مثل الاستفتاء الذي اجراه الشعب الكوردستاني في سبتمبر الماضي زلزالا سياسيا بكل ما في الكلمة من معاني هدد فيها الخريطة السياسية ليس للعراق فحسب بل و للمنطقة برمتها فكان طبيعيا ان نشهد ردود افعال قوية كالتي رايناها من دول المنطقة تمثلت بتنسيق غير مسبوق بين العراق وتركيا وايران للوقوف ضد نتائج هذا الاستفتاء وتداعياته .
ورغم ان الضغوطات التي مورست من قبل الدول الثلاث افقدت الاقليم مكاسب سياسية كثيرة كان يتمتع بها منذ الالفين وثلاث ولغاية يومنا هذا الا ان هناك نقطتين يجب الاشارة اليها وهما ..
الاولى .. ان فقدان الاقليم لهذه المكتسبات يعتبر وقتيا يمكن الحصول عليها واسترجاعها مرة اخرى في خضم المتغيرات التي يمر بها العراق والمنطقة , وما على حكومة اقليم كوردستان الا مراقبة هذه المتغيرات واقتناص الفرص المناسبة لارجاع تلك المكتسبات .
وثانيا .. رغم كل الضغوطات فقد نجح الاقليم في الحفاظ على نتائج الاستفتاء وهذا بحد ذاته يعتبر نصرا سياسيا يجب الاشادة به . وكل المعطيات تشير الى ان نتائج هذا الاستفتاء ستبقى حاضرة ولن تتمكن اي جهة رسمية محلية كانت ام دولية من الغائها , ورغم تسويق بعض الاطراف نفسها كجهات قانونية مخولة الا ان محاولاتها تلك خالية من اي محتوى قانوني او اجرائي .
فمحاولة المحكمة الاتحادية في العراق تنصيب نفسها قيمة على هذا الموضوع تفتقر الى مسوغاتها القانونية . فصلاحيات المحكمة الاتحادية هي الفصل في المشاكل بين الحكومة المركزية وحكومات الاقاليم والمحافظات , اي بين الجهات الرسمية في المركز والجهات الرسمية في الاقاليم والمحافظات , بحيث تكون الجهتين (المدعية والمدعى عليها) جهات رسمية , بينما في موضوع الاستفتاء فان المدعية هي حكومة المركز , اما المدعى عليها فهي ليست حكومة الاقليم بل هو الشعب الكوردستاني الذي قام بالاستفتاء , وهي جهة غير رسمية وغير حكومية فلا يمكن للمحكمة الاتحادية البت في هذه القضية من الاصل .
دعونا نفترض من باب الفنتازيا السياسية انه قد تم الغاء الاستفتاء ( بغض النضر عمن قام بالغائه).. فما تتغافل عنه حكومة بغداد ان المدة التي استغرقتها كوردستان لتكون مستعدة ومهيئة لاجراء الاستفتاء لم تتعدى الشهرين , اي انه حتى وان الغي الاستفتاء ( مجازا) فمتى ما وجد الكوردستانييون الظروف مهيئة فلن يحتاجوا لاكثر من شهرين لاجراء استفتاء اخر يشرعنون فيه مضيهم للاستقلال ….. لذلك فاصرار بغداد على الغاء الاستفتاء هو اصرار مضحك لا فائدة فيه , وهو يشبه اصرار الطفل وتشبثه بلعبة تعود عليها واحب اللعب معها بعبثية .
ان المعضلة التي تواجه مطلب الغاء الاستفتاء هو عدم وجود جهة رسمية مخولة للقيام بهذه المهمة , فقبل الاستفتاء تم تشكيل لجنة عليا سميت باللجنة العليا للاستفتاء كانت مهمتها تنظيم هذه الممارسة والدعوة اليها , لكن تم الغاء هذه اللجنة بمجرد الانتهاء من عملية الاستفتاء ولم تعد قائمة اليوم .
اما حكومة اقليم كوردستان الحالية فهي حكومة انتقالية غير منتخبة ( بعدما انتهت المدة القانونية لها) ويمكن وصفها بانها حكومة توافقية يجري التباحث بين الاحزاب الكوردستانية لتشكيلها توافقيا لغاية اجراء الانتخابات القادمة . ولذلك فمن الناحية القانونية لا تمتلك الحكومة الحالية صلاحية البت باي اجراء يتعلق بالشارع الكوردستاني طالما انها حكومة غير منتخبة من قبل الشعب الكوردستاني .
الحل الوحيد امام حكومة بغداد فيما لو رغبت في ابعاد شبح استقلال كوردستان عن العراق هو بان تترك هذا الهذيان السياسي المتمثل بطلب الغاء الاستفتاء , وان تدخل في مفاوضات جادة مع حكومة كوردستان لحل المشاكل العالقة بينهما . فعندما يطمأن الشعب الكوردستاني الى مستقبله في العراق فلن يكون هناك مبرر يدفعه للاستقلال عنه حتى في وجود وبقاء نتائج الاستفتاء الحالي … ما عدا ذلك فهو دوران حول حلقة مفرغة لن تنفع حكومة المركز في شيء خاصة وان الاقليم قد استعاد توازنه السياسي الذي فقده بعد نكسة احتلال كركوك , واخذت تسترجع عافيتها السياسية , مما يضيق وبمرور الوقت من مساحة الحركة والمناورة التي تمتعت بها حكومة المركز في وقت سابق من الازمة .