سركون بولص .. المعاني بصور متقنة للحياة فك الترابط التاريخي بين الشكل والوزن ونجح بتركيزه على المعنى طوع اللغة لصالح شعره و رسخ موسيقى أبياته علاجاً للروح
يوصف عطاءه الشعري بأنه راقي ، وأنه أبدع في صياغة الصورة الشعرية على مدى مسيرته التي امتدت من كركوك الى بغداد وغطت مساحة العراق، ثم ابتعدت به تلك المسيرة حتى استقر في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، هو من جيل الستينات الذي لازمه الإبداع بكل مضامينه حتى بات علماً تشهد له الدنيا بشاعريته وفنه وأدبه.
حاول سركون أن يفك صيرورة الترابط التاريخي بين الشكل والأوزان في معظم قصائده ونجح في تلك المحاولة ، عبر تركيزه على المعنى ، وهي بوابة التجديد التي أرتكز عليها سركون ، فأحكم عبرها بناء القصيدة وفقا لمعناها كما يذكر له ذلك الكثير من النقاد ، وخرج أيضا من كل تأثيرات الشعراء الآخرين الذين كانوا يؤثرون في الساحة الشعرية ، كما لم يتأثر بالحداثيين.
دع التيار يأخذ ما يريد دعني أبق في مكاني أعطني هذه اللحظة أريد أن أسمع القصة كيف نحمل العبء ؟ وننهض بعد الطوفان ؟ كيف نمضي مرة أخرى إذا ما جاءتنا أيام عرفنا فيها أعاصير لا تكف عن اقتلاع الأشجار من جذورها. من ينزع هذه الشوكة السوداء من قلبي الآن ؟. البحث عن طول الطريق عن شيء أقوله يليق بالمقام يا إلهي أعتمد سركون بولص تعدد المعاني في معظم أشعاره أو دواوينه ، فكانت أبياته من الروائع التي تشي بتنوع فريد متقن يصف كل أوجه الحياة ، التي استطاع بولص تكريسها عبر الوصف الذي ميز كل ابعاد أو أركان قصائده ليشي بصور متنوعة من الحياة ، تتبدل بتبدلات الحالة الشعرية أو الرمزية التي استخدمها فأضفى على قصائده من خلالها سمة مضافة للإبداع الذي ذهب إليه سركون رغماً على الشعر وليس بإرادته ، فهو شاعر متقن متنوع مجدد بعبقرية تمنح القصيدة عمقاً مضافاً يحفظ لها رمزيتها والدلالة التي صيغت من أجلها.
داعب سركون قلوب القراء بذكاء مفرط حتى تربع فيها بتسامي وترفع ، أحبه الجمهور وخصص له مكاناً يليق به ويؤهله لاحتلاله كما الشعراء الكبار. ربما لم يأتي شاعرا أخر غير سركون بولص على أن يختار بدايات احد دواوينه بقصيدة تحمل رمزية معينة ، ثم ليعود وينهي الديوان بقصيدة ربما تتماثل في الشكل مع الأولى لكنها تختلف عنها قطعاً ، وهذه مفارقة إبداعية ذهب إليها بولص لم تسجل عند غيره، ما يحمل القارىء الشعور بالتجديد الذي يعطي انطباع الدهشة عند سركون ولا تجده عند الكثير. كرسي جدي مازال يهتّز على أسوار أوروك تحته يعبرُ النهر, يتقلّب فيه الأحياء والموتى ويُضَمنَ الختام :
يهتّز كرسي جدّي المواجه للنافذة يهتّز على أسوار أوروك يهتّز حتّى وهو فارغ, لا يجلس فيه أحد.
كتب سركون بكل وعي واستخدم الشواهد ، وأكمل دورته الشعرية التي هي كما دورة الحياة لم يبقي على خلل فيها يتيح للآخرين إدانته، يوحي عبر قصائده وبشكل دائم لكنه ليس مكرر إنه ضمن وصاياه من خلال أبياته التي كرس شواهده فيها باستخدام الغياب كتعبير عن الخلود ، تأمل بواطن الأمور ولم يشر الى الظاهر منها وبشكل عابر ، بل تعمق في استخدام المعاني حتى خرجت مفرداته مضمخة بالحكمة والنضوج ، عالج الذات قدر إحساسه بالعالم وداخل في معالجته الحزن المتداخل بلغة الشعر ليحمله لوناً أخر من موسيقى الروح ، و ليعبر عما في الشعر من ألم ، كما هو في الروح. وبمفرداته التي حَملها أكثر من نغمة محببة للقارئ والتي جسد عبرها علاقة الشعر بالنغمة التي تتداخل مع اللغة ، والتي استخدم لتوضيحها مجموعة من التراكيب اللغوية الطيعة للتداول (إن جاز لنا أن نسميها) ،لينجح مرة أخرى في تركيب تلك اللغة الجميلة عبر أبياته كيفما شاء ، وبطريقة حاذقة قوية قادرة على إيصال المعنى حتى ولو كان ضمنياً عبر تراتيل موسيقية جميلة، تدفع قارئها للشعور بأنه في قداس وليس غيره.
