صبيحة (الثلاثاء/12/نيسان/آبريل/1966) كان إهتمامنا كـ”ضباط حرس جمهوري” -وكما كان مقرَّراً ومُعلَناً في جميع صحف “بغداد” الصادرة قبل (3) أيام- بمغادرة “رئيس الجمهورية” مطار بغداد الدولي (مطار المثنى بعدئذ) إلى “البصرة” يرافقه ثلاثة من الوزراء وهم (اللواء عبداللطيف جاسم الدراجي-وزير الداخلية، الدكتور محمد ناصر- وزيرالثقافة والإرشاد، والدكتور مصطفى عبدالله طه- وزير الصناعة) وآخرون، وقد أقلّتْهُم إحدى طائرتَي “الرفّ الجمهوري” النفاثتين من طراز “توبوليف-124″…. ولذلك لم ننتبه لخبر منشور عن مغادرة “اللواء عبدالرحمن عارف” -رئيس أركان الجيش وكالة- المطار نفسه إلى “موسكو” على رأس وفد عسكري كبير، إذْ ركّزت وكالات الأنباء العالمية والعربية في تعليقاتها مساء ذلك اليوم بأنها محاولة من “العراق” لإعادة علاقاته التسليحية والعسكرية مع “الإتحاد السوفييتي” بعد إنقطاع دام (3) سنوات.
الهليكوبترات في البصرة
وقبل ذلك، وفي صباح (السبت/9/نيسان) كان المرافق الأقدم لرئيس الجمهورية “العميد زاهد محمد صالح” قد طلب من قيادة القوة الجوية إرسال (3) طائرات هليكوبتر من “بغداد” إلى “البصرة” لتكون جاهزة هناك قبل ظهر (الإثنين/11/نيسان) لنقل رئيس الجمهورية والوفد المرافق له أثناء تجواله هناك.
وقد دأبت قيادة القوة الجوية خلال عام كامل مضى، على تكليف أحدث طائرات الهليكوبتر لديها لمثل هذه الواجبات ومن طراز “ويسّـكْس WESSEX” بريطانية الصنع والمنضوية ضمن “السرب/4” المتمركز في “قاعدة الرشيد الجوية” قرب “بغداد”، وقد كانت إثنتان من مجموع (12) طائرة مُحَوَّرَتَين في داخلها ومُجَهَّزتَين بكراسي مغطّاة بشكل مقبول لجلوس الشخصيات المهمة وضيوفهم، وذلك على عكس الطائرات العشر الأخريات التي تحتوي مصطبتَين طويلتَين لركوب الأشخاص الإعتياديين أو لنقل الجنود ضمن واجبات عسكرية، أو لإخلاء الجرحى ونقل الأعتده والمواد.
وفي الصباح الباكر ليوم (الإثنين/11/نيسان) أقلعت الهليكوبترات الثلاث من “قاعدة الرشيد الجوية” متوجّهة إلى “البصرة”، حيث قاد “النقيب الطيار خالد محمد نوري” -آمر السرب/4 وكالة- الطائرة الأولى المُرقَّمة “598”، وكانت الثانية بقيادة زميلي “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزّت”، بينما قاد “الملازم أول الطيار عثمان نوري علي” الطائرة الثالثة… ولم يصطحبوا معهم سوى “الملازم الطيار مذكور فليح الرُبَيْعي” مُعاوناً لهم بمثابة (طيار إحتياط) قد يحلّ محلّ أحدهم لأي
سبب كان.
وبعد رحلة دامت حوالي ساعتين، هبطت الهليكوبترات الثلاث في “مطار الشُعَيْبة العسكري” قرب “البصرة” في ضُحى ذلك اليوم… وستظلّ جاثمة على أرضه قبل أن تنتقل صباح اليوم التالي إلى “مطار البصرة الدولي” بعد وصول الرئيس “عبدالسلام عارف” إليه ومن دون أن تُكلَّفَ بأية مهمة نقل طيلة (48) ساعة، وتكون تحت حراسة فصيل مشاة (مُرتـّب) لهذا الغرض من “مركز تدريب مشاة البصرة” مؤلـّف من (40) جندياً بقيادة صديقي وإبن مدينتي “الملازم إحتياط/مُجَنـّد محمود رؤوف” عوضاُ عن الفصيل من الحرس الجمهوري الذي كلـّفتُ بقيادته لهذه المهمة قبل أن يأمر “السيد الرئيس” بإلغائها إقتصاداً بالجهد والوقت والمال وعدم التفريق بين الحرس الجمهوري ووحدات الجيش.
منهاج الثلاثاء الحافل
في صبيحة (الثلاثاء-12/نيسان) هبطت الطائرة النفاثة التابعة لـ”الرفّ الجمهوري” بقيادة “المقدم الطيار عدنان أمين خاكي” يعاونه “الرائد الطيار طاهر صالح التكريتي” وتوقّفت على أرض “مطار البصرة الدولي” حيث كان في مقدّمة مستقبلي رئيس الجمهورية كل من السيد “محمد الحَيّاني”- متصرّف لواء/مُحافظ البصرة إلى جانب “اللواء الركن عبدالمجيد سعيد”- مدير الموانئ العام.
