في مثل هذا العام تكون قد انقضت خمسون عاماً (٥٠) منذ ان طوى اجرام حزب البعث، رمياً بالرصاص، صفحة انسان برئ لفقّت له تهمة او (سبّة) إن اردت تسميتها ، وهي الجاسوسية! نعم، كان سهلاً على المجرمين تعليق التهم واعدام الناس وتدمير العوائل وتركها تعيش المّر لسنين، لا لجرم اقترفوه إنما لرغبة الحاكم المستبد والنذل في اظهار حكمه بمظهر القوي، فكان الارهاب بكل اصنافه ومنها الاعدامات وتعليق جثث الابرياء في السجون وفي الاماكن العامة.
ولد الراحل صبري الياس مروكَي عام ١٩٤٢ في مدينة (تلكيف) التابعة لمحافظة نينوى، محلة سيسي لعائلة تكونت من، الياس الوالد و أمينة نونا الوالدة وكل من الاخوات والاخوة، ميري ، باته، مادلين ، كريم وكوركيس.، ودرس في مدرسة العرفان، وعندما اصبح شابا انتقل للعمل في البصرة مع ابناء خالته، عاملاً في الفنادق. تزوج في العام ١٩٦٧، واعدم رمياً بالرصاص في ايلول ١٩٦٩.
يقول شقيقه الاكبر (كوركيس) : كان اخي صبري شاباً جسورا ويعتّد بنفسهِ كثيرا ، وهذا ما ادخله في مشاحنات مع من كان يريد ان يعتدي ويتطاول عليه، كان وسيما وقوي البنية، وفوق ذلك كان يكره الخدمة الالزامية ، وعلى ما اتذكر انه كان هاربا من العسكرية آنذاك . ومع ان ذلك المشهد المؤلم مضت عليه كل هذه السنين فإني اعتذر مسبقا لان تلك الصورة محت الايام والاحزان الوانها، للاسف! ويستطرد قائلا: سمعنا عن اشاعة بصدور عفو عام عن الهاربين من العسكرية، وشاهد والدي (الياس) سيارات النقل العسكرية (لوريات) تنقل الناس للمعسكر، ويبدو انه لمح اخي (صبري) من بينهم ايضاً.
بعد مرور (٤ـ٥) ايام، استلمنا كتاب يطلب من العائلة الحضور لمشاهدة (إعدام) ابنهم في معسكر الرشيد. كان الامر مرعباً ، الاعدام امر ليس هيناً امام الجرم او التهمة التي كنّا نتوقعها وهي (الهروب من الخدمة العسكرية) ، فذهبنا والدي ووالدتي وزوجتي (جورجيت) وابن اخي (موفق ايضا) ، وقد شهدت بوابة المعسكر فوضى عارمة ومئات السيارات، وناس غاضبة وناس تبكي وتصرخ ، وقصدنا جندي واصطحبنا لمكان حيث اجلسونا في غرفة الانتظار وكان يحرسها ضابط وقال لنا : تكلموا بكل ما تريدون!
وحوالي الساعة الثانية صباحاً، وقبل موعد الاعدام بقليل، جلبوه للغرفة وكان يرتدي بدلة الاعدام (الحمراء) وسلّم علينا، وفي اليوم التالي استلمنا جثته من الطب العدلي، فيما نشرت صحف الصباح خبر (إعدام جواسيس لاسرائيل) مصحوبة بأسمائهم وعناوينهم. ومضت اياماً صعبة على العائلة حيث كنّا نسمع تعليقات غير رصينة ومؤذية بدلا من المواساة. لبست امي ثوب الحداد لسنين طوال ولم تبدله ،كيف وقد شهدت الموت يغيّب ابنها، الشاب الوسيم بعمر ٢٧ عاما! اما والدي فكان يداري حزنه. اخواتي واخي كريم وباقي العائلة كانت مهمومة بالحزن ، ولا اخفيك بأني لغاية هذا اليوم وبهذا العمر فإني ابكي ولا اتمالك دموعي حينما يأتي ذكره.
