22 نوفمبر، 2024 6:24 م
Search
Close this search box.

كيف مهّد الشيوعيون واليساريون لمجزرة “كركوك”؟؟!!

كيف مهّد الشيوعيون واليساريون لمجزرة “كركوك”؟؟!!

كلمة لا بد منها
قد يلومني البعض من المؤرخين والمتابعين لأوضاع العراق أني أثير الضغائن والأحقاد في كتابتي لمقالات عن وقائع وأحداث فرضت أوزارها على وطني الحبيب بعد إنقضاء عقود عليها.
ولكني أرى قطار العمر وهو يخترق الأعوام بسرعة البرق، ولا بد من سردها كوني لم أعشها أو تعايشتُ في أتونها فحسب، بل كنتُ شاهداً عليها ومسجّلاً في أجنداتي السنوية نُبَذاً عنها تساعدني بعد بلوغي العقد السابع من عمري، لذا أرى لزاماً عليّ كشفها وفقاً لرؤاي ومشاعري ووجهات نظري عسى أن يفيد منها من يبحث عن تأريخ العراق المعاصر بعد الإنقلاب على العهد الملكي عام (1958) وإنبثاق العهود الجمهورية وما صاحبتها من سيول الدماء والأجساد المتناثرة لأسباب ودواعٍ سياسية شتى ولغاية يومنا هذا.
وتمثل هذه المقالة باكورة ما سأسهب فيه من أحداث عشتها في مدينتي “كركوك”، والتي تمثّل ثانية مدن العراق التي شهدت أعمال ((عنف ثوري-يساري)) عام (1959)، وقد تكون أهلاً لإطلاع العراقيين عليها على وجه الخصوص.
“كركوك” بُعَـيـدَ إنقلاب 14/تموز/1958
كان يوم (الإثنين-14/تموز/1958) يوماً عراقياً عادياً -غير مشؤوم- ذا طقس جحيمي لا يُطاق أسوة بسائر أيام شهر تموز المُحرِق في هذا الوطن الساخن في أجواهه وأوضاعه ومواطنيه، لولا ((البيان الأول)) الذي تلاه “العقيد الركن عبدالسلام عارف” على مسامع العراقيين والعالم أجمع من أستوديوهات دار الإذاعة العراقية بالساعة السادسة من صبيحة ذلك اليوم، معلناً إزاحة النظام الملكي العراقي الذي ظلّ قائماً على حكم العراق طيلة (37) سنة.
وفي حين عدّ البعض من العراقيين ذلك اليوم شؤماً حلّ بربوع وطنهم ومستقبلهم، فقد رأى فيه آخرون خلاصاً من الحكم الملكيّ المرتبط بالرأسمالية والإمبريالية والإستعمار الغربي -على حد رؤاهم- أسوة بما وقع في “مصر” قبل (6) سنوات من ذلك التأريخ.
وواقع الحال الذي يجب أن يُقال، أن تركمان العراق بشكل عام ومواطنو لواء/محافظة “كركوك” التركمان على وجه الخصوص لم يستبشروا خيراً من ذلك الإنقلاب الدموي والفوضى السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية التي فرضت أوزارها في البلاد وقلّبَت الأمور رأساً على أعقابها، وذلك لمِـا كان “التركمان” مستأنسين به من نِعمة الأمان والأمن والعيش المقبول والتمتّع بإستقرار يُحسدون عليه، وبما أنعم العلي القدير على أرضهم من مياه عذبة وأراضٍ خصبة طيلة التأريخ وقبل أن يُضاف إليها البترول خلال العقود الثلاثة المنصرمات، وتحديداً منذ عام (1927)، حيث تحوّلت مدينتهم ونواحيها إلى محطّ أنظار العراقيين وعموم المنطقة والعالم الصناعي المتمدّن، فتطورت وتوسعت وتعمّرت وتضاعف سكانها وأهلوها وتصاعدت إمكاناتها، وتدفّق إليها عشرات الألوف من العراقيين طموحاً بالعيش الرغيد والرواتب المقبولة والمخصصات المرموقة، فتصاعدت في ربوعها المصالح التجارية والإقتصادية وتعالت بأوساطها البناء والعمران.