وعلى الرغم من وجوب حضور ((أشخاص محدَّدين)) وُجِّهَتْ إليهم دعوة الإستقبال الرسمي وعدم السماح لمن لا يحمل ((بطاقة خاصة)) بالدخول الى مبنى المطار، إلاّ أن عدد الذين تَسَرّبوا لأروقته وإلى حدائق “فندق شط العرب” المتاخم فاق بكثير مما قدّره المسؤولون الأمنيون.
وفي حين أطلقت المدفعية (21) إطلاقة فقد جرت مراسيم الإستقبال وإستعراض حرس الشرف، قبل أن يقف “رئيس الجمهورية” ليصافح مستقبليه واحداً بعد الآخر.
وحين إنطلق الموكب نحو المدينة، كانت الجماهير المحتشّدة على جانبي الطريق تُحييّ “عبدالسلام عارف” تصفيقاً وهتافاً، حتى بلغ الموقع الذي تقرّر أن يُقام فيه “جامع” يُخَلَِّد إستشهاد “العقيد جلال أحمد إسماعيل” آمر/قائد الفوج/الكتيبة على أيدي الشيوعيون عام (1959) بعد أن قتلوه وعلّقوا جثته في باب ثكنة فوجه ومثّلوا به وسحلوه في الشوارع أمام الأنظار.
بعد وضع “عبدالسلام عارف” الحجر الأساس ذاك، توجّه بموكبه إلى “آمرية موقع البصرة” ليلتقي بضباطها ومراتبها ويرتجل بينهم أوّل خطاب له في تلك الرحلة، وقبل أن يحضر في “نادي القاعدة الجوية” لتناول طعام الغداء في حدائقه.
بعد ذلك، إخترق الموكب شوارع مدينة “البصرة” العامرة والمُزدانة بالأعلام والأقواس والجماهير بصعوبة كبيرة متوجّهاً إلى قضاء “أبي الخصيب” لوضع حجر
الأساس لمعمل الأسمدة الكيميائية هناك، وذلك قبل أن يزور مدينة “الزُبَيْر” ويحضر وليمة عشاء أقامها أهلها تكريماً، حيث أُستُقبِل بحفاوة بالغة مستمعاً لكلمات الترحيب وقصائد عدد من الشعراء.
وقف “عبدالسلام” ليتحدّث مُرتَجلاً بعبارات تُشير الى ((التحركات الإستعمارية)) في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، حين عرّج إلى نقل “بريطانيا” قواعدها العسكرية من “عَدن” إلى “دولة البحرين” وقتما تقرّب “محمّد الحيّاني” هامساً في أُذنه شيئاَ لم يفهم أحد فحواه… ولكن الرئيس “عبدالسلام” صاح في وجهه:- ((وماذا يعني ذلك.. فليكن ما يكون)) وقبل أن يستدرك تصرفه حين إنتبه أن الحضور لم يفهموا شيئاً، فأضاف مُفَسِّراً:-
((“الأخ محمد” يقول أن من بين المدعوين عدداً من القناصل العرب والأجانب… لا يهمّني ذلك؟ فهل أنا خائف منهم؟؟”
وإذْ نالَ بذلك عاصفة من التصفيق الحاد، فإن “عبدالسلام” لم يغادر مدينة “الزبير” بالسيارات إلاّ قبيل منتصف الليل، في حين لم يُكَلَّفْ أي من طائرات الهليكوبتر الثلاث بأية مهمة في ذلك اليوم.
جولة اليوم الثاني المُرهِقة في قضاء “القرنة”
في الصباح الباكر لليوم الثاني من الجولة -الأربعاء(13/نيسان)- شقّ موكب رئيس الجمهورية طريقه وسط “البصرة” نحو “الهارِثة”، وعند وضعه الحجر الأساس لمعمل الورق وسط تلكم السُرادقات الكبيرة التي أُقيمَت هناك، كانت حشود عظيمة من المواطنين يُردِّدون أهازيج ويُؤدّون دَبْكات شعبية ويُطلقون ذلك الهتاف الذي كان سائداً في عموم العراق في ذلك الزمان ومثيلاته أو شبيهاته في كل العهود:-
((إحنا جنودك يا “سلام”))
و((بالروح بالدم نفديك يا “سلام”))
وفيما إنطلق الموكب نحو قضاء “القُرنة” يُحيطها فرسان يمتطون خيولاً عربية أصيلة مواكبين “عبدالسلام” بالأهازيج… ومن دون أن يتوقف وسط بلدة “القرنة” فقد توجّه إلى قرية “الهُوَيْر الكبير” التي أَعَدَّ فيها “الحاج جمعة العبادي” بيت قصب ضخم يحتوي كل أسباب الراحة للرئيس وصحبه، حيث أَعقَلَ أمامه جَمَلاً لينحره إلى جانب مجاميع من الخراف.
وحين جلس “عبدالسلام” في صدر ذلك البيت، قال للقريبين منه:-
“أكنتم تتصوّرون إنكم ترون في هذا المنأى بشراً؟… ألا يجب أن نبدأ العمل لأجل هؤلاء؟… ألا يكفينا رفع الشعارات؟؟”
ومن قرية “الهُوَيْر”، إنطلق الموكب الكبير ليجتاز بقاع الأهوار، سالكاً طريقاً مبلّطاً نفّذته إدارة طرق وجسور”البصرة”، قبل أن يعود إلى ