الثورات الشعبية كثيرة في تاريخ البشرية، ولكن لم يكتب النجاح لكل هذه الثورات رغم النجاح الظاهر لبعضها. مراجعة التاريخ ضرورة لاستمرار الحياة وتطويرها وليست ترفا فكريا. ففي أوراق التاريخ تختبأ مفاتيح كثير من المعضلات التي تواجه الإنسان المعاصر في حركته الاجتماعية. إن الغفلة عن التاريخ الخزين الهائل للخبرة البشرية هي التي تعيد إنتاج الأخطاء الكارثية، أما التعامل معه بعلمية وموضوعية فأنه يفتح أفاقا واسعة وجديدة للحلول وللخروج من المآزق التي مر بها سابقون ولم يفلحوا في تجاوزها لافتقادهم الخبرة اللازمة.
ظاهرة الاحتجاجات الشعبية التي تعم العراق الآن واحدة من هذه الثورات الشعبية الاحتجاجية على الواقع الذي يعيشه المجتمع ويرفض مظاهر الفساد والفوضى السائدة في كل مرافقه. ومن الصحيح كما المقبول أيضا أن يقول البعض: إن هذه الاحتجاجات يسخرها البعض لتحقيق انتصار على خصوم له سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي. وبرغم ذلك لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يتجاوز حقيقة ثابتة وراسخة، أن هناك تذمر شعبي واسع جدا من الوضع السائد ويطالب بتغييره وان اختلف المحتجون في تحديد مسارات هذا التغيير واتجاهاته. وهذا امر يتوقع حصوله في حالة احتجاج جماعي لا رابط بين أطرافه سوى الرفض للواقع.
لست في صدد تحليل هذا الاحتجاج، إنما أحاول أن اجد اُفقاً زاهيا لهذه الاحتجاجات، وان لا تتحول هذه الانتفاضة الشعبية الرائعة الى خيبة امل جديدة. لا اقدم الاحتمال الأخير من باب التشاؤم أبدا، بل هو من باب القراءة الواقعية للتاريخ القريب والبعيد. التاريخ يقول لم تنجح أي ثورة شعبية في تحقيق أهدافها، ما لم تتوفر لها قيادة واضحة مع خطة عند تلك القيادة، ويقول كذلك أن كل الثورات الشعبية الفاقدة للقيادة نجحت في إحداث اضطراب امني واجتماعي كبير، وتغيير في رؤوس السلطة، لكنها بالمقابل فشلت في تحقيق الغرض الحقيقي الذي لأجله انطلقت. ولم تنجح في رفع الظلم ولا في تحقيق العدل والمساواة بين طبقات وأفراد الشعب، ولا حتى بإنهاء التذمر الشعبي من الأوضاع السائدة.
الثورة الفرنسية التي تعد واحدة من اكبر الثورات الشعبية في التاريخ والتي أصبحت الأم السلف والمثل الأعلى لاحتجاجات وثورات كثيرة. وصارت عبارتها المركزية حرية، مساواة، إخاء ورموزها الثقافية، مثل النشيد الوطني الفرنسي (لامارسييز) شعارات مركزية للاضطرابات الرئيسية الأخرى في التاريخ الحديث، ومن ضمن هذه الاضطرابات الثورة البلشفية نفسها ولو بعد أكثر من قرن لاحق، إلا انه رغم كل ذلك النجاح الظاهر والصيت الذائع ومع أنها أسقطت الملكية وأسست الجمهورية إلا أن محصلتها النهائية كانت شهود فرنسا لفترات عنيفة من الاضطراب السياسي، وتوجت أخيرا بدكتاتورية نابليون. أدى التحريض الشعبي ضد السلطة الملكية واتباعها إلى جعل الثورة متطرفة بشكل كبير وبلغت ذروتها في صعود روبسبير واليعاقبة ومحصلة لهذا التطرف جاء نظام الديكتاتورية التي فرضتها لجنة السلامة العامة خلال عهد الإرهاب. أعدم عدد كبير من المدنيين من قبل محاكم ثورية خلال عهد الإرهاب حتى وصلت التقديرات لعدد من اعدم الى أربعين الف إنسان، وبعد فترة الإرهاب تولى مجلس تنفيذي السيطرة على الدولة الفرنسية أوقف الانتخابات واضطهد رجال الدين الكاثوليك وتم الإطاحة بهذا المجلس في انقلاب قادهُ نابليون بونابارت في 1799 والذي أصبح بطل الثورة الفرنسية بسبب حملاته العسكرية الشهيرة، أسس حكومة القناصل ولاحقاً، الإمبراطورية الفرنسية الأولى، الأمر الذي مهدَ الطريق لمجموعة من الصراعات العالمية.