“كركوك” لغاية آذار-مارت/1958
في تلكم الأيام إستثمر الألوف من الأكراد الفلاحين والرعاة الساكنين وسط البعض من القرى والنواحي المحيطة أو القريبة من “كركوك” تلك الأوضاع الهشّة مستغلّين شبه الفراغ السياسي ومحدودية الأمن والأمان وتراجع سطوة الحكومة والقضاء ومؤسسات الشرطة والأجهزة الأمنية ومراكزها وتعليق العديد من القوانين ومظاهر عديدة من الفوضى السياسية التي عمّت البلاد، ليشدّوا الرحال مع أفراد عوائلهم تاركين ديارهم متدفّقين بالآلاف ليستقروا في مدينة “كركوك” مستأجرين بيوتاً بسيطة أو مساكن مشتركة أو غرفاً منفردة، وبالأخص في حَيّي “الشورجة، آخر حسين” العشوائيتين ومحلتَي “إمام قاسم، وآلمــاز”، فضلاً عن أحياء متواضعة سواها وأراضٍ فارغة في البراري مملوكة للدولة في الضواحي على جانبَي طريقَي “السليمانية وأربيل”، فيما سارع العديد منهم للإنضمام إلى صفوف ((ميليشيات مسلّحة)) غير منضبطة معظمهم ينتمون إلى طبقات متواضعة للغاية من المجتمع وأطلقوا على أنفسهم تسمية ((اللجان الشعبية للدفاع عن ثورة تموز العملاقة)) قبل تغيير تسميتهم إلى ((المقاومة الشعبية))، والتي أُنيطت لها صلاحيات غير قانونية بعد أن أسسها الحزب الشيوعي العراقي الذي أمسى يحاول مدّ أذرعه إلى معظم بقاع البلاد، فضلاً عن أحزاب وكتل سياسية يسارية إنبثقت جهاراً وطفحت على السطح خلال أشهر النصف الثاني من عام (1958) ومن دون موافقات رسمية نظراً لعدم سنّ قانون أحزاب جديد للعهد الجمهوري، وكان “الحزب الديمقراطي الكردستاني” أعظمها فاعلية وسطوة وبالأخص بعد أن عاد “الـمُلاّ مصطفى البارزاني” من منفاه الإختياري لدى الإتحاد السوفييتي بدعوة من “الزعيم عبدالكريم قاسم”.
ولكن ((الزعيم الأوحد)) غضَّ الطَرف عن تلكم الأحزاب وعملها المشهود في الساحة السياسية العراقية وتصرفات أعضائها وأتباعها مهما كانت مستوياتها، وذلك قبل أن يُضفي صفة رسمية وقانونية بعدئذ لصالح الميليشيات المسلّحة وذلك بتشكيل مؤسسة رسمية لإدارة منتسبيها وقيادتهم وصرف رواتبهم ومخصصاتهم والسيطرة المفترضة على أسلحتهم وتجهيزاتهم وملابسهم تحت مسمى ((القيادة العامة للمقاومة الشعبية)) مُنيطاً مسؤولية قيادتها إلى “العقيد طه مصطفى البامرني” رغم كونه أحد قادة لواء الحرس الملكي لغاية يوم (14/تموز/1958) تحديداً قبل أن تنقلب موازين العراق ويغدو أحد أبرز ((الأبطال اليساريين!!!)).
ويوماً بعد يوم فإن الشيوعيين المؤتمرين بتوجيهات “موسكو” من دون أي ريب، وإلى جانبهم أعضاء الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتيون) العائدون بصحبة “ملا مصطفى البارزاني” والذين توحّدوا في كتلة سياسية واحدة أسموها ((الجبهة الوطنية الموحّدة)) أقدموا بخطوات لا يمكن إلاّ أن توصف في حقيقتها وواقعها بـ((الجريئة للغاية)) على إختراق الدوائر الأمنية والوحدات العسكرية والمؤسسات الحكومية والخدمية والمنظمات المدنية المنتشرة في “لواء/محافظة كركوك” -كما كان الحال ذاته في توجّهات مكاتب الحزب الشيوعي في جميع بقاع العراق- مستحوذين عنوةً على مقاليد أمورها وفقاً لأهوائهم وأوامر قادتهم وبمباركة من لدن زعيمهم الأوحد “عبدالكريم قاسم” ونظامه الذي أرخى شآبيب الحبال لصالحهم أو غضّ الطَرف عن تصرفاتهم مهما بلغت مراميها وتوجّهاتها، وبصحبتهم أفراد مسلّحون يفرضون إراداتـهم السياسية والفئوية على مديري الدوائر وموظفيها، في حين أضحوا ينطلقون في مظاهرات يومية -نهارية وليلية- وهم يستفزون التركمان علناً من دون رادع، سواء في “كركوك” أو المناطق ذات الأغلبية التركمانية، مطلقين هتافات ورافعين شعارات تحتوي عبارات ((عملاء الإستعمار.. أذناب الرجعية.. وكلاء حلف بغداد والأطلسي.. بقايا العثمانيين والرجل المريض.. الموتورون والحاقدون على الثورة.. السائرون في ركاب شركات النفط الإحتكارية.. الـمُعَرِّضون لمكاسب الجمهورية الفتيّة والثورة المباركة للخطر)) في إشارات واضحة إلى أبناء القومية الثالثة في العراق.
