19 ديسمبر، 2024 12:28 ص

كيف نُهب العراق؟

كيف نُهب العراق؟

مؤلف الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، فيليب فلاندران، صحافي فرنسي، عرف العراق قبل احتلاله ثم عرفه تحت الاحتلال وعايش احتلال العراق منذ ان دخلته القوات الامريكية في نيسان/ 2003، حين تحطم النظام العام الذي كانت اول نتائجه نهباً عاماً للموارد الخاصة والعامة في طول البلاد وعرضها.
عن هذا الدخول الذي دشن عمليات نهب لم تنقطع منذاك، يقول فلاندران في مقدمة كتابه –” لم نرَ فيما مضى جيشاً ديمقراطياً جراراً مثل جيش الولايات المتحدة، ترك الامور سائبة على مدى الاسابيع الاولى من نيسان، في حين كان العراق ينهب تحت سمعه وبصره، وذلك بسبب الاوامر المعطاة له. فقد انطلقت حينذاك آلة جهنمية، فهل كان بالامكان ايقافها؟ لقد حاولنا جاهدين ان نفهم ذلك كله، فقمنا بتحقيقات بوسائل كانت احياناً فعالة واحياناً اخرى بوسائل صحافية تثير السخرية”.
فبلا اي مواربة وبصراحة تامة “يتضح من مجرى الاحداث، ان بوش ونائبه ديك تشيني، اعتقد ان القوات الامريكية ستستقبل كما توقع تشيني استقبال المحررين. ان السياسة التي تقوم على اعتبار الرغبات حقائق هي التي تشل احتلال امريكا للعراق، ومن الناحية المبدئية لم يمنع المسؤولون الامريكان عمليات النهب لانهم اعتبروا ذلك مشهداً هزلياً مسلياً”. كتب ذلك الصحافي الامريكي نيكولا كريستوف بعد ستة اشهر فقط من دخول قوات بلاده العراق.
هذا المقتطف من مقالته اوردها فلاندران، مضيفاً ان هذا المشهد الهزلي نقل عبر اقنية العالم اجمع ليكون بمثابة رسالة تفيد بأن مشهد حثالات وسفلة المجتمع في بغداد الذين صورتهم كاميرات التلفزة وهم ينبهون قصور الرئاسة ومؤسسات الدولة، كان دليلاً على ان ما حدث في العراق ثورة شبيهة بأي ثورة يحطم فيها الشعب تماثيل طاغية ويهاجم قصره سواء كان قصر فرساي ام قصور الشاه في ايران ام قصور ماركوس في مانيلا…
ويستطرد مؤلف الكتاب متسائلاً: هل كانت تلك ثورة حقاً؟ ويجيب- كان الشعب غائباً عن هذه الحفلة الماجنة، لقد كان الشعب بعد شهر من القصف المكثف العنيف، لاجئاً في منازله، بل في كهوفه كالسجناء الذين كان ملك لاغاش يصطادهم في شباكه على مسلة النسور.
والحق، ان ما شاهده العالم ليس سوى نهب منظم وتخريب على نطاق واسع، مشهد في غاية القبح والبشاعة، يتمثل في توقيع على بياض صكه رئيس امريكا من اجل اطلاق عملية نهب بغداد.
عن هذه الوسائل والتحقيقات، تحدث المؤلف، وعن موضوع عمليات النهب ومادتها التي هي اشبه بجرح دموي بالغ، اصاب عروق الحضارة العراقية التي انفتحت كنوزها من المكتبات الأثرية العريقة ومن متاحفها التي تضم ربما أثمن ما تمتلكه البشرية جمعاء من ارث تاريخي لا يهم العراقيين وحدهم بل يهم علماء العالم ومؤرخيه قاطبة.
