظيماً وقُـدرات، سيتزامن بالتأكيد مع تطور قُـدرة الاحتلال على مُـطاردتها واختراقها، وبث العيون خلف رموزها وفعالياتها، غير أنهم يشيرون إلى جملة من تجارب الشعوب التي تعرّضت إلى ما يتعرّض له العراق من احتلال، مؤكّـدين أن التجربة الواقعية تقول، إن مسار المقاومة غالباً ما يشتَـد عوده مع استمرار التضحيات واتساع التجارب.
وبرغم أن المرجعيات الشيعية الكبرى ترفض، حتى الآن، العمل المقاوم للاحتلال، بل إنها تنسجم مع مخططاته أحيانا، فإن العامل الأساسي في التطور النوعي والكمّـي للعمليات المسلحة، يكمُـن في انضمام قوى شيعية إلى مسارها، لأن من شأن ذلك أن يُـضيف دماءً وقدرات جديدة، ويسمح لنشوء حركات مقاومة وطنية لا تفرقها الخلافات الطائفية التي يسعى البعض لإشعالها في العراق الجديد.
ويعتقد الدكتور سلمان الجميلي، الباحث في مركز الدراسات الدولية بجامعة بغداد أن أي تصور مستقبلي للمقاومة العراقية يتطلّـب النظر إليه من خلال المشاهد المستقبلية الثلاثة التالية، المحتملة لحالة الاحتلال في العراق:
– الأولي، استمرار الاحتلال، ويرتبط هذا المشهد بجملة من معطيات الساحة العراقية المتقلبة. وهذا المشهد سيقود إلى أحد احتمالين: اتساع نطاق المقاومة لفشل الاحتلال في تنفيذ وعوده وبما يقود إلى إفراز قيادة موحدة للمقاومة، قد تصل إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة تكتسب اعترافا ودعما عربيا ودوليا، وإذا لم تتّـسع المقاومة وبقيت محصورة في مناطق معيّـنة في ظروف نجاح المحتل توظيف عناصر موالية في الداخل للحرب بالنيابة عنه، كما يجري الآن بالفعل، فإن ذلك سيقود إلى إغراق البلد في فتنة داخلية ضمن استراتيجية إنتاج الفوضى، وإدارتها بما سيكون لها من آثار سلبية على شعب العراق.
– الثانية، انسحاب قوات الاحتلال وتسليم السلطة للعراقيين. وإذا حصل هذا الاحتمال، فسيكون بشكل نسبي قد لا يُـغيّـر من حقيقة الاحتلال الذي يتحوّل إلى علاقة تحالف، إما المقاومة وفق هذا المشهد، وإما أن تتحول إلى العمل السياسي. وبسبب من رصيدها المشرف في نظر شعب العراق، فسيكون لها وزنها في طرح مطالبها يؤهلها في المستقبل لدور أكبر بروزاً كقوة سياسية.. أو احتمال تبلور التيار المتشدد الأكثر تطرفاً، حيث ينظر إلى كل من يتعامل مع قوات الاحتلال على أنه عميل ومتعاون ويجب جهاده، بما في ذلك الحكومة التي ستكون صنيعة للاحتلال.
– الثالثة، تسليم السيادة للعراقيين، وانسحاب القوات المحتلة إلى قواعد عسكرية. وهذا المشهد، هو الأكثر احتمالاً، ويُـرتب احتمالين: أولهما، استمرار عمليات المقاومة بشكل نوعي ومنظم من خلال استهداف القواعد العسكرية وكل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتلك القوات. وثانيهما، تحول المقاومة إلى قوة لا يُـمكن تجاوزها، وبالتالي، ستضطر قوات الاحتلال، بواسطة بعض القوى السياسية، إلى فتح قنوات اتصال معها ومساومتها في بعض المطالب، مقابل تهدئة الأوضاع، وهذا سيكون اعترافاً ضِـمنياً بالمقاومة، وبما يؤدي إلى جنوحها للاعتدال في مطالبها، وبجعلها ترضى ببعض المكاسب التي تتوافق مع موازين القوة على الأرض .
غير أن هذه التصورات الثلاثة تبقى محكومة بالكيفية التي ستتصرف بها قوات الاحتلال في المستقبل، وخاصة في أعقاب الانتخابات المقبلة وتشكيل حكومة عراقية منتخبة. لكن تجربة التعامل مع القوى المسلحة في سامراء، وتللعفر، والموصل، والنجف، وأخيرا في الفلوجة، تفصح عن كيفية التعامل الأمريكي والحكومي المستقبلي مع القوى العراقية التي تعتمد خيار المقاومة المسلحة في عملها.
أما الدكتور مثنى حارث الضاري، المتحدث بإسم “هيئة علماء المسلمين في العراق” التي تُـعد المرجعية الدينية الرئيسية لأهل السُـنّة في العراق، فيتحدث عن إمكانية اتساع نطاق المقاومة المسلحة في المستقبل، بفعل عوامل عديدة، أهمها، ازدياد الضغط الأمني للقوات الأمريكية وسياساتها الجائرة التي تعمل على تفجير مرجل الغضب العراقي في مناطق كثيرة من البلاد، فضلا عن تردي الأوضاع المعيشية، وتفاقم حالة البطالة، وأخيرا تنامي ثقافة المقاومة لطرد المحتل.