بعد إنقلاب تموز مباشرة صدرت قوائم عديدة نُقِلَ بموجبها عدد من الضباط التركمان من مواقعهم ووحداتهم في فرقة المشاة/2 إلى تشكيلات تنتشر في معسكرات بمناطق العراق الوسطى والجنوبية… وبعد إنقضاء حوالي (6) أشهر على ((ثورتهم المباركة)) وبمناسبة يوم الجيش العراقي المصادف (6/ك2/1959) صدرت قوائم بإحالة معظم الضباط التركمان من رتبة “عقيد ومقدم” وربما أدنى منهما على التقاعد لأسباب شتّى، فيما نُقِلَ عشرات آخرون من ذوي الرتب الصغيرة وحتى ضباط الصف والجنود التركمان إلى وحدات عسكرية تنتشر في أقاصي شمالي العراق وبقاع نائية أخرى في وسطه وجنوبيّه، بينما كان المئات من الموظفين المدنيين التركمان يُنقَلون بأوامر وزارية من “كركوك” إلى ألوية/محافظات وبأوامر إدارية إلى أقضية ونواحٍ نائية، ومن تَجَـرّأ منهم على الإعتراض أو عدم التنفيذ أو المماطلة فقد أُحيلَ على التقاعد أو فُصِلِ من الوظيفة أو أُقصِيَ من الخدمة، كل ذلك لأجل إحلال موظفين أكراد أو عدد ضئيل من الشيوعيين العرب أو الآثوريين والكلدان وسواهم من الذين جيء بهم إلى “كركوك” محلّهم، حتى أمسينا -نحن التركمان- نتلمّس بأن دوائر الدولة ومراكز الشرطة والوحدات العسكرية قد غدت مُلكـاً لأولئك الغُرباء يصولون فيها ويجولون على مرامهم ووفقاً لأهوائهم ويفرضون على الموظفين والمراجعين كافة ما يحلو لهم.
“ناظم الطبقجلي” ومواقفه لصالح “كركوك”
كان “الزعيم/العميد الركن ناظم كامل الطبقجلي” قد عُيِّنَ مطلع أيام إنقلاب “تموز/1958” قائداً لفرقة المشاة/2 و((حاكماً عسكرياً)) للمنطقة الشمالية -بحكم الأحكام العُرفية المُعلنة في جميع البلاد- وقد عُرِفَ كونه ضابطاً محترفاً، مهنياً، شجاعاً، محافظاً، متديّناً، ذا أخلاق سامية، فضلاً عن حرصه على بقاء العراق متمسكـاً بتقاليده وعاداته الموروثة، ولم يكن يتقبّل قلباً وقالباً تصرفات الشيوعيين والبارتيين واليساريين بشكل مطلَق، ولمـا كان هذا الضابط المخضرم قد تدرّجَ برتب ومناصب مختلفة لسنوات عديدة من خدمته العسكرية الطويلة في وحدات الفرقة/2 ومقرات تشكيلاتها ووحداتها المنتشرة في “كركوك” ووسط ألوية/محافظات المنطقة الشمالية من العراق وأقضيتها، فقد كان على يقين ومعرفة عميقة عن مدى ((تركمانية كركوك)) ومُجاهراً بذلك أمام الجميع وكائناً من يكون، لذلك حاول جاهداً أن يحافظ على أمن البقاع الشمالية التي تقع على عاتقه مسؤوليتها جميعاً، ولكنه إهتمّ بـ”كركوك” بشكل أعظم لمـا قد طفح في أوساطها وبين مكوناتها وطوائفها من أحاسيس ومشاعر متعاكسة وتوجهات سياسية متضادّة ظلّت تتصاعد بإنقضاء الأيام لتكون أشبه بنيران ستتأجج من تحت الرماد وسيل جارف وخطير يُنذر بعواقب وخيمة، ولطالما وقف في أحداث عديدة -لا مجال لتفصيلها- إلى جانب الحق في أكثر من واقعة فرضت أوزارها طوال أشهر متلاحقة من وجوده على قمة هرم الفرقة/2، ولذلك كان من الطبيعي أن يتهمه اليساريون عموماً بميله إلى ((التركمان-الرجعيين)) في “كركوك” ومناهضته لـ((الأكراد التقدميين-الثوريين)) الذين بات البعض منهم يزعم أن “ناظم كامل الطبقجلي” ((تركماني))، رغم كونه عربياً ينتمي لعائلة دينية سكنت جزيرة “آلـوس” وسط نهر الفرات تتسلسل من عشيرة إستقرت في بقاع “قضاء حديثة” الواقع بأقصى غربي العراق.