في العاشر من نيسان، بدأت الفوضى العارمة، اكثر الابنية والمؤسسات والمنشآت الوطنية ومجموعاتها الضخمة من مخطوطات العصور العثمانية والبويهية والعباسية، وآلاف اللوحات القديمة. وخربت مكتبة الجامعة ونهبت، ثم احرقت، وحدث الشيء نفسه لابنية المؤسسة الدينية الخاصة بالوقف، وهوجم المصرف المركزي ونهب، فيما كانت تجري عمليات القتل والسرقة والنهب، تحول الجيش الذي بلا اوامر رادعة من موقع المتفرج المحايد الى موقع المشارك النشط، ولسان حاله: أيكون ملكياً اكثر من الملك؟
اما في مطار صدام الدولي الذي دعته الادارة الامريكية مطار بغداد الدولي، فالمفارقة هي ان عناصر فرقة المشاة الثالثة باشروا السرقة والنهب قبل ذلك حين فقدوا كل توجه نظراً لغياب الاوامر الموجهة، فهجموا على المحال التجارية وسلبوا محتويتها –عطور، ساعات، حلي، جواهر، كحول، علب تبغ، ألبسة فاخرة وثمينة… المحال التجارية نهبت، ابواب المكاتب حطمت، واجهات الزجاج كسرت، الاثاث والحواسيب الاليكترونية والمكيفات جميعها شحنت، نهبت الطائرات النفاثة دون تدخل من القادة، حُوَّل الجنود الذين ارتكبوا السرقات الى المحاكم العسكرية، ومع ذلك لم تصدر بحقهم اي احكام، وهذا تحصيل حاصل والا تعرض مئات الجنود والضباط للعقوبات… حتى ان احد المسؤولين في وزارة الدفاع قال ” ليس بالامكان ان يكون ذلك من عمل الامريكان، فالمطار كان محروساً عندما حدث ذلك” وفي الجملة، قدرت قيمة هذه الغزوة الصغيرة بالقياس الى ما سيقع بعد ذلك من غزوات وحشية كبيرة، بمئة مليون دولار… وربما اكثر…
فصل الكتاب عمليات النهب هذه في فصول ثلاثة، حيث كرس المؤلف الفصل الاول منه لتصوير وتفسير عمليات النهب التي تعرضت لها بلاد سومر، والثاني لعمليات نهب بغداد، اما الفصل الثالث فخصصه المؤلف لحكايات تروي كيف استعاد المتحف عبر مبادرات فردية قام بها بعض الشبان العراقيين، عدداً من التحف والآثار التاريخية المسروقة لم تكن سوى نقطة من بحر المسروقات التي نهبت، وقام بتسليم هذه المستردات بياترو كارديني المستشار الايطالي للتحالف لدى سلطة الاحتلال.
عن هذه المستردات يقول المؤلف: مستعاد او مسترد، كلمة سحرية، مفتاح غرفة البدائع والطرائف، حيث تُجمع القطع التي اعيدت الى المتحف، استقبلتنا ناديا المتولي مديرة المتحف الوطني العراقي، وهي سيدة في الخمسين من العمر، عاشت نهب المجموعات الأثرية كاغتصاب تعانيه هي شخصياً… وبتحفظ شديد رضيت ان تصحبنا الى مكتب المحفوظات حيث جماعة من الضباط الامريكان يثيرون نقاشاً حاداً، ثم استدعيت الامين المساعد، مهدي علي، واوعزت اليه ان يرافقنا… وبعد قليل فتح باب ما يسمى بحق حجرة البدائع والطرائف في المتحف الوطني العراقي.
ولكن ماذا عن الكنوز الأثرية التي ضاعت ولم تعد والتي هي خسارة لتراث الانسانية جمعاء، لا لتراث العراق وحده؟
في الفصل الاول، يصف المؤلف كيف اضطرت امريكا الى التحرك اخيراً بعدما ثارت عليها نقمة  عالمية ازاء الصور التلفزيونية التي عرضت نهب تراث بلاد ما بين الرافدين واظهرت الجيوش الامريكية مكتوفة الايدي تجاه هذا الحدث البربري الفظيع فعمدت واشنطن الى ازالة الشكوك بحملة استرداد بعض الاثار المسروقة. وكان على دوائرها الخاصة بسبب الضغوط الممارسة عليها، ان تفاوض المافيات التي تسيطر اليوم على التجارة العالمية للتحف والآثار التاريخية (العاديات).
في هذا الفصل، يشرح المؤلف نكبة ثقافية عز نظيرها في تاريخ البشرية، فيروي ما حدث لمدينة اور عند القبور الملكية للملك نمرود، وماذا حدث لكهوف متحف بغداد وخزائن المصرف المركزي العراقي.
