15 نوفمبر، 2024 9:48 م
Search
Close this search box.

كيف يكتب تاريخنا.. ومن يكتبه ؟

كيف يكتب تاريخنا.. ومن يكتبه ؟

ـ يقول ابن خلدون: (إن التاريخ فن).. فيما يؤكد العلماء الغربيون: (إن الفن يعني العلم).

ـ ماديو القرن التاسع عشر يقولون: (يوجد علم واحد هو علم التاريخ.. وينقسم إلى تاريخ الطبيعة.. وتاريخ الإنسان).

ـ أما أصحاب الفلسفة ألكونية فيعتبرون (التأريخ كلّ شيء).. فكلّ ما عندنا هو من الأمس.. و”فلسفة التأريخ” كما يقولون: ليس “التأريخ وحده”.. بل أحد أهمّ العوامل التي شكّلت فلسفتنا الكونيّة.. لكونها “ختام الفلسفة” في الوجود.. فهي اليوم تمارس لتزوير التاريخ خدمة للأغراض المطلوبة.

ـ بينما المعارضون.. قالوا: (إن التاريخ مجرد كذبة).. وينسب الى نابليون بونابرت قوله: (بأن التاريخ هو مجموعة من الأكاذيب التي يجري الاتفاق عليها).. ويعززون آراؤهم بالعديد من الأمثلة التاريخية.. منها: قالوا للإمبراطور نابليون بونابرت: إن الجنرال …… اغتيل.. فسأل: ماذا قال؟ قالوا (انه كان يتأوه ألماً.. ومات ولم ينطق كلمة قط).. قال نابليون: سجلوا انه هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات قبل أن يلفظ أنفاسه).. وهكذا سجل التاريخ بأن الجنرال…… هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات قبل أن يموت!!.

ـ آخرون قالوا: (إن التاريخ يدونه القوي أو المنتصر أو كتبة السلطان).. مثال مجسد من محكمة نورنبرغ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.. فعندما تمت محاكمة قائد السلاح الجوي الألماني “هيرمان جورينج”.. قال له ممثل الادعاء أمام المحكمة:

ـ سيلعنكم التاريخ إلى الابد.. فردً عليه “جورينج” بهدوء:

ـ طبعاً لأنكم انتم من سيكتبه.. ولو كنا نحن المنتصرين.. لجعلنا التاريخ يلعنكم إلى الأبد!

من يكتب التاريخ؟:

ـ على مر العصور كان التاريخ السياسي يكتب من قبل أصحاب السلطة أو المنتصرين.

ـ أما التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي فلم يحظً باهتمام هؤلاء.. مع انه لا يعدو أن يكون إلا انعكاساً لسياستهم تلك.

ـ ومنذ العصور التاريخية القديمة وصلت إلينا مسلات حجرية وألواح طينية دَونً عليها الحكام والقادة العسكريون انتصاراتهم وانجازاتهم وفتوحاتهم.. لكن لا أحد منهم كتبً شيئاً عن هزائمه وانحداراته.

تاريخنا.. كيف كتب.. ويكتب؟

ـ لو رجعنا لكتب تاريخنا على سبيل المثال لا الحصر.. لوجدنا العجائب والغرائب والتناقضات.. بل بعض هذه التناقضات مكشوفة ومفضوحة.. ولا يمكننا رفض بعضها.. ونبقي بعضها.. الأنكى من ذلك نجد كتب التاريخ الخاصة بالسلطان فيها تناقضات.. مثلما نجد كتب التاريخ الخاصة بالمعارضة فيها تناقض فيما بينها.

ـ أما في تاريخنا الحديث والمعاصر فحدث بلا حرج.. فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك ثمانية روايات عن مصرع نوري السعيد (رئيس وزراء العراق في العهد الملكي).. عصر يوم 15 تموز 1958.. جميعها مختلفة فيما بينها.. وكلها تخالف الحقيقة والواقعة.. حتى إن البيان الرسمي الحكومي الذي أعلن من راديو بغداد بعد مصرعه لا يمثل الحقيقة البتة!!

ـ وسبقت هذه الحادثة موت الملك فيصل الأول.. فهل مات بسبب مرضه أم مات مسموماً؟.. لا اجابات محددة حتى الان؟؟

ـ وهل مات الملك غازي بسب اصطدام سيارته أم مات بفعل فاعل؟.. لا أحد يستطيع الجزم.

ـ ومثلها أحداث إعدام عبد الكريم قاسم ورفاقه ؟.

ـ ولا أحد يستطيع أن يجزم هل إن أحمد حسن البكر مات موتةً طبيعية.. أم مات مسموماً؟.

ـ كذلك مقتل الكثير من القادة في كل العصور.. وحتى الإنجازات وغيرها تجدها متناقضة.

 

ـ أما الرسائل والأطاريح الأكاديمية الخاصة بالتاريخ.. فهناك ما لا يصدقه العقل والمنطق والعلم.. فقد يكون المجرم في بعضها ناسكاً.. والعكس صحيح.. بالمقابل هناك رسائل علمية تثبت بواقعية الحقائق التاريخية من لدن مؤرخين أفذاذ.