السؤال الذي يطرح أين هي مطالب الجماهير الثائرة التي اقتحمت الباستيل ورفعت الشعارات الجميلة في ظل هذه الحروب والصراعات؟ لن نجد لها أثرا سوى شعارات متداولة واحتفالات سنوية، بينما ظل المواطن الفرنسي الثائر يعاني من الجوع وفقدان الأمن والحروب.
ولو غادرنا التاريخ الى أحداث معاصرة مثل ثورة يناير المصرية والنهضة الليبية ضد حكم القذافي سوف نجد الحال نفسه حاضراً حروب وفوضى وغياب شبه تام لمطالب الشعب الثائر. المشاكل في هذين البلدين تزداد عمقا والإحباط يملأ النفوس التي كانت الى وقت قريب تضطرم فيها نيران الثورة والتمرد وتفخر منتشية بروحها الثورية. النتيجة الفعلية الواقعية الظاهرة للعيان بلا ريب للكل هي خروج قادة لم يسمع بهم احد من قبل. خرجوا ليختطفوا الثورة ومعها كل أحلام الثوار والمستضعفين. بالمقابل، كل ثورة كانت تقود حركتها قيادة واضحة فإنها استطاعت الإطاحة بالنظام وبناء نظام جديد مستقر سياسيا وحققت طموحات وأهداف هذا القائد واتباعه. هذا ما حصل في ثورة أكتوبر الروسية وفي الثورة الصينية وكذلك في الإيرانية. لسنا هنا في مجال تقييم هذه الأنظمة وبيان مدى صلاحيتها، ولكن لا يمكن إغفال الحقيقة الأكيدة وهي أنها صنعت أنظمة استطاعت أن تحدث تغييرا حقيقيا. تغيير فعلي، طال قلب النظام وقلب كل أحواله. تغيير صير واقعا جديدا يختلف بالمرة عما كان، وبالتالي نجحت هذه الثورات في تحقيق أهدافها وغاياتها. واذا كانت هناك من خيبة امل بعد نجاح هذه الثورات، فليس ذلك لان الثورة أنتجت نظاما يختلف فكريا عن فكر قادتها وفكر المؤمنين بهذه الثورة، بل لان هؤلاء القادة المعروفين ومن وضع الجمهور ثقته بهم تعسفوا في تطبيق الفكر الثوري.
حتى لا نسترسل في تحليل سبب نجاح وإخفاق الثورات، علينا أن نطبق هذه الميزة على حملة الاحتجاجات العراقية التي يطلق عليها اسم الثورة، وقطعا هي لا تحمل (لحد الآن على الأقل) مميزات الثورة. هذه الاحتجاجات ولدت نتيجة انعدام الثقة بين الشعب والسلطة، لان الشعوب يمكن لها حتى مع الجوع والحروب أن تواصل الشعور بالانتماء للدولة وتحاول إصلاحها من الداخل، لكن عند غياب الثقة بينها وبين أجهزة الدولة تحدث قطيعة نهائية ولا يمكن بعدها أن تقبل بالإصلاح الداخلي، بل سوف تسعى الى التغيير الكامل، لأنها باتت تشعر بأن السلطة بأسرها منتمية لنظام فاسد وإن الإصلاح الوحيد لها هو قلع النظام وجميع منتجاته بشكل كامل. إن ما يهدد هذه الاحتجاجات الشعبية إضافة لفقدانها للقيادة الواضحة، فقدانها كذلك للبرنامج التغييري ولو بصورة مبدئية. فلا احد يمكن له أن يعرف بالتحديد ماذا يريد المحتجون من هذه الثورة غير المطلب الرئيسي الواحد وهو الاحتجاج على الوضع الراهن ورفض النظام والعملية السياسية بشكل مطلق. أي مطلب يطرح الآن هو واحد من مطالب سطحية كثيرة غير مدروسة ولا يمكن لها أن تتحقق بسهولة