عاشوراء لا تتطلب تعريفاً كحدث فهي معروفة للجميع على إنها اليوم الذي قتل فيه الإمام الحسين عليه السلام هو ومجموعة من أهل بيته وأصحابه في كربلاء في العراق في مواجهة مع السلطة الحاكمة في ذلك الوقت أي الدولة الأموية، ولكن كيف نقرأ هذا الحدث؟هذا هو محل الجدل، ولذا تعددت أساليب التعاطي مع هذا الحدث وشخوص الحاضرين فيه وفي مقدمتهم طبعاً الإمام الحسين عليه السلام اعتماداً على كيفية القراءة، وليس بالضرورة إن ما سنذكره من قراءات موجود بالنص أو منظر له ولكن كل هذه القراءات منظورة تطبيقاً كما سنرى، ولا نقصد بالقراءات بيان الاسباب فقط بل كيفية فهم عاشوراء والموقف المطلوب تجاهها.
البعض يقرأه كحدث تاريخي عادي دولة تحكمها عائلة-بني أمية- سبق وسلبت الحكم من عائلة أخرى-آل علي- فحاولت العائلة الثانية أن تنتهز الفرص لإرجاع ما تراه حقاً لها-بغض النظر عن الجدل في ذلك- فعاشوراء كانت إحدى تلك المحاولات ولكنها باءت بالفشل نتيجة عدم دراسة الوضع من ناحية سياسية وعسكرية بصورة صحيحة!
فوفقاً لهذه القراءة لا داعي للمبالغة في قيمة هذا الحدث والاحتفاء السنوي به وكل هذا الضجيج!
وقراءة أخرى تقول بأن الحسين عليه السلام أجبر على خوض هذا الصراع تارة نتيجة ضغط الناس التي تراه ممثلاً لها في مواجهتها مع سلطة ظالمة-أن أقدم علينا –مضمون كُتب أرسلت للإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة- فأجبره ضغط الناس على اختيار التوقيت والاسلوب، وتارة نتيجة ضغط السلطة نفسها التي أجبرته على المواجهة-اقتلوا الحسين ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة-مضمون كلام ليزيد-!
فوفقاً لهذه القراءة لا داعي للمبالغة في موضوع التخطيط من الحسين عليه السلام والتخطيط الإلهي وكل ما يُقال عن ذلك فضلاً عن النتائج، فالحسين ثائر على الظلم نعم ولكن بتوقيت واسلوب لم يختره هو ولذا فشل في المواجهة!وقراءة أخرى تقول إن الحسين عليه السلام ضحى من أجل أمته أو من أجل الشيعة خصوصاً ليخلصهم من ذنوبهم أو ليكون سبباً لدخولهم الجنة!
فوفقاً لهذه القراءة البكاء واللطم وكل مظاهر الجزع والحزن هي رد الفعل الطبيعي والصحيح تجاه مثل هكذا تضحية والتركيز على جانب التضحية ومواقف التضحية هو الأهم، وتأجيج العواطف للتفاعل مع التضحية أمر مطلوب.وقراءة أخرى ترى في الحسين عليه السلام ومن معه أبطالاً اسطوريين ينبغي أن يخلدوا.
ووفقاً لهذه القراءة ينبغي التركيز على جوانب البطولة في واقعة كربلاء وخلق الصورة المناسبة لعرض البطولات ولو بإضافة هنا وإضافة هناك!
وقراءة أخرى ترى إن الحدث كان محطة إذلال وإهانة لأهل بيت النبوة عليهم السلام وينبغي الانطلاق من ذلك لبيان مظلوميتهم.
ووفقاً لهذه القراءة فالتركيز على صور الاذلال والإهانة هو الأولى لأنها أبلغ في بيان المظلومية، ونجد تأثير هذه القراءة واضحاً على الشعر خاصة الشعبي منه.
وهناك قراءات أخرى تندرج ضمن هذا السياق.