“كركوك” يوم حركة “العقيد الشواف” الإنقلابية
ولتفاقم ما إستشعر به التركمان من أحاسيس الحيف والظلم في مدينتهم ومخاطر الخطوات البائنة لتحويلها إلى بقعة كردية بشتى الأساليب القسرية وبمباركة حكومية، فإنهم حالمـا سمعوا من الإذاعات خبر إنبثاق حركة “العقيد الركن عبدالوهاب الشواف” آمر لواء المشاة الجبلي/5 في مديـنة “الموصل” صبيحة يوم (الأحد-8/آذار-مارس/1959)، فإن طلاب مدارسهم -وكاتب هذا المقال من بينهم- وجماهيرهم الحاشدة أغلقوا أبوابهم منطلقين -عفوياً- بمظاهرات عمّت شوارع “كركوك” واقفين قبالة مقرات الحزب الشيوعي ومكاتب الأحزاب الكردية وفروع المقاومة الشعبية وهم يتحدون ويزمجرون صبيحة ذلك اليوم تأييداً لتلك الحركة المناهضة للحكومة القائمة، تلك المظاهرات التي ظلّت سائرة في معظم شوارع المدينة حتى حـلَّ العصر ومن دون دراية بذلك الإخفاق السريع الذي أصابها ظهر اليوم ذاته ومصرع “العقيد الشواف” إثر قصف جوي بطائرات النظام النفاثة على مقر قيادته في “معسكر الغزلاني” وتحرّك الشيوعيين والثوريين ومؤيدي “عبدالكريم قاسم” مندفعين بكل قوة لإستباحة تلك المدينة العامرة بـ((أساليب بروليتارية))، فأُلقي القبض على المئات من التركمان وزُجّوا في معتقلات “كركوك” لأيام عديدة قبل أن تتطور الأمور نحو الأسوأ خلال أسبوع.
إن هذه الأحداث المؤلمة ومصرع المئات من الأبرياء في “الموصل” من دون محاكمات سوى تلك التي أجرتها “المحاكم البروليتارية” و”اللجان الشعبية” التي أدارها الشيوعيون واليساريون في ضواحي تلك المدينة ومظاهر السحل والتمثيل بالجثث وتعليق الجثامين على الأعمدة أو تركها وسط الشوارع والساحات أمام الأنظار، جاء وكأنه قد قُدِّمَ بين أيدي الشيوعيين واليساريين ومناصري “عبدالكريم قاسم” على طبق من ذهب، لا في مجرد إحكام سيطرتهم على “الموصل” المستباحة لوحدها، بل ذهبوا أبعد منها بكثير ليستحوذوا ويحكموا قبضتهم على جميع بقاع العراق من إقصاه إلى أقصاه، ومن الطبيعي أن تكون “كركوك” خصوصاً على رأس القائمة كونـها قد إصطفّت جهاراً إلى جانب المناهضين للنظام الثوري الجديد، فضلاً عن أهميتها العظمى إقتصادياً وعسكرياً وإستراتيجياً من جهة، وكونـها مَجلَبةً لأطماع هذا وذاك ومحطّ أنظارهم من جهة أخرى،
التمهيد المبرمج لمجزرة كركوك
يزعم البعض بل ويصرّ آخرون أن “مجزرة كركوك” جرت بالتصادف من جراء شجارٍ وقع مساء إحتفالات الذكرى السنوية الأولى لإنقلاب (تموز/1958) بين متظاهرين تركمان وآخرين أكراد على مقربة من “مقهى14تموز” الذي كان السيد “عثمان خضر جايجي” يمتلكه وسط “شارع أطلس”… فواقع الحال -كما عشناه وشاهدناه بتفاصيله- يبرهن أضداد ذلك من حيث الأساس، فثمة خطوات مدروسة ومبرمجة ومخطط لها بإتقان -لم نتحسسها في حينه- سبقت ذلك اليوم الدموي بأشهر عديدة، وقد نستطيع تلخيصها بما يأتي:-
في اليوم التالي من “حركة الشواف” أُلقيَ القبض على شخص “الزعيم/العميد الركن ناظم الطبقجلي” -قائد الفرقة الثانية والحاكم العسكري للمنطقة الشمالية- وعدد من ضباط أركانه، كان من بينهم “المقدم الركن عزيز أحمد شهاب”، وسيقوا مخفورين إلى “بغداد” بتهمة مشاركتهم في ((المؤامرة الرجعية الرعناء التي إستهدفت ثورة تموز المباركة))… وبذلك خلت “كركوك” ممن يدافع عنها ويلتزم بحقوق مواطنيها الأصيلين، وسيلعب فيها ((الثوريون-التقدميون)) منفردين على هواهم وكما يحلو لزعمائهم.
أصدر “عبدالكريم قاسم” أمراً فورياً بتعيين قائد جديد للفرقة/2 يكون حاكماً عسكرياً لاحقاً للمنطقة الشمالية يتمتّع -بحكم الأحكام العُرفية السائدة بصلاحيات شبه مطلقة في إتخاذ قرارات لصالح الحكومة القائمة- وهو “الزعيم/العميد الركن داود سلمان الجنابي” -الذي قيل عن كونه عضواً عاملاً في صفوف الحزب الشيوعي، في حين أنكر آخرون ذلك زاعمين أنه كان راكباً المـوج ومُسايراً للسيل الجارف- ولكن الأهم من كل ذلك أنه أتى إلى “كركوك” وكأنه يحمل في مكامنه أحقاداً دفينة بحق التركمان تحديداً ومشحوناً ضدهم، فرفعته ((الحشود الشيوعية والبارتية واليسارية)) لحظة نزوله بمحطة قطار “كركوك” محمولاً على أكتافهم ولغاية إيصالهم لإياه إلى قيادة الفرقة الثانية في قلب المدينة… وعلى الرغم من المسؤوليات الواسعة المناطة لهذا القائد والحاكم العسكري فإنه سيرعى جميع إحتفالات الشيوعيين واليساريين في “كركوك” وسواها ويحضر ندواتهم وتجمعاتهم في جميع إحتفالاتهم غير الرسمية والمناسبات الرسمية وسواها، ويكون أبواب مكتبه مفتوحة على مصراعيها لإستقبال زعمائهم.
لم تَمْضِ سوى أيام معدودات حتى أصدر رئيس الوزراء “عبدالكريم قاسم” -بصفته وزيراً للدفاع- ووزراء آخرون قوائم تقاعد جديدة مشروطة بالتنفيذ الفوري، إحتوت أسماء ضباط وموظفين تركمان، فمن لم يكن مشتملاً في قوائم الأشهر السابقات فقد أُدرِجَ إسمه وسط هذه اللاحقات، بينما أمضى الحاكم العسكري العام وعدد من الوزراء على قوائم أخرى سراعاً تحت ذريعة ((مقتضيات المصلحة العامة))!!! وكان من بين عائلتي لوحدها عمي “مفوض الشرطة سامي توفيق بك” الذي نُقِلَ إلى “مركز شرطة ناحية داقوق”، وكذلك والدي الموظف في شعبة تتبع مديرية النفط العامة ((وزارة النفط لاحقاً)) رغم خشيته المشهودة من التدخل بالأمور والمناقشات السياسية فضلاً عن إبتلائه بداء مستديم ورقوده المتكرر في “مستشفى K-1” الخاص بشركة النفط البريطانية (I.P.C) والذي سيفضي إلى إرجاء إنفكاكه من دائرته أشهراً عديدة، وكان إلى جانبه -ضمن القائمة ذاتها- عدد من زملائه التركمان الذين نُقِلوا جميعاً إلى “ميناء تصدير النفط في الفاو” بأقصى نقطة من جنوبيّ الوطن… وهكذا بدت “كركوك” والبقاع التركمانية الأخرى -بشكل عام- وكأنها خَلَتْ من ضباط الجيش والشرطة والأمن وموظفيها المدنيين من التركمان الأصيلين، ليُحَلَّ محلّهم ضباط وموظفون أكراد بشكل خاص والبعض من العرب والمسيحيين الشيوعيين واليساريين الذين جيء بهم نقلاً من بقاع الوطن.
