حينما نتحدث عن الالهام نسترجع في ذاكرتنا ما عهدناه مرتبطا من مهن ابداعية بهذه الظاهرة, فظاهرة الالهام التي تكون عادة مرتبطة بالفن وابداع الفنان قد نجدها مرتبطة بالكتابة شعرا ونثرا والرسم والموسيقى اكثر من ارتباطها بمهنة الممثل او بفن التمثيل, ومع انه فن ايضا لكن الالهام ليس واردا في صميم تقنية الممثل, ليس على الممثل إن يكون مبدعا فرديا كما المبدعين اعلاه, لان فنه مرتبط بواقع المهنة اكثر منه بالالهام خارج هذا الواقع, بالتالي ليس نجاح الممثل رهن حضور الالهام بقدر تمكنه من ادواته التعبيرية وقابليته عل استثمارها في ايصال نص المؤلف ونص المخرج معا من خلال جسده وصوته وملامح وجهه في اداءه الشخصية الممثلة.
في كتاب إعداد الممثل لستانسلافسكي في الفصل السادس عشر الذي عنوانه عند مشارف العقل الباطن يقول في الصفحة 385 ( أصبح لديكم الآن المقدرة على خلق الظروف المواتية لظهور الإلهام ), كما إن ستانسلافسكي في الفصل السابق أي الخامس عشر الذي عنوانه الهدف الاعلى قال في الصفحة 370 ( لا تقصدني انا للحصول على الإلهام, إن طريقتي في التمثيل لن تصنع لك الالهام ابدا ), طبعا لا يوجد تناقض اطلاقا !, بل ربما ما قاله عين الصواب لكن التعبير خانه وخانه المترجم من بعد فوق ذلك, وترتب على هذه الخيانات اللفظية إن وصل الحد بهذا الكتاب الذي عنوانه اعداد الممثل إن يكون عنوانا خائنا لموضوعه الذي يدل عليه فيزيد التائه ضياعا سواء اكان ممثلا يريد تعلم التمثيل كما يعد عنوان الكتاب او حتى باحثا في فن التمثيل, الا إن المتعة التي يتلقاها الباحث تفوق اضعاف الصدمات التي يتلقاها الممثل, الذي يخرج من قراءة هذا الكتاب راضيا عن نفسه وستانسلافسكي الملهم.
من حيث انه امتلك قصصا كثيرة لا تؤدي الا إلى راحة نفسية, فالشعور بالذنب جراء عدم وصول الممثل القارىء إلى النجاح سيكفر عنه يوميا مع نفسه والاخرين بوصف السبب لعدم نجاحه هو عدم تمكنه من الوصول إلى ما يقصده ستانسلافسكي, وانه مستمر في المحاولة, مع إن ما يقصده ستانسلافسكي ليس واضحا لستانسلافسكي نفسه, والا كيف يكتب هذا التناقض بنفس الكتاب ولا يتعب نفسه حتى بمحاولة التصحيح, إن لم يكن فعلا يعزل كل ما يكتبه عن بعضه البعض, بطريقة توحي بتطور فكرته عن التمثيل صفحة بعد صفحة, ن حيث انها اراء متناقضة تبعا لتنوع المواقف التي يمر بها يوميا, وبما إن اليوميات هذه لم تحدد بتسلسل زمني يربط فيما بينها, فبالتالي يمكن إن يكون قد غير رأيه ما بين الفصل الخامس عشر والسادس عشر بفارق صفحات, الا إن تاريخ الكتابة الفعلي من واقع عمق التناقض يوضح إن الفارق قد لا يكون اياما وشهورا بل على اقل تقدير سنوات, فليس ممكن لهذه اليوميات إن تصل إلى نتيجة اذن, بل فقط هذا التناقض الواضح, لأنها لا تتحد كافكار بل تتصارع مقدمة للقارىء قصة تتغير احداثها ويظهر ويختفي شخوصها دون سابق انذار, كما هي اراء ستانسلافسكي متغيرة بين سطر واخر.