عن البداية التي مهدت الطريق لعمليات نهب المتحف الوطني العراقي في بغداد يقول المؤلف: في الثامن من نيسان، واجهت وحدة المقدم الامريكي اريك شوارتز على جوانب المحطة المركزية لسكك الحديد بعض المقاومة، كانت تشغل المتحف وتهتم بحمايته، وكانت رشقات قوية من طلقات البنادق كافية لطردهم من مواقعهم. ففرقة المشاة الثالثة آلة حربية تعمل من دون خطأ…. رأى شوارتز مدنيين يهربون من البناء، يهرول نحوه حارس المتحف لاهثاً قائلاً برجاء- حضرة المقدم لم يبق احد سوى ثلاثة حراس عزل لحماية المتحف، وهو يحوي ثروات لا تقدر بثمن، ارث بلاد الرافدين، افعل شيئاً لحمايته. كان هذا الالتماس يعني ان على وحدة شوارتز ان تضيف بعد الآن مهمة جديدة الى مهمتها العسكرية الاساسية، مهمة اخرى تقوم على تحمل مسؤولية الحفاظ على النظام في القطاع الذي احتلته… وفي التاسع من الشهر نفسه يكرر احد حراس المتحف الثلاثة الطلب الى جنود فرقة المشاة الثالثة الموجودين بجوار ابنية المتحف، ولم يفت الأوان بعد، فحرمة البناء ما زالت لم تنتهك، ولم تجر بعد أية مسؤولية الحفاظ على النظام في القطاع الذي احتلته… وفي التاسع من الشهر نفسه يكرر احد حراس المتحف الثلاثة الطلب الى جنود فرقة المشاة الثالثة الموجودين بجوار ابنية المتحف، ولم يفت الآوان بعد، فحرمة البناء ما زالت لم تنتهك، ولم تجر بعد أية معارك في حي المحطة، يكفي ان تتمركز دبابتان وبعض المشاة امام ابواب المتحف كي تتأمن حراسته كلياً، لكن المقدم شوارتز لم يستجيب لاستغاثة حارس المتحف المدعو محسن كاظم.
تراث العراق التاريخي والاثري يضاهي تراث مصر قدماً وروعة، لكنه مهدد بالزوال والانقراض، ان لم تتداع حكومات العالم اجمع الى تشكيل جبهة واحدة وحازمة من اجل استرجاع كنوزه التي سرقت ونهبت منذ نيسان/ 2003، حين طُرد علماء الاثار من خرائب تلال سومر وأكد وآشور.
يقول الرئيس بوش الأبن، انه عجز عن استباق هذه الكارثة الانسانية التي تجسدت في نهب المؤسسات الثقافية الكبرى، لكنه كان قد أخطر من قبل القيادة العامة للجيش الامريكي، ومن وزارة الخارجية والجمعية العلمية بكامل اعضائها، قبل وقوع هذه الكارثة، واحتمال وقوعها، ومع ذلك، لم يفعل شيئاً. كلام حق يراد به باطل.
وعلى الرغم من هذه التحذيرات، فان الجيش الامريكي في العراق لم يؤمن الحماية الا لمؤسسة عراقية واحدة وحيدة هي وزارة النفط.
تجدر الاشارة الى ان الكتاب حافل بصورة فوتوغرافية التقطت بعد عمليات النهب لقاعات بعض المؤسسات الثقافية والمتاحف العراقية المنهوبة.
ويبقى السؤال: ما هو مصير هذه الثروة الاثرية الهائلة؟ هل ستبقى ضائعة، ومن المستفيد من ذلك؟ ام انها ستستعاد وتسترد ، ومن سيقوم بعملية الاسترداد التي تحتاج الى تعاون صادق من منظمة اليونسكو والى جهود امنية دولية ونوايا صادقة وحازمة من قبل الانتربول الدولي؟
القائمة التي اعدتها اليونسكو قصيرة جداً، خبأت الكثير من التحف المفقودة التي كانت موجودة في المتاحف العراقية قبل وقوع الغزو الامريكي للعراق. والانتربول يأسف في هذا المجال، لأن ثمة نقصاً أكيداً في المعلومات.
ان الكتاب يشكو من نقص اكيد، وهو خلوه من اي اشارة تدل على احتمال ضلوع اسرائيل بعمليات النهب للثروات الاثرية العراقية التاريخية.

* الكتاب:
كيف نهب العراق؟ حضارة وتاريخاً، تأليف- فليب فلاندران، ترجمة- انطوان أ. ابراهيم، ط1، عويدان للنشر والطباعة، بيروت، 2005
[email protected]