في الوقت نفسه فإن “الزعيم/العميد داود سلمان الجنابي”، وبعد إيقافه لجميع الصحف التركمانية اليومية والأسبوعية التي كانت تصدر في “كركوك” منذ عقود وإغلاقه “مكتبة الإخوان المسلمين” المفتتح في مطلع الخمسينيات، وسماحه بفتح عشرات المكاتب للحزب الشيوعي واليساريين والمقاومة الشعبية، وتعليق منشوراتهم السياسية والتحريضية في لوحات الإعلانات التي تعلّق عليها الأوامر الرسمية اليومية لجميع الوحدات العسكرية ومراكز الشرطة، فقد أمر بقطع خطوط الهواتف المنصوبة في مساكن التركمان منذ أعوام وبشكل أصولي.
وبعد تحريض من القادة الشيوعيين واليساريين الذين أسرعوا للإحاطة به بغية تشويه صورة التركمان أمام ناظريه، فإنه لم يَنْسَ وسط إجراءاته القمعية والتعسّفية -التي أمست تُمارَس بمعدلات يومية ومُمَنهجة- معظم وجهاء “كركوك” وأشرافها والبارزين من محاميها وأطبائها وأصحاب محالـها التجارية، فبالإعتماد على ((مقترحات وجداول جاهزة)) رفعها الشيوعيون واليساريون الذين إستوطنوا فيها وبسطوة إستخبارات الفرقة ومديرَي أمن وشرطة كركوك ودوائرها تحت فقرة ((إستناداً إلى مقتضيات المصلحة العامة!!!))، فقد أصدر رئيس أركان الجيش “اللواء الركن أحمد صالح العبدي” -بصفته الحاكم العسكري العام لكل العراق-
وإلى جانبه مدير الأمن العام بوزارة الداخلية قوائم إحتوت أسماء العشرات من أولئك، والتي قضت بإلقاء القبض عليهم أولاً ثم سوقهم مخفورين بين عشية وضحاها إلى معتقل تسفيرات الشرطة العامة ببغداد، وقبل أن يُبَلَّغوا إمّـا بـ((نفيـهم)) إلى ألوية/محافظات وأقضية محددة في جنوبي العراق أو إيداعهم لدى “السجن العسكري رقم/1” التابع لوزارة الدفاع في “معسكر الرشيد”، فيما كان عشرات آخرون من التركمان قد أودعوا بأوامر “داود سلمان الجنابي” رهن معتقلات الأمن والإستخبارات العسكرية والشرطة المحلية واللجان الشعبية في “كركوك” وغيرها، سواء بتوجيه تُـهَم واهية إليهم أو تحت مسمّى ((أغراض إحترازية)) كونهم ((يثيرون الفتن في أماكن حساسة ويستهدفون أمن ثورة تموز المباركة وإنجازاتها))، متعرّضين إلى شتى طرز التعذيب الجسدي والنفسي على مرأى هذا القائد ومسمعه، وتحت إشراف مباشر لكل من “بطرس مروكي-قاضي تحقيق كركوك” و”عوني يوسف-حاكم بداءة كركوك” و”الشيخ رضا كولاني-مدير أمن كركوك وكالةً”… وقد قيل وقتئذ أن الواقع العددي لأولئك قد تجاوز (1000) تركماني، وشملت من عائلتي لوحدها كلاًّ من أخوالي “المحاميَين سيد فاضل وسيد ناظم سيد نوري الصالحي”، وعمّهما تاجر الأقمشة “سيد محمد سيد عباس الصالحي”.
وإعتماداً على تلك الأوامر والإتـهامات والأغراض والغايات المُبَيَّتة، فقد دوهمت مساكنهم ومكاتبهم ومحالّهم بأساليب إرهابية وفُتّشَت بكل زواياها ومرافقها ومحتوياتها سواء في لحظة القبض عليهم أو بعدها بساعات بأوامر قضائية -معروفة المصادر- أو من دونـها، وتكررت مراراً بمعدلات أسبوعية بغية ترهيب أولادهم ونسائهم وأفراد عائلاتهم وأقربائهم، فمن كان منهم يحتفظ لشخصه بـ((سلاح مُرخَّص)) بموافقات رسمية فقد صودر من دون رجعة، وإن لم يكن كذلك فقد أضيفت تهمة ((حيازة سلاح ناري بشكل غير رسمي)) إلى الأخريات الملصقات به، ولا مجال لإطالة الحديث في هذه السطور عن سرقات النقود والمصوغات والجواهر والمقتنيات الثمينة إلى جانب الإهانات والإذلال والترهيب الذي كان القائمون بالمداهمات وعمليات التفتيش السائدة في طول المدينة وعرضها يقدمون عليها في الليل والنهار، سواء أكانوا أفراداً من ((المُعَيَّنين الجدد)) لدى الشرطة المحلية أو في أمن كركوك أو إستخبارات الفرقة/2 أو في سرية إنضباطها العسكري، أو هم كانوا في غالبيتهم من أفراد ميليشيات ((اللجان الشعبية الخاصة لحماية الثورة)) أو من المنتمين إلى ((المقاومة الشعبية)).