ما من كلمة فيها نزف حكمة حتى لو كانت بسيطة وماذا يقول المرء عندما يموت في مكانه الآخر ؟ إذا ابتسم لا فرحًا بدا كأنه يبكي ما وراء الحزن أو أن أتناسى المضائق وأنطلق صوب البحر. كم من حياةٍ يا إلهي مرت بي معولة ، آتية من هناك ، معصوبة العنين لئلا ترى. كم من حياةٍ تسحق كل يوم معنى أن أغادر موضوع قد يستغرق الأبد .. حمل سركون بولص قصائده كل الأسئلة ، حتى يظن من يقراها إنها استفهامية، لكنها لا تخرج من عباءة الواقعية ، والواقعية المجردة ،باستثناءات يعرف بولص متى يستثني منها المعتاد ، ومتى يرجع ليكون على غير شكلها السردي ، قدم سركون شعراً ممتعاً لا يختلف عليه أثنين ،يسيري في دواخلنا إن قرأ بتمعن وفهم وتركيز ، ومن فرط بساطة لغته يتراى للقارئ أنه استخدم مفردات بسيطة فعلاً ، لكن عند التعمق نجد إن المعاني التي تحملها تلك البسيطة لا يقوى ربما على الإتيان بها شاعر أخر، وتلك هي قوة سركون في تحدي الآخرين. مازج سركون قصيدته بالتمعن ، والأسئلة، والتأمل، وموسيقى الكلمة، وموسيقى الشعر ، والموسيقى بحد ذاتها ، والقافية ، و اللاقافية ، وخرج بمزيج من هذا كله قصيدة إبداع خلدت سركون ، ودفعت به الى مكانة متقدمة في سباق الشعر ، حتى بات ينافس على الذروة.
كلّ ما نحلمُ به ألا تعصفَ بنا هذه الأعاصير: زاويةٌ ننامُ فيها، صفحةٌ بيضاء حيثُ لا تكذبُ الكلمات هذا ما صلّيتُ من أجله الليلة، ولم أعرف معنى صَلاتي“ كانت هذه الزاوية؛ وهذه الصفحات الممتلئة بِالهذيان. سركون لا تكذب كلماته؛، فيقول ” الميت في تابوته” لا يطالب بالبلاغة“ دأب سركون على استخدام كل مفردة حياتية معتادة ، طبيعية يعرفها القاصي والداني، حتى إن استخدامها في هذا التوقيت وبتلك المساحة هي ما يثير الدهشة عند المتلقي ، وليس المكان الذي أراده بولص لتلك المفردة ، هو شاعر ينتقي انتقاء مكان كلماته ، ولا يخرج عن ذلك أبدا حتى باتت سمة من سماته التي ميزته عن غيره ولحدود بعيدة.
مَن مضوا مضوا ربما كانوا أقرب الآن من أسوار الغيابوربما وجدت ذات يوم خاتم الدنيا على إصبع أخيك الغائب هذه اللعبة المغشوشة مع اليقين أو عندما بعد أرق طويل تنام بشفاه لا تقول شيئاً كان يمكن أن تقول ها هي الكلمة التي لم تنم من أجلها أياماً “أيها الصعلوك الخارج من سفر التكوين ليخرب بندول الساعة” استطاع سركون أن يطوع اللغة لصالح شعره ، أن يكتب كيفما يشاء فتكون موسيقى أبياته علاجاً للروح ، هو يعرف المناورة والالتفاف على مسارات الشعر وعلى القارىء ،لكن دون خديعة ، بل يجعل القارىء نفسه يبحث عمن يخدعه عبر أبيات بولص الرائعة.
سركون شاعر من الكبار دفع بكل قوة نحو خلود تجربته التي بدءها في كركوك وانتهى به المطاف في كاليفورنيا ، برحلة اغتراب شاسعة المسافة ، لكنها قريبة من القلوب جداً ، سركون بولص طيع التاريخ الشعري بين يديه ، فاستحالت المفردات أسيرة أبياته ،يلعب بها بإتقان كيفما شاء . يمكنك أن ترمي بمفتاحك في البحر طالما: لا القفل في الباب، لا الباب في البيت و لا البيت هناك