وفقاً لما نراه فإن هذه القراءات جميعاً أما خاطئة بشكل تام كقراءة الصراع على السلطة أو إنها ركزت على جانب معين وبالغت فيه وأهملت ما سواه، والقراءة الصحيحة لعاشوراء يجب أن تنطلق من الحسين عليه السلام نفسه وليس بعيداً عنه.كيف يكون ذلك؟
للقراءة الصحيحة-أو لنقل القراءات الصحيحة- مقدمات ، فما هي هذه المقدمات؟
المقدمة الأولى: لا يمكن أن نقرأ عاشوراء بصورة صحيحة بعيداً عن نطاقها التاريخي فبالتالي نحتاج إلى الحصول على أفضل تصور واقعي ممكن عن فترتها التاريخية بالاستعانة بالمصادر، هذه المهمة ليست سهلة فالخصم في عاشوراء كان هو السلطة وهو المنتصر ظاهرياً والتاريخ يكتبه المنتصرون كما يقولون، نعم ليست سهلة ولكن الحصول على نتيجة معقولة أمر ممكن، ولا نقصد بنطاقها التاريخي فترة حدوث الحدث فقط بل ما قبله وبعده مما هو مقدمة له أو نتيجة له ولو بشكل إجمالي، فعلى سبيل المثال لو نظر من يقول إن عاشوراء كانت صراعاً على السلطة إلى ما نتج من آثار عن عاشوراء في المائة سنة التي تلت الحادث فقط لعرف كم هو متوهم وظالم للحدث بشكل كبير، فكيف إذا نظر إلى الفترة الممتدة لزماننا الحالي؟!
ولا نقصد بنطاقها التاريخي حصر الحادثة بزمنها وإنما نقصد فهم الملابسات والنتائج القريبة زمنياً للحدث.
المقدمة الثانية: لا يمكن ان نقرأ عاشوراء بصورة صحيحة بعيداً عن حسينها!
فالحسين عليه السلام تاريخاً ومسؤولية-إمام وسبط نبي الأمة- وعلماً وأخلاقاً هو قطب الرحى في هذا الحدث، فما لم نعرف مقداراً معتداً به عن تاريخ الحسين عليه السلام ونسبه ومكانته ومسؤولياته الإلهية و علمه وكلامه وأخلاقه لا يمكننا أن نقرأ عاشوراء قراءة صحيحة، ومعرفة الحسين عليه السلام تعني معرفة الحسن عليه السلام ومعرفة الحسن تعني معرفة علي عليه السلام ومعرفة علي تعني معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فالحسين عليه السلام ضمن هذا التصور هو الإمام المعصوم، لا الحسين البطل الاسطوري الذي يقتل كذا وكذا، ولا الحسين الذليل-حاشاه وهو القائل هيهات منا الذلة- ولا أي صورة أخرى مشوهة عنه سلامه الله عليه.المقدمة الثالثة: لا يمكن أن نقرأ عاشوراء قراءة صحيحة بعيداً ما قاله عنها أهل البيت عليه السلام وقدموه من مقدمات عنها، فعاشوراء بدون ما قالوا وما فعلوا لن تكون واضحة لنا، الاطلاع على ما قاله أهل البيت عليهم السلام قبل الحادثة وبعدها وفهمه يبين لنا الجوانب الأكثر أهمية لنركز علينا ويوضح لنا الأسباب والدوافع ويوضح لنا كيف نتعاطى مع عاشوراء.
المقدمة الرابعة: لا يمكن أن نقرأ عاشوراء قراءة صحيحة بعيداً عما قاله ويقوله العلماء الواعون والكتاب المفكرون عنها، فهؤلاء لديهم معلومات أكثر ورؤية أوسع، وإهمال ما يقولون وما يفعلون تجاه عاشوراء يعني إهمال جهد كبير ونتائج عظيمة، ولعل بعضهم يختزل لنا الكثير من الوقت والجهد ويقدم لنا مسارات لقراءة عاشوراء بما قد لا تخطر في أذهان البعض منا.
المقدمة الخامسة: لا يمكن أن نقرأ عاشوراء قراءة صحيحة بدون أن يكون سلوكنا منسجم معها أو الاصح منسجم مع حسينها ودينه وأخلاقه وسلوكه-طبعاً لا على مستوى التطابق والكمال التام ولكن على مستوى الممكن والمحاولة المستمرة المعززة بالتوبة- فعاشوراء ليست حدثاً بسيطاً ليتاح لكل أحد قراءته بصورة صحيحة بمجرد اكتمال المعلومات لديه عنها. عاشوراء لا تفتح أبوابها على مصراعيها لكل طارق، بل تفتح أبوابها بمقدار فهم الطارق وتطبيقه فكلما كان الطارق واعياً مطبقاً كلما فتحت له الأبواب بشكل أوسع.بهذه المقدمات الخمس يمكن لنا أن نقرأ عاشوراء قراءة واعية أو نقترب من ذلك، أما بدونها فعاشوراء التي نقرأها هي عاشوراء اخرى من صنع وهمنا أو رغباتنا أو مصالحنا أو جميع ذلك.
بهذه المقدمات سنعرف إن عاشوراء لم تكن صراع سلطة ولا استجابة لضغط- نعم هذه الأمور لها تأثيراتها ولكنها ليست العلة ولا الغاية الرئيسية- وإن الحسين عليه السلام لم يكن بطلاً أسطورياً بل كان إماماً معصوماً يسير بهدي السماء، وإنه خرج لطلب الاصلاح.في كلمته لأخيه محمد بن الحنفية المعروفة: (إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين) ولن نخوض في تفاصيلها ولكن يهمنا منها الآن فقط عبارة ” وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي”، عندما يوجه لك سؤال هل كان الإمام الحسين عليه السلام مصلحاً أم مفسداً في عاشوراء ماذا سيكون جوابك؟قد يجيب بعض المرضى إنه كان مفسداً، ولكن الأغلبية سيجيبون بأنه كان مصلحاً، والجوابان كلاهما خطأ!
نعم الإمام الحسين عليه السلام هو إمام وهو مصلح بفعله وتركه، بكلامه وبسكوته، ولكننا نقصد بخصوص حادثة عاشوراء هل كان الإمام عليه السلام يريد الإصلاح؟
لو كان يريد الاصلاح ندخل في مشكلة فإرادة المعصوم مرتبطة بالإرادة الإلهية والإرادة الإلهية واجبة التحقق كما يقولون، فكيف لم ينتج عن عاشوراء إصلاح لحظي وكيف انتهت بهزيمة ظاهرية؟!
نعود إلى ما قلناه سابقاً في المقدمات وخاصة المقدمة الثانية منها (لا يمكن ان نقرأ عاشوراء بصورة صحيحة بعيداً عن حسينها) إذ بدون ذلك نتخبط ، لاحظ ماذا يقول الإمام عليه السلام في كلامه –وهو ككل كلام أهل البيت عليهم السلام دقيق جداً- ” إنما خرجت لطلب الاصلاح” ولم يقل “إنما خرجت مصلحاً”، هل هناك فرق؟ نعم، كيف ذلك؟ سنوضح:
لو تأملنا في كلام الإمام عليه السلام جيداً لوجدناه يذكر احتمالات سيئة في أسباب خروجه ويستبعدها، وهي ليست احتمالات وهمية أو لأجل الصياغة الأدبية أو الخطابة، بل هي صور ما تصوره وسيتصوره الكثيرين عن عاشوراء نتيجة قراءتهم الخاطئة لها بعيداً عما ذكرناه من مقدمات، الإمام الحسين عليه السلام نفى كل ذلك وذكر سبباً وحيداً حصره بإنما وهو “الخروج لطلب الإصلاح”، وبين تفاصيله فيما بقي من كلامه، بل ذكر نتيجة عاشوراء بوضوح وهو (ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين) فنتيجة عاشوراء ستكون رد لطلب الإصلاح هذا، ورفض له من غالبية الناس لاعتبارات وأسباب كثيرة لسنا في مجال الخوض فيها، بمعنى إنه سلام الله عليه خرج يدعو لنصرته ليكون مصلحاً عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موضوع محدد فإن قبلته الأمة (فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق) فإن الاصلاح سيتم، وإن رفضت الأمة-وهو ما حصل فعلاً ونعني الأغلب- فالنتيجة (أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق) والصبر هنا ليس على تحمل بلاءات يوم عاشوراء فقط بل الصبر على خذلان الأمة وانتظار ظهور نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب الاصلاح في زمن لاحق وعبر أدوات أخرى وهو ما شهدنا الكثير منه عبر مسيرة السنوات التي تلت عاشوراء وإلى الآن.
فالقول بطلب الاصلاح وليس الاصلاح لأن الاخير مشروط بالناصر ودعم الأمة، ولعله إشارة منه سلام الله عليه على ضرورة ديمومة عملية طلب الاصلاح حتى قيام دولة الحق، ولا ننسى ما في عبارته سلام الله عليه وهو الإمام المعصوم المفترض الطاعة إذ لم يقل إنه مصلح رغم إنه اولى الناس في زمانه بهذا اللقب ونشهد في زماننا الكثير ممن يطلقون على أنفسهم لقب المصلح وليتهم تعلموا من الحسين هذا الخلق الإلهي.
إذن فالقراءة الصحيحة لعاشوراء إنها طلب إصلاح عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حققت اهدافها الإلهية المرسومة لها بوضوح، وتكليفنا تجاه هذه القراءة الواعية هو الاستمرار بطلب الاصلاح الحسيني عبر ادوات تناسب الزمان والمكان ولا تخرج عن ثوابت الدين “أمة جدي” والنتيجة أما قبول والله أولى بالحق أو رفض وصبر والله يقضي الحق.