الشاهد الثاني كان السيد (موفق كريم ججو قلاّ) ابن السيدة ميري شقيقة الراحل صبري حيث قال: كيف لي ان انسى ذاك اليوم، وكيف انسى مرارته وحزنه، نعم، كنت في عمر الشباب يوم ذهبت مع جدي وجدتي وخالي وزوجته لمعسكر الرشيد حتى نشهد إعدام خالي! وبالحقيقة لم نكن نعرف التهمة حتى ساعة احضاره للغرفة قبيل الاعدام بقليل، فقد كنتُ اعلم ان خالي كان هاربا من العسكرية لانه (يكرهها) ، وكذلك فإنه اودع السجن نتيجة مشاجرة مع احد الاشخاص ، ويبدو ان تلك العملية سهّلت على البعث الصاق اية تهمة به. اتذكر عندما اتو به للغرفة وكان مرتديا بدلة الاعدام (الحمراء)، سأله خالي كوركيس: ما هي التهمة؟
فقال صبري : الجاسوسية لاسرائيل! وهنا انتفض خالي واستحلفه بالله إن كان قد عمل هذا العمل المشين، وقال له انك ستذهب لدار الحق، قل لنا وريّح ضميرك!
قال الراحل صبري: ابداً ابداً أنا برئ ، في حياتي لم اقم بمثل هذا العمل، ونقل لنا كلام الحاكم الذي قال للمحكومين (( هاي اوامر . هذا موبيدي)). في تلك الاثناء قابلنا ايضا الراحل (موفق الياس زوما) الذي حكم عليه بالاعدام ايضا وحمّلنا وصيته لعائلته التي لم تتمكن من الحضور من تلكيف الى بغداد.
ويكمل ابن شقيقته موفق القول: نعم، إن خالي كان معتداً بنفسهِ ، وكان طيبا ويحب الحياة، اما (جسارته) فقد جلبت له الكثير من المشاكل، ولعل هذه كان خاتمتها للاسف.
في اليوم التالي للاعدام، حضرت كل العائلة وأقمنا لخالي قداس الجناز من (كنيسة البتاوين ـ الباطريارك)، وتلاها ثلاث ايام الحداد والسابع والاربعين . وبالحقيقة فإن السلطات لم تضايقنا بهذا الامر ولا ادري إن كان لمعرفتهم او حدسهم بأن تهمة الجاسوسية كانت ملفقة لخالي صبري او لغيره. وينهي السيد (موفق) كلامه بالقول: كيف يمكن لمشاجرة أو لفكرة الهروب من العسكرية أن يكون ثمنها روح ، شاب في مقتبل الحياة، وكيف يُعقل ان تلقى تهمة عظمى مثل الجاسوسية على انسان برئ وبهذه الطريقة ، بالحقيقة كانت تلك اقذر الطرق التي استخدمها حزب البعث لاخافة الشعب وتثبيت مواقعه، لا اكثر ولا أقل!
تمضي الايام وتتكشف اكثر فأكثر جرائم حزب البعث وصدام حسين، وما يبعث على القرف ان ينبري البعض في الدفاع عنهم …..كيف يقوى انسان شريف في الدفاع عن المجرمين القتلة ما لم يكن واحدا قذرا سافلاً مثلهم . لكن ماجرى في العراق بعد العام ٢٠٠٣ ومجئ شلّة الحرامية والاوغاد لحكم العراق، فقد حرمنا من فرصة محاكمة النظام العفلقي وتقديم رموزه وجرائمه كلها للعدالة ، وليس فقط جريمة الدجيل!!!
** الراحة الابدية والذكر الطيب للراحل البرئ صبري الياس مروكَي
** العار سيلاحق حزب البعث وزبانيته وكل مَن اجرم بحق العراقيين