23 ديسمبر، 2024 5:01 م

كيف يتحدث المُنصف عن نفسه ؟

كيف يتحدث المُنصف عن نفسه ؟

-1-
إذا كانت المبالغات الأسطوريّة بقدرات (الذات) وميزاتها ، هي المسلك الشائع عند معظم الناس ، ممن تتحول عندهم الأوهام الى مُسلمّات ، فان هناك صنفاً آخر من الناس ، ينطلقون من مواقع أخرى للحديث عن أنفسهم .

إنهم ينطلقون من (إتهام الذات) لا من مناقبها ومواهبها المنسوجة من الخيال المحض ….

انهم واقعيون بعيدون عن زخرف القول …..

-2-

انّ اصحاب النزعة الموضوعية، الرافضة لكّل الادعاءات العريضة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ليسوا كثيرين بل هم من الندرة بمكان، ولكنهم موجودون في كل مكان وزمان ، ذلك ان النساء ما عقمن عن ولادة أمثال هذه النخبة الطيّبة الطاهرة ، ممن تتمسك بأهداب الخلق العالي وتتألق في آفاق المكارم .

-3-

وفي كُتب الأخلاق والأدب والتراجم شواهد وقضايا تؤكد ما قلناه .

-4-

ومن تلك الشواهد :

ما ذكره ابن الجوزي في كتابه (صفة الصفوة ) ج 2 ص184

فقد نقل عن جعفر بن برقان أنه قال :

” بلغني عن يونس بن عبيد فَضْلٌ وصلاح ، فكَتَبْتُ إليه :

ياأخي :

بلغني عنك فضل وصلاح ، فأحببتُ أنْ اكتب اليك ، فاكتب اليّ بما أنتَ عليه “

ونلاحظ هنا :

ان البحث عن اكتساب الفضائل والتحلّي بها ، غايةٌ يسعى نحوها المشتاقون الى الكمال والعروج الى المعالي .

وهكذا يجب ان يكون الانسان التواّق للتصاعد في المضمار الروحي والاخلاقي والانساني والاجتماعي .

انه يبحث عن الحكمة ويطلبها حيثما كانت .

ولا يطلبها لمجرد الاطلاع ، أو من باب الترف ، وانما من باب الحصول عليها، مقدمةً لتجسيدها في مساراته الحياتية، وهذا هو طريق التكامل والتواصل مع رموز الصلاح والإصلاح .

ان رسالة (جعفر) الى (يونس) ماهي الاّ المحاولة الجادة الصادقة للافادة من تجارب الرجال المعروفين باستقامتهم ، ونجاحاتهم في الانتصار على ذواتهم وأهوائهم .

ولم يتردد يونس بن عبيد في الكتابة الى جعفر بن برقان ، فكتب اليه يقول :

{ أتاني كتابك تسألُني ان اكتب اليك بما أنا عليه }

وأخبرك أني عرضت على نفسي أنْ تُحب للناس ما تحبّ لها ، وأنّ تكره لهم ما تكره لها فاذا هي من ذلك بعيد .

ثم عرضتُ عليها مرّة أخرى ترك ذكرهم إلاّ من خير، فوجدتُ الصوم في اليوم الحار الشديد الحرّ بالهواجر بالبصرة، أيسر عليها من ترك ذكرهم هذا أمري يا أخي والسلام }

ان جواب (يونس بن عبيد ) لم تكن فيه ذرةٌ من مكابرة زائفة، أو ادعاء كذوب ، وانما هو في حقيقتِهِ نقد لاذع للذات، حيث أَخْبَرَ بأنَّ نفسه

عصّيةٌ في مطاوعته على أنْ تحب للناس ما تحب لها وتكره لهم ما نكره لها …

انه لم يُزكِ نفسه ، ولم يُضْفِ عليها ما ليس لها من صفات ….

ثم انه ذكر أيضاً انه لم يستطع ان يروّض نفسه على ان تكف عن الآخرين .

واعتبر الصوم في حَرّ البصرة الشديد أسهل عليها من ذلك .

وهذه مفردة ثانية من المفردات السلبية التي ذكرها عن نفسه .

وقد لايكون الرجل كما أخبر عن نفسه ، وانما كتب الى جعفر بذلك ليحمله على الشدة في مراقبة نفسه ، ومُغالَبَةِ أهوائه ….

إنّ المعجبين بأنفسهم ، يغضون الطرف عن كثير من المفارقات التي يجترحونها، لابل قد يُسيئون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ..!!

ان النفس لأمّارة بالسوء، فلا بد من محاسبتها ومراقبتها والابتعاد بها عن المزالق والمزاعم الكاذبة ، والاّ فهي سريعة الغرور ، وكثيرة الشرور …