23 ديسمبر، 2024 11:42 ص

كيف نقرأ الخبر ؟

كيف نقرأ الخبر ؟

جاء في كتاب سفينةِ البحار ج6 ص439 :
” أحصوْا لعليّ بن يَقْطِين سنةً في الموقف، مائة وخمسين مُلَبيّاً “

ان ” علي بن يقطين ” شخصية مرموقة المكانة عند الامام الكاظم – موسى بن جعفر عليه السلام – وقد تبوأ الوزارة في عهد هارون الرشيدو وقد استاذن الامام الكاظم في ترك منصبه ، فلم يأذن له ، وقال :(عسى أنْ يجبر الله بك كسراً …) وأخبارُ صلته بالامام الكاظم (ع) كثيرة ومثيرة … والمراد بالموقف: وقوف حجاج بيت الله الحرام في عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام .

والوقوف بعرفة : ركن عظيم من أركان الحجّ . حتى قيل (الحج عرفة والمقصود بالمائة وخمسين ملبياً : الاشارة الى عدد الحُجاج الذين أرسلهم (علي بن يقطين) للحج على نفقته الخاصة .
فهم (150) حاجاً
وكلٌ منهم لابُدَّ له من التلبية حين الاحرام (لعمرة التمتع) حيث لاينعقد الاحرام بغير التلبية وهي :
لبيك اللهم لبيك .
لبيك لا شريك لك لبيك .

إنّ الحمد والنعمة لك والملك .

لاشريك لك لبيك .

كما لابد له من التلبية عند الاحرام (لحج التمتع) – يوم التروية قبل الخروج الى عرفات -،وبنفس الصيغة .

والخبر المذكور يشتمل على عِدّة أبعاد :

1 – البعد الشرعي

2 – البعد الاقتصادي

3 – البعد الاجتماعي

4 – البعد الاخلاقي

5 – البعد السياسي

وهكذا يتجلّى أن القراءة الواعية للخبر ، لابد ألا تكون أحاديةَ الجانب ..!!

ان نظريات العامل الواحد لم تسلم من نقد ساخن ،

وكذلك القراءات ذات البعد الواحد ، فانها لاتستطيع ان تنهض بالقراءة الواعية، اذا اقتصرت على النظر الى جانب واحد وأهملت الجوانب الأخرى

البعد الشرعي :

ان إرسال (علي بن يقطين) عدداً كبيراً من الحُجاج (150) على نفقته الخاصة ، ينطلق من مبدأ فِقْهِيٍّ معروف :

ان الحج مستحب على الموسر في كل عام .

وكما يستجب له الحج بنفسه، يستحب له الإحجاج بماله، أيْ ان يرسل الى الحج من يستطيع إرساله على نفقته ، ليحظى بالمثوبة الكبيرة من الله سبحانه .

اذن :

إن ارساله هذا العدد الكبير من الحجاج فيه معنى العبادة والتقرب الى الله سبحانه .

البعد الاقتصادي

ان الحصيلة النهائية لنفقات الحجّاج الذين أرسلهم (علي بن يقطين) على حسابه ، تكشف عن قدرة ماليّة متميزة ، وثروة اقتصادية ملحوظة ، كان (علي بن يقطن) يتسم بها .

ذلك ان الاستطاعة للحج يومذاك لم تكن متيسرة لمعظم المسلمين ، أي انّ معظمهم لم يكونوا يوفقون لأداء الفريضة – فريضة الحج – بسبب عدم استطاعتهم المالية .

ان ارسال هؤلاء بحاجة الى سيولة نقدية كبيرة .

هذا من جانب .

ومن جانب آخر :

فان من البعيد جداً ان ينفق الوزير (علي بن يقطين) جلّ ما يملكه من مال، إنْ لم نَقُلْ ( الكلّ ) في عملية تجهيز هؤلاء الحجّاج .

فنفقات حجّهم يوشك ان تكون جزءً بسيطاً من ثروته وأمواله ، وهذا ما يكشف عن ضخامة ثروته واتساعها وان لم تكن لَدَيْنا أرقام محددة عنها .

وهذا العمل المبرور لابُدَّ ان يحتذيه الأثرياء والاغنياء ، لا الفقراء والمستضعفون ……

البعد الاجتماعي :

ان اختيار (150) شخصاً وارسالهم الى الحج ، يُظهر بشكل لاغموض فيه ، شبكة العلاقات الاجتماعية الواسعة التي كان يملكها (علي بن يقطين) .

انها علاقات أفقية ممدودة الى عدة شرائح وطبقات في المجتمع .

وليس ذلك بغريب على من كان في مِثل مكانتِهِ وموقِعِهِ .

لاشكَّ أنه لايرسل الناس الى الحج عشوائياً ،

ولا يُدَّ ان يكون على دراية تامة ، ومعرفة تفصيلية بشؤونهم وأحوالهم ، واستحقاقهم ان يكون (الصفوة المختارة)، وكل ذلك لايكون مالم يكن الرجل صاحب حضور اجتماعي متميّز .

البعد الاخلاقي :

ان حمل الهموم الانسانية ، والتفكير بالفقراء والمستضعفين انما هو منقبة أخلاقية فريدة .

ألا ترى اليوم ان معظم أصحاب المناصب والثروات المعاصرين، لايفكرون الا بأنفسهم ومصالحهم وأبنائهم وأصهارهم بعيداً عن استحضار هموم الآخرين، وأين أصحاب النزعة الذاتية من أصحاب النزعة الموضوعية ؟

ان ارسال هذا العدد الجمّ من المؤمنين للحجّ ، فيه معنى الاتصاف بالموضوعية والانسانية .

وهذا ما يُحمد عليه (علي بن يقطين) – رحمه الله –

البعد السياسي :

ثم ان هناك بُعداً قد يكون بعيداً عن الاذهان

إنّ هؤلاء الحُجّاج الذين بلغ عدهم (150) حاجاً، حينما يصلون الى الديار المقدّسة، لابُدّ ان يتشرفوا بزيارة الرسول الأعظم (ص) .

وحينما يصلون الى (المدينة المنوّرة) فانهم لن يضيّعوا فرصة اللقاء بالامام الكاظم – موسى بن جعفر – (ع) والاستضاءة بنور علمه وتوجيهاته .

وهذه طريقة ذكيّة لتعميق صلة الامام الكاظم (ع) بقواعده الشعبية في العراق .

انها عملية شدٍّ حقيقي للمأمومين بامامهم العظيم ، واستلهام الدروس منه ، وإطلاعه على الاخبار والاسرار ، ومعرفة القضايا التي تحظى عند الامام بأهمية خاصة ..

واذكر أني بيّنتُ هذا البُعد السياسي في الخبر لسيدنا الاستاذ المرجع الخالد الامام الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر – رضوان الله عليه – فأبدى استحسانه له .

وهذا ما شجعني اليوم ان اكتب هذه السطور، ونحن على ابواب ذكرى استشهاد الامام الصابر ، راهب بني هاشم، شهيد السجون، الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) .

ان العلاقة المتميّزة التي تربط الامام الكاظم (ع) بعليّ بن يقطين لم تمنعه من ان يحجب (ابن يقطين) حين أراد الدخول عليه .

قال له الامام (ع) :

(أبى الله ان يشكر سعيك ، إلاّ ان يغفر لك ابراهيم الجمّال )

فسار علي بن يقطين من (المدينة المنوّرة ) الى (الكوفة) لاسترضاء ابراهيم الجمّال الذي كان قد حجبه .

لقد ذهب علي بن يقطين الى ابراهيم الجمّال ، وأمره ان يطأ خدّه .

فامتنع ابراهيم

فآلى عليه (علي بن يقطين) ان يفعل ، ففعل ،

ولم يزل (ابراهيم) يطأ خدّه وابن يقطين يقول :

اللهم اشهد

ثم انصرف الى المدينة المنورة، فأذن له الامام الكاظم (ع)

أقول :

هكذا كان الامام الكاظم (ع) حريصاً على الكرامة الانسانيّة .

فكلُّ ايجابيات (علي بن يقطين) لم تشفع له ، حين صدّ أحد اخوانه عن الدخول اليه ، مما اعتبره الامام الكاظم (ع) خدشاً أخلاقياً لابُدَّ ان يحاسب عليه ( علي بن يقطين) .

وبالفعل حاسَبَهُ الامام، وصّده عن الدخول اليه، مالم يسع الى تسوية الموقف مع (ابراهيم الجمّال)

وأخيراً :

فأنّ على السلطويين والمغرورين، ان يقروأ التاريخ بدقه وان يحيطوا بكُنْهِهِ وان يتعرفوا على مناهج ائمتهم الهداة في تَوِقيرِ المؤمنين، وصيانة كراماتهم.

اعرف مكانتك عند الامام، واقرأ على مواقفك التي لايرضاها السلام .