إن المشكلة الاكثر قربا على عكس حلها عند قراءة اراء ستانسلافسكي عن الالهام, هي إن ما يعد به الممثل عالما منفردا بل منعزلا بشكل تام عن متطلبات مهنته وفنه, وحينما يقول بضرورة الالهام تارة يقصد ذلك العزل الشاعري الذي يتصف به الشاعر على سبيل المثال عند كتابة قصيدة, الا إن الشاعر مدرك لقلمه حين ينفذ الحبر, او حتى لحاجته للدخول للحمام, رغم انه تحت اثر هبوط الالهام, كما إن الممثل لا يمكن له إن يكون بعزلة تقريبية مقارنة بالشاعر المنفرد مع ورقة وقلم, بل إن الممثل سيسبب مشاكل لنفسه والاخرين لو اغفل ثانية من وقت الاداء, من اين هذا التراخي الذي يأتي به ستانسلافسكي يا ترى؟, على ما يبدوا إن طبيعة المونولوج أي الحوار الفردي الطويل نسبيا للنصوص المسرحية التي كان ستانسلافسكي يمثلها قد اوحت اليه بفكرة إن انعزال الممثل على الخشبة واداءه شبه الشعري, الشبيه بالقاء الشاعر للقصيدة, قد يتطلب هبوط الالهام لكي يبدع في فنه, مع إن هذا الممثل ليس ممكنا له إن ينزاح بعيدا عن بقعة الضوء المخصصة له, والا اختفى من على الخشبة بالنسبة للجمهور, بل وليس مقدرا له إن يحدد طول مدة القاءه للحوار من حيث ارتباط كل اداءه حركة وصوت بكافة عناصر السينوغرافيا بل ومن معه من ممثلين على الخشبة, كيف لستانسلافسكي إن يطلب من الممثل إن يكون منعزلا عن النص والممثل الاخر والمخرج والسنوغرافيا؟, لحظة, ربما لم يقصد الالهام اثناء الاداء, ربما كان يقصد اثناء التحضير للدور!, مالفرق؟!, فلو وضح ستانسلافسكي نفسه الفرق بين العرض والتمرين لكان لهذا الكتاب جدوى فنية, اما وهذا الحال فهو قطعة ادبية, من سيرة حياة ممثل.
يريدك ستانسلافسكي إن تتعذب وتحترق لتحس بالدور, ولا ادري كيف احس بدور مهرج وهو يطالب الممثل بهذه المعاناة, إن ما يطلبه فيما يخص الالهام يمكن إن يتلخص في ما يقوله هو, في كتاب إعداد الممثل لستانسلافسكي في الفصل التاسع الذي عنوانه الذاكرة الانفعالية وفي الصفحة 219 يقول ( في يوم جاء شاب إلى صمويلوف يسأل عما اذا كان يمكنه إن يصبح ممثلا, وكان جواب صمويلوف للشاب اخرج ثم عد وقل ماقلته الآن مرة اخرى, وخرج الشاب ثم عاد وكرر ماقاله في المرة الاولى, لكنه لم يستطع إن يحس بنفس المشاعر التي كانت تخالجه من قبل. ), بالطبع يتضح دون عناء التوضيح إن كل ما يهم ستانسلافسكي إن يكون الممثل شاعرا بدوره متقمصا للشخصية, بالتالي لا ضير إن كان يتناقض في اراءه حول اهمية الالهام !, لكن المصيبة إن الالهام ليس هو الذاكرة الانفعالية التي افتقد اليها هذا الشاب في مثال ستانسلافسكي, لأن ذاكرته للحدث الذي يعيد تمثيله لم تمت بعد, فماذا ينقصه يا ترى ؟, ربما الالهام هو الذي ينقصه ليجيد اداءه !.
لكن الالهام لن يضيف شيئا للحدث الذي مر به الشاب للتو, فماذا يفعل بالالهام هنا لكي يشعر بما يقول, إن ما يبني عليه ستانسلافسكي افكاره هو التقمص من قبل الممثل للدور, طيب, هل هذا الشاب الذي قال كلماته هو وليست كلمات نص مؤلف مسرحي وتحرك بارادته هو وليس التزاما بخطة مخرج مسرحي بل وتحكم هو ايضا بالسينوغرافيا من ملابس وديكور وزاوية اضاءة اختارها ليظهر ويقول جملته, هل هذا الشاب الذي يجسد قمة الالهام الذي يدعوا اليه ستانسلافسكي ولا يدعوا اليه بنفس الوقت, ويجسد قمة استثمار الذاكرة الانفعالية باعادته جملته هو وبنفسه وبفارق لحظات, هل وبعد كل هذه الشروط الستانسلافسكية التي انطبقت عليه لازال لديه خطأ جسيم يمنعه من النجاح في التمثيل, الا وهو عدم شعوره بالدور كما شعر به في المرة الاولى !, أي انه لا يصلح ممثلا الا لو كان يشعر بالدور وكأنه لا يمثل, حتى لو طلب منه التمثيل عليه إن لا يشعر انه يمثل بل عليه إن يكون مصدقا لنفسه بانه حضر لاول مرة حتى يقول جملته ؟, ومع إن هذه استفسارات طويلة طول تناقض اراء ستانسلافسكي, الا إن الخلاصة هي, إن ستانسلافسكي يريد من الممثل والمثال عل ذلك قصته عن هذا الشاب, يريد باختصار شديد إن تحكم على أداءك بنفسك, فحتى لو صفق لك الجمهور وكنت في داخلك لا تصدق انك عطيل, فأنت برأي ستانسلافسكي لست ناجحا ولو إن الجمهور اعتبرك ممثلا ناجحا, مع إن هذا هو الهدف الذي يسعى اليه الممثل إن يصدق الجمهور انه عطيل وهملت الخ, الا إن ستانسلافسكي استبدل النجاح بالصدق, وهو إن تصدق أنت لا الجمهور, والا لست ناجحا, ولا حتى ممثلا, أخيرا, كيف علم إن الشاب لا يصدق ما يقول!.