ويشير الدكتور الضاري إلى حقيقة أساسية، مفادُها أن الجماعات المكَـوّنة للمقاومة المسلحة تجمع على هدف مشترك، وهو تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي دون التطلّـع إلى فرض نظام حُـكم معين، حتى عند الجماعات الإسلامية (التي يعتقد المراقبون أنها تشكل الغالبية العظمى من المجموعات المسلحة)، فمقاومة الاحتلال أينما وجد وطرده من البلاد وتحرير كامل التراب العراقي، هو هدف هذه الجماعات التي يبدو أنها لا تريد أن تطرح في هذه المرحلة مشروعا مستقبليا يبدو مبكرا إلى حد ما.
يمكن القول أن موقف المعارضين، (وهم خليط يشمل الذين قدموا مع القوات الأمريكية وعملوا في خدمتها، وأصحاب المشاريع ذات الطابع الطائفي والعرقي، ومن يُـوصفون بـ”المتأمركين” عموما) يتلخّـص في ضرورة منح الفرصة للقوات الأمريكية لإعمار العراق وتحويله إلى بلد يحكمه نظام ديمقراطي تعددي حر، على اعتبار أن هذا هو الهدف الأمريكي الذي استلزم “تجييش” نحو مائتي ألف جندي، وصرف عشرات مليارات الدولارات لغزو العراق.
ويعتبر أنصار هذا الفريق، العمليات المسلحة الجارية حاليا إرهابا ينبغي وقفه بكل الوسائل ومهما كان الثمن، فيما تساهم الأحزاب المؤتلفة في الحكومة حاليا بجُـهد استخباري وإسناد فعلي للجهود الأمريكية في هذا الصدد.
ويرى انتفاض قنبر، الناطق باسم المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي أن “كل ما يجري الآن هو أعمال إرهابية”، مشيرا إلى أنه “حتى لو كانت هذه الأعمال موجهة ضد الأمريكان، فهي ليست إلا إرهاباً”.
ولا يرى قنبر ثمة مستقبل لهذه العمليات التي يرفض وصفها بالمقاومة، إذ يراها مجرّد أعمال بائسة، لأنها سوف لن تثمر شيئاً سوى الخيبة لأصحابها، ولأن من يقومون بها ليسوا حريصين على تحرير بلدهم، بل خائنون يريدون إرجاع السلطة السابقة ليقتلوا وينهبوا العراقيين، مضيفا أن “90% مما يحصل من عمليات إرهابية في العراق، يصدر من جهات عراقية تتبع نظام صدام، والـ 10% المتبقية تأتي من إرهابيي الخارج”، حسب تعبيره.
وبناء على هذا التصور، فإن هذا الفريق لا يعتقد بوجود مستقبل لما يجري حاليا من أعمال مسلحة، باعتبارها مجرّد أعمال إرهابية تريد العودة بالعراق إلى الماضي وليس لها أي منهج سياسي يمكن الاعتماد عليه.
ويواجه هذا الفريق أعمال المقاومة بمزيد من عمليات إلقاء القبض على العراقيين المنتمين إلى المؤسسات الأمنية أو العسكرية العراقية السابقة، وتصعيد الحملة الإعلامية ضد العديد من دول الجوار باعتبارها “المصدر الأساسي لتوريد الإرهابيين إلى العراق” حسب زعمهم.
وفي هذا الإطار، خاضت القوات الأمريكية والعراقية عملياتها الواسعة في الأشهر الأخيرة في مدن عراقية كثيرة، باعتبارها مدنا متمردة ومصدِّرة للإرهاب، وليس باعتبارها مدنا مقاومة ترفض الاحتلال وما جاء به ومن جاء معه.
وفي هذا السياق، يُُـفـهـم سياق الحملة المتصاعدة التي يشنها أركان الحكم العراقي الحالي على دول الجوار، وهي الحملة المتناغمة مع المواقف الأمريكية، وآخرها موقف الرئيس جورج بوش الذي وجّـه أشد التحذيرات إلى سوريا وإيران
بصرف النظر عن كلا الموقفين السابقين، يبقى السؤال الأكبر الذي يطرحه العراقيون: إلى أين تسير هذه العمليات المسلحة التي تشهد تصاعدا، كميا ونوعيا، بمرور الزمن؟
كثير من العراقيين يعتقدون أن هذه الأعمال لن تتمكّـن لوحدها من إخراج القوات الأمريكية من العراق، لكنهم يرون أنها تعضِّد أي عمل سياسي يؤدي بالنتيجة إلى ما يتمناه الجميع: عراق ديمقراطي موحد ومستقل.
فهل سيحصل هذا فعلا أم أن خيارات أخرى بدأت تلوح في الأفق؟..