حين يتفرد موقف ما او سلوك معين عن الإجماع او شبه الإجماع لمجتمع او طبقة او نخبة ، فحينئذ ينظر اليه بالكثير من الغرابة باعتباره موقف او سلوك يشذّ عن المألوف أو المتعارف في لحظة تاريخية ما .
ولكن …ماذا لو كان ذلك (المألوف) أو المُشاع مبني على أسس لا تنتمي لمعتقدات الفرد والجماعة ؟
هنا ينبغي التوقف طويلا في دراسة السلوك المجتمعي الذي قد يأخذ شكل الظاهرة مستقبلاً ، وقد لا يُنتبه الى خطورة الإنحراف الا بعد فوات الأوان.
تميز الشيعة على مر التاريخ باتخاذهم جانب المعارضة سواء على المستوى السياسي او الاجتماعي . الأمر الذي القى بظلاله على مجمل المنظومة الفكرية لتلك الطائفة . وهذا واضح جدا في الأدبيات الشيعية القديمة والمعاصرة ، وهذا ما لوّن الهوية العقائدية لاتباع المذهب بمبدأ رفض الظلم ومقارعة الظالم ، وهذا جانب مشرق لا يمكن اغفاله ، وسمة ممدوحة حق لمن يمتلكها ان يفخر بها .وهو أمر تربى عليه الجيل الشيعيّ الأول واستمر في الاجيال المتعاقبة عن طريق قادة اهل البيت عليهم السلام ، وقد قيل :
لا تَقُـل شيعةٌ هواةُ علــٍّي
إنَّ كلَّ منصفٍ شيعـيـًا
هناك وجه آخر لعقيدة الولاء تلك ، ساقها بعلم او بغير علم بعض المنتفعين ممن امتهنوا الجانب السياسي في التاريخ الشيعي القديم والحديث ، من حيث قصر النظر الى مواقف قادة اهل البيت عليهم السلام ، فتصورا – وصورا للناس إمكانية الحصول عل نتائج افضل للتشيّع باتخاذ مواقف مغايرة لما كان عليه ائمة اهل البيت ، وتحت شعار موالاة اهل البيت !
ان الإطروحة التي جاءت بها الطبقة السياسية الحاكمة بعد 2003 المتمثلة في ( تصحيح مسار اربعة عشر قرنا من التاريخ ) كانت بحق اطروحة جاذبة للكثير ممن اكتووا بنار البعث العراقي طيلة اكثر من 35 سنة.
لكن ، كيف يكون هذا التصحيح ؟
وما هي آلياته ؟
وهل من المهم توافر شروط التصحيح بغض النظر عن مدى المطابقة لسلوك ائمة اهل البيت ؟ أم انه الأهم هم التعاطي مع الواقع بنوع من البراغماتية واستجلاب المصالح الآنية ؟
هل يمكن أن أعتبار المواقف التاريخية للمعصوم كنوع من المثالية اكل الدهر عليها وشرب ؟
هل من الضروري اقناع الذات والمجتمع بأن المعصوم معصوم ، فليس المطلوب من الفرد مسايرة الأطروحة العلوية الى ابعد المديات بحيث يؤدي ذلك الى خسارة المزيد من المكتسبات و”العودة الى المربع الاول” كما يعبرون ….؟
وهل يمكن أن يحمل الانسان فكرة ويؤمن بمعتقد دون ان يلقي ذلك بظلاله على مواقفه طيلة حياته ؟
ما فائدة الايمان بفكرة دون ان يُسمح لها بأن تطبق على ارض الواقع.
يردد اتباع مدرسة علي بن ابي طالب عليه السلام الكثير من الروايات التاريخية المتوارثة – والتي تشكل مصدر فخر واعتزاز لكل مسلم فضلا عن الشيعي … يسمع الإمام علي -عليه السلام- نبأ الاعتداء على ذمية في بلاد المسلمين، فيصيح (عليه السلام) قائلا: (لقد بلغني أن الرجل منهم، كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع قرطها وخلخالها، لا يمتنع منها.. ثم انصرفوا لم يكلم أحد منهم، فوالله لو أن امرأ مسلما مات من هذا أسفا، ما كان عندي ملوما؛ بل كان عندي جديرا).
ويسترسل ارباب المنابر الحسينية طويلا في المعنى العظيم لبكاء الحسين السبط على اعداءه كونهم يدخلون النار بسببه ، وكذا دعاء الإمام السجاد عليه السلام لاصحاب الثغور – وفيهم الموالي والمخالف لنهجه عليه السلام.
كل ذلك وغيره كثير ، محفوظ ومتوارث ويدرّس لدى الشيعة ، فهل ان سلوك الطبقة الشيعية السياسية متناغم مع تلك المباديء؟
وهل اقتنع مناصرو تلك الاحزاب بأن اولئك الساسة الفاشلون ممكن ان يكونوا الدرع الواقي ازاء عودة العجلة الى الوراء ؟
كيف نفهم ان الإمام يرى من يسبه جهارا نهارا فلا يعاقبه ولا يمنعه من بيت مال المسلمين ، بشريطة ان لا يعم شرّه المجتمع الاسلامي ، ونحن نشدّ على يد من يعاقب الآخرين لمعارضتهم سلوكه السياسي مثلا ..؟
كيف نقرأ ان معاوية – مثلاً يدوس تحت قدميه شروط الاتفاقيات ، فننكر عليه ذلك ، ولا نلوم من يفعلها في القرن الحادي والعشرين لكونه قائد شيعي ؟
حين نبدأ بالجواب حول هذه الإشكاليات وسواها ، نستطيع ان نفهم مواقف السيد مقتدى الصـدر – الذي اعدّ نفسه لتحمل الحرج الاجتماعي والسياسي ازاء مواقفه الحساسة في اللحظات التاريخية الفاصلة من تاريخ هذه البلاد.بل انه قد تنبأ بعزوف بعض اتباعه عنه نتيجة تلك المواقف التي قد يعبر عن بعضها بالانتحار السياسي . لكن الرجل وجد أن الثمن لا يكون باهضاً في مقابل الرضا الالهي وموافقة سيرة آل محمد عليهم السلام.
فما اسهل ان ينخرط السيد الصدر في عاصفة الاستنفار العارمة وفي موجة العداء المتزايدة يوما بعد آخر ، لن يلومه الشيعة بل ربما ستتضاعف قاعدته الجماهيرية ، كما ان غالبية العراقيين السنة سيعدّون ذلك مطابقا للحالة الطائفية العامة التي تجتاح البلاد.وليس على الصدر ان يكون شاذاً عن القاعدة.
ان مطالبات الصدر وبياناته وخطبه منذ قيام التظاهرات في المدن الغربية منذ اكثر من سنة كان هدفها الاول منع الوضع القاتم الذي تعيشه البلاد اليوم ، نعم قد يقول قائل ان ابناء تلك المناطق قد استقبلوا الغزاة والقتلة ، نعم هذا موجود وصحيح الى حد ما ، لكن الم يكن الاجدر الاستماع الى المطالبات المشروعة للمتظاهرين بدل استخدام القوة والقمع ؟ ولو فعلنا فكم من ابناء تلك الطائفة كان يمكن ان يؤمنوا بعراق موحد ليس فيه غلبة لطائفة على اخرى ؟
واحد – عشرة – مئة شخص ؟
وما قيمة العدد اصلاً هنـا ؟
الم يرد في الحديث المشهور ما مؤداه: لأن يهدي الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس ؟
ام نقول مرة اخرى : المنهج والمبدأ شيء – والواقع شيء آخر ؟