ـ كل ذلك لا يعفي الباحثون والمؤرخون من التدقيق ما بين السطور.. ونأخذ منه الفائدةَ والعِظة.. فتاريخنا الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر.. حافلٌ وزاخرٌ.. وقد ساهم المسلمون بشكل وافر في الدِّين.. والأدب.. والطِّب.. والعلوم المفيدة الأُخرى.

ـ ولنا مِن الكلمات المأثورة.. والقصص المشهورة.. والحِكم المروية ما يُطرب ويُعجب.. وفي السياسة والحرب من الإرشادات والتنبُّه.. وضبط الأسرار.. والدقة في التعبير.. والتخلص من المآزق.. بأساليبَ رائعة.. وفطنة نادرة.

ـ ومَن يتأمَّل ما جرى على العَرَب في عصورهم المتأخِّرة.. يُدرك أنَّ من بين أسباب ضعفهم وهزيمتهم.. إعراضَهم عن دراسة تاريخهم.. وعدمَ أخْذهم العبرةَ والعِظة منه.

إعادة كتابة التاريخ:

ـ شعرً الرئيس صدام حسين بأهمية التاريخ لدعم نظامه.. فأعيدت كتابته وفقا لتوجهاته.

ـ وشهدً عهده أكبر عمليات تزوير وتزييف للتاريخ.. وجند صدام كل الكتاب والباحثين والمؤرخين.. سواء بالترغيب أم بالترهيب.. للكتابة كما يحلو له.. ومن يرفض أو يتقاعس فمصيره الإذلال والمهانة والتشهير حتى بشرفه.. ومن ثم تصفيته بطريقة ما.

ـ يقول الأستاذ المؤرخ حسين أمين رئيس لجنة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي.. إن صدام طلب علانيةً منه التخفيف والاختصار في موضوعة: (واقعة كربلاء ومقتل الحسين).. قلتُ كيف؟. هذا هو التاريخ ؟ لكن صدام حاول بشتى الطرق.. وأفلح صدام فيما بعد من رفع الواقعة من الكتب المدرسية.

ـ وهناك عشرات الأمثلة راح ضحيتها كتاب ومؤرخون ومبدعون عراقيون شرفاء.. فعلى سبيل المثال لا الحصر استخدم صدام كل وسائل الترغيب مع الكاتب عزيز السيد جاسم.. وفرض عليه كتابة كتاب له.. وهو أفضل الكتب عن شخصية صدام كتبه عزيز سيد جاسم .. وأخيرا اغتيل عزيز السيد جاسم بأمرٍ من صدام.

تجربتي في كتابة التاريخ:

ـ عندما نشرتُ (أنا كاتب هذه المقالة د. هادي حسن عليوي) رسالتي للماجستير.. (دور حزب البعث في العراق حتى 14 تموز 1958).. فقد نفذ من المكتبات 10 آلاف نسخة خلال ثلاثة شهور.. فلم يكن للبعث تاريخ مكتوب أو حتى موثق قبل رسالتي هذه.

ـ كذلك لم يكن للحزب الشيوعي العراقي كتب موثقة عن تاريخ هذا الحزب.. فقد وثق كتابي هذا أيضاً (تاريخ ونشاط الحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه حتى 14 تموز 1958).

ـ بعد مدة قصيرة مُنعً كتابي هذا بأمر من أمانة سر القطر لحزب البعث.. مثبتينً (37 ملاحظة.. بعضها خطيرة).. وكانت دار النشر قد طبعت كتابي هذا الطبعة الثانية في بيروت أيضا بموافقة دائرة الرقابة في وزارة الثقافة والإعلام.. دون أن تعلم الناشر بالمنعً.

ـ بعد دخول الطبعة الثانية لبغداد تم حجزها من قبل الدار الوطنية للنشر والتوزيع في بغداد.. وتم إحراقها بأمر من عبد الجبار محسن (وكيل وزارة الثقافة والإعلام.. اضافة الى انه كان أيضاً مدير عام هذه الدار وكالة).. وأنا متأكد إن عبد الجبار محسن ليس لديه القوة والصلاحية ليأمر بحرق كتاب.. بالتأكيد جاءت أوامر عليا بالحرق أو الإعدام للكتاب.

ـ تبين إن الآمر بمنع كتابي هذا.. هو (علي حسن المجيد) الذي كان أمين عام أمانة سر القطر لحزب البعث (آنذاك).

ـ عشتُ وضعاً قلقاً.. وحوربتُ بشكل لا يصدق حتى في دائرتي.. كثيرون حتى لا يسلموا عليً.. ولا يردوا على سلامي.. عجيب !!!