لقد تمتع المنضوون في مكاتب ((المقاومة الشعبية)) بكامل حريتهم في التصرف كيفما يعجبهم ووقتما يقررون وأينما يشاؤون من دون رادع أو مانع، وخصوصاً بعد أن غدت لهم ((قيادة عامة)) يرأسها “العقيد طه البامرني” الذي وُصِفَ -بعدئذ- كونه شيوعياً أنكى من “جوزيف ستالين”،
فإقترفوا بـعموم البلاد، وفي “الموصل” على وجه الخصوص، من الأعمال التي تقشعرّ لها الأبدان والعقول من مشاهد قتل وسحل وتقطيع أجساد وتعليق جثث على الأعمدة، ناهيك عن أعمال نهب وسلب وفرض أتاوات وقطع طرق ومداهمات وسرقات مصوغات وأموال أثناءها، وإهانة وإذلال وتعذيب حتى الموت وسط سجون ومعتقلات عسكرية رسمية وشبه رسمية وأخريات شعبية وبروليتارية وثورية، وقد حققوا بذلك رعباً في القلوب وإحباطاً بالمعنويات سَرَيا إلى نفوس التركمان في “كركوك” وبقاعهم الأخرى، لإستشعارهم بكونهم أهدافاً مؤكّدة للإعتقالات والمداهمات في أية ساعة تقررها مكاتب المقاومة الشعبية التي مارست المئات من تلك الأعمال بحق التركمان آناء الليل وأطراف النهار وتحت أنظار الحكومة ومسؤولي مؤسساتها، حتى إضطر الخائفون منهم -وكذلك الشجعان- إلى التخلّص من أسلحتهم النارية وحتى الجارحة التي كانت مُخَبّـأة في الجحور بكل أسلوب ممكن، سواءً بطمرها وسط حفر عميقة، أو بإيداعها في أعماق وجدران الآبار المحفورة داخل مساكنهم أو خارجها لأغراض شتى، وحتى بقذفها في المقابر البعيدة والبراري، بحيث لم يَبْقَ سلاح حتى بمستوى “المسدس الشخصي الصغير” وربما “الخنجر أو السكينة الكبيرة” لدى أي بيت أو مزرعة أو حقل أو بستان تمتلكه أية عائلة تركمانية.
وفضلاً عن كل ذلك، فإن ما يُصطَلَح عليه وسط المصطلحات والأدبيات السياسية بـ(إرهاب الدولة) كان سائراً على قدم وساق ومُطبّقاً في جميع أحياء “كركوك” وشوارعها، وخصوصاً في ساعات الليل المتأخرة، إذْ الناس نيام في مضاجعهم والهدوء يعمّ بقاعهم فتكون هتافات الحناجر واضحة ومؤثرة، ولا أستذكر أن عبرت علينا ليلة واحدة خلال الأشهر الأربعة (من آذار-مارت ولغاية حزيران/1959) في “محلّة المصلّى” ولم يفاجئنا بعد منتصفها عشرات من الأشخاص الممتطين على سطوح شاحنات عسكرية أو شبه عسكرية وبينهم فتيات (رفيقات) في مقتبل العمر، وهم يلوّحون بـ(المطارق والمناجل) والحبال والعلم السوفييتي الأحمر المزدان بالمطرقة والمنجل من دون علم العراق في عهده الجمهوري ((الزاهر!!!)) والذي وُضِعَ وصُمِّمَ لخدمتهم ولأجلهم، ويطلقون النار من أسلحتهم في بعض المرات، ويهتفون ((ماكو مؤامرة تصير،،،،، والحبال موجودة)) ويتغنّون راقصين بما تعوّدوا عليه ((عاش زعيمي عبدالكريمي،،،،، الحزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي)).
وهكذا كاد الشيوعيون أن يصبحوا سادة العراق جميعاً بلا منازع بعد أن خفّت تحركات الأحزاب المتطرفة الأخرى -المؤمنة بإستخدام القوة سبيلاً إلى المقاومة أو الوصول إلى سُـدّة الحكم، من قوميين وبعثيين وإخوان مسلمين- ولكن على الرغم من ذلك فإن “عبدالكريم قاسم” لم يتقبّل أو يستهضم أن يكلّف أحداً من زعماء حزبـهم وقيادييه بتشكيل مجلس وزراء جديد -كما كانوا يطالبون ويتمنون- على الرغم من إناطة عدد من الحقائب الوزارية الخدمية للبعض منهم، محتفظاً لشخصه بمنصَبَي رئيس الوزراء ووزير الدفاع، ومستحوذاً على مقاليد الحكم بوزراء معظمهم من أصدقائه وزملائه العسكريين في الجيش و”تنظيم الضباط الأحرار” الذي كان على رأسه منذ عام (1956)، وذلك إلى جانب سلطة قضائية تأتمر بتوجيهاته وأوامره في عموم القضايا وخصوصاً السياسية منها، ومن دون أن يشكّـل مجلساً لقيادة الثورة -كما جرت العادة في معظم الثورات والإنقلابات- أو يؤسس سلطة تشريعية ورئاسة جمهورية ربما تعلو بصلاحياتهما الدستورية على صلاحياته المطلقة.
ولكن، ورغم كل هذا الترهيب والرعب والضغوط النفسية والعائلية التي مُورِسـت بحق التركمان بأساليب ووسائط شتى مصحوبة ببعض الترغيب والوعود لإستحصال مناصب مرموقة أو الإعادة إلى الوظائف أو إلغاء عقوبات النفي أو إطلاق السراح من السجون والمعتقلات، فإنهم صمدوا عقائدياً رافضين الرضوخ للشيوعيين واليساريين، ولم يَنتَمِ أي منهم إلى صفوف تلك الأحزاب والميليشيات المسلحة بشكل مطلق، بإستثناء عدد ضئيل للغاية لا يتعدى تعدادهم أصابع اليد الواحدة، والذين كانوا من ذوي النفوس الضعيفة أو من المتملّقين والمتزلّفين والمأجورين وذوي السمعة الشخصية أو العائلية المنحطـة، وربما إنضموا إلى صفوفها للتستّر على ماضيهم غير النظيف وسعيهم للإنتقام من أشخاص محددين في أية فرصة سانحة فضلاً عن إحتمالات الإفادة المادية والمناصبية والجاه الذين كانوا لا يحلمون بها.
وأتت الخطوة الأخيرة تمهيداً للمجزرة في أواخر شهر (حزيران/1959)، إذْ بوغت التركمان بقرار مفاجئ من “عبدالكريم قاسم” بعدم عودة القائد “داود الجنابي” إلى مقر قيادته في “كركوك” وأن يقوم “الزعيم/العميد محمود عبدالرزاق” بمهمات قائد الفرقة/2 والحاكم العسكري للمنطقة الشمالية وكالةً… ولكن الأمر الأهم كَمُنَ في إلغاء الحاكم العسكري العام لجميع أوامر الإعتقال والنفي الصادرة بتوقيعه بحق أولئك التركمان والتي نُفِّذَت منذ أواسط شهر (آذار-مارت/1959)، ولكن من دون تراجع كبار المسؤولين الحكوميين الآخرين عن أوامر النقل الوزارية والإدارية التي عُدَّتْ لأغراض خدمية لا علاقة لها بالمعضلات الأمنية والسياسية القائمة.
وفي حين تأخر عدد من المُعفَـى عنهم بعض الشيء في تلكم المحافظات الجنوبية لإستكمال أوراق إطلاق سراحم وإنـهاء إقاماتهم الإجبارية أُصولياً، فقد عادوا سالمين -غير غانمين- إلى “كركوك” حيث إستقبلتهم بمحطة قطارها حشود من أقربائهم وأصدقائهم ومعارفهم في أواخر شهر (حزيران) أو مطلع أيام (تموز/1959)، وقبل أن يتنفسوا الصعداء وقتما إستقروا وسط مساكنهم وبين أفراد عوائلهم الذين إحتضنوهم بفرح غامر وحفاوة معهودة بعد نفي أو إعتقال طال (3) أشهر ونيّف من الأيام، ولكن من دون أن يرد ببال أحدهم أن هذه العودة -التي بدت سعيدة في مظهرها- ما هي إلاّ الفقرة الأخيرة من سيناريو موضوع بإتقان وتخطيط مُسبق وإستحضارات مُحكمة ستودي بحياة العديد منهم في ظرف أسبوعين ليس إلاّ.

أحدث المقالات