ولن تكون حلولا ناجعة للمشكلة الحقيقية. مطلب مثل المطالبة بالنظام الرئاسي أو بإلغاء مجالس المحافظات أو تقليل عدد النواب كلها مطالب شكلية لن تساهم في حل المشكلة الحقيقية. هذه المطالب المتعددة هي بنفسها تعبر عن فوضى الحلول التي تختزنها الاحتجاجات، والفوضى ناجمة عن فقدان هذه الاحتجاجات للفكر الواحد ولا أقصد به العقيدة الايدلوجية ولغياب الشخص القائد الموجه لها. لهذا السبب سوف يسهل جدا الالتفاف على هذه الحركة الجماهيرية الكبيرة بعد أن تضع أوزارها وتظن أنها قد بلغت غايتها، وحينها سوف تجد نفسها عند ما تحسبه لحظة الانتصار، تائهة لا تعرف ماذا تفعل؟ ولا الى أين تسير؟ وسوف يخرج حينها من بين الركام قادة لم تسمع بهم ليحصدوا ثمار زرع أنبته غيرهم بدمه وعرقه وماله والتجارب العالمية كثيرة وشاهدة على صحة هذا التنبؤ. سوف يحدث صراع بين طلاب السلطة وعشاق القوة والمال، والكل سوف يجعل من نفسه متحدثا باسم الثورة وجمهورها، فيما لن يحصد الثوار وقتئذ إلا الحيرة، اذا لم يحصدوا شيئا آخر اكثر مرارة منها.
لا ينبغي أن يوضع هذا الحديث في خانة التثبيط على الثورة، أو أن يتخذ ذريعة لإيقافها، بل بعكس ذلك تماما فالثورة ينبغي أن تواصل مسيرها، وعلينا أن نواصل الدفع باتجاهها بكل ما نملك من قوة وجهد، لان لا حل حقيقي للمشاكل الاجتماعية سوى ثورات الشعوب. ما ينبغي الوقوف عنده، هو تخليص الثورة من عوامل فشلها، واهم عوامل فشلها هو غياب القيادة الواضحة ونظرية التغيير. هذا الغياب هو السبب الرئيسي في تسلل أصحاب الغايات الخاصة لها بحجة شرعية المطالب الثورية. وجود هؤلاء واعني بهم أصحاب الغايات الخاصة هم ذريعة يتذرع بها من يحاول عرقلة الثورة من الفاسدين. فهذا يريد تصفية المقاومة بحجة المطالب الشعبية الشرعية، وذاك يريد أن يدافع عن فساده بحجة الدفاع عن المقاومة. كلا النوعين يرجع لمعدن واحد وهو تحقيق الغايات الخبيثة والأغراض الخاصة بآمال وهموم وجهد غيره. ولا حل للتخلص من الفشل ومن هذين الفريقين إلا ببروز قيادة واضحة وبرنامج متفق عليه بشكل أولي لشكل ومستقبل التغيير. أما من يتحدث عن العفوية فهو بين حالين، إما لم يقرأ التاريخ جيدا وأنه يفتقر للوعي الثوري حتى وان تملكه حسن نية كبير وإخلاص عظيم لثورته، أو انه يفعل ذلك متعمدا لأنه يريد سرقة الثورة بتركها تتخبط في عشوائيتها.
في الختام أقول: أن لا شيء في هذا الوجود كله يسير بلا نظام وبدون قانون يحكم حركته. ولم تنتج العشوائية والحركة غير المنضبطة بقانون أو آلية محددة، إلا الفوضى. هذا الكون باسره والتاريخ بأكمله أمامنا وليجد من يدافع عن العفوية مثالا حسنا واحدا فقط أخرجته لنا الحركة العشوائية التي تسمى من باب المجاملة بالعفوية أو “خليها على البركة” غير الفوضى المدمرة والفشل، فهل بعد ذلك نأمل من الفوضى أن تنتج لنا نظاما فضلا عن كونه جميلا.