ـ بعد أكثر من سنة على حادثة حرق كتابي هذا.. حصل علي حسن المجيد.. على شهادة الماجستير بفكر البعث.. من جامعة البكر للدفاع الوطني.. وتبين أن الفصلين الأولين لرسالته هما نص الفصلين الأولين من كتابي الذي أحرق.. دون أي يصحح حتى الأخطاء المطبعية!! (ملاحظة هذا المجيد لم يكن حاصلاً على شهادة المتوسطة).

ـ وعندما نشرتُ كتابيً: عبد الكريم قاسم.. بجزئية.. الأول: (عبد الكريم قاسم الحقيقة).. والثاني: (محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم) أوائل العام 1990.. لم أسلم من الهجوم وشتى الاتهامات.. من بعض أزلام النظام.. تحت ذرائع شتى.

ـ السبب الحقيقي هو علمية وموضوعية كتابيً عن عبد الكريم قاسم.. هذين.. ونفاذ الكتابين من المكتبات بفترة زمنية قصيرة.

ـ وهكذا لم استطع في ذلك الزمان إن اعترض على سرقة مجهودي العلمي من قبل علي حسن المجيد.. واليوم لن استطع إن أعترض على متخلف لسرقته كتابي.. (أحزاب المعارضة العراقية 1968 ـ 2003).. الذي نشرته العام 2008.

ـ فاليوم أسوأ من الأمس.. فالخطف والقتل أسهل من شربة قدح ماء!!.

ـ إن سقوط نظام صدام كشف لنا زيف الحقائق والإحداث التي سوقها النظام آنذاك.. فعلى سبيل المثال: كشفت محاكمات رموز النظام السابق كذب النظام عما روجه وكتبه عن أحداث (الحرب العراقية ـ الإيرانية.. وقضية الدجيل.. والأنفال.. وتصفية ومطاردة وإعدام رجال الدين من السنة والشيعة.. وعمليات تهجير الكرد الفيلين المنظمة.. واحتلال الكويت.. والانتفاضة الشعبانية 1991).. وغيرها مما طرحه بأسلوب رخيص ومزيف.

ـ كذلك كتابة رسائل وأطاريح.. في هذه الفترة.. الكثير منها ليس تزييف التاريخ فحسب.. بل هي تافهة.. ويحصل أصحابها على درجة جيد جداً.. أو امتياز.. خشية بعض الأساتذة على أنفسهم من التهديد والخطف والقتل.

ـ أحدث قضية.. في أواخر العام 2018 صدر ليً أضخم كتاب موسوعي: (رجالات العراق الجمهوري من عبد الكريم قاسم حتى صدام حسين.. يتناول كاتبي هذا 70 شخصية لها تأثير في تاريخ العراق الجمهوري.. سواء كان هذا التأثير سلباً أو إيجاباً.. معتمداً على أدق تفاصيل سيرة هؤلاء الرجال.. وعلى أضابيرهم الشخصية.. وسلوكهم.. وقراراتهم.. وخطاباتهم.

ـ انطلقت السهام عليً.. فصحفي لم يقبل حتى في قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة بغداد كتبً يقول: د . هادي حسن سرق مني التاريخ.

ـ عضو القيادة القطرية لحزب البعث صلاح عمر علي.. كتب على مواقع التواصل الاجتماعي يهددني قائلاً: أن هادي حسن عليوي.. في كتابه الجديد زيفً تاريخنا.. وسوف نحيله لمحكمة الثورة عندما نعود للسلطة.

ـ آخر لا يعرف من تاريخ العراق سوى ثورة تموز 1958 حسب قراءاته.. يقول إن هادي حسن عليوي لم يعط قاسم حقه.. ولا ادري حقه (أمدحه أم أذمه).

(موتوا بغيضكم.. فالتاريخ يكتبوه المؤرخون الحقيقيون المهنيون.. وما يكتبه بعض الصحفيين والسياسيين وكتبة السلطان… قصصاً وروايات تاريخية.. قابلة للصح والخطأ.. لكنها ليس التاريخ)!!

القادم المجهول:

ـ الآن أنا على أبواب انجاز كتابي الجديد: (من المعارضة.. الى دفة الحكم).. وهو يتناول سيرة حياة 70 شخصية كانت معارضة.. استلمت السلطة بعد 2003 حتى اليوم.. لا ادري كيف سأنشره.. وهو فضيحة الفضائح.. موثقة.

ـ إننا اليوم أمام أخطر مرحلة من تزييف تاريخنا.. فالعديد من المسؤولين بعد 2003 كتبوا سيرهم وتاريخهم .. كجزء من تاريخ العراق المعاصر.. يا لها من جريمة بحق تاريخ العراق!!

ـ الأخطر هناك من يدعو لدراسة إمكانية إعادة كتابة تاريخ المرحلة السابقة.. ووضع أسس علمية في كتابة التاريخ.. فأية أسس علمية توضع.. والدولة والشارع يحكمه اليوم جهلة ومتخلفون وطائفيون.. بل بعضهم قتلة مع سبق الإصرار.

أحدث المقالات

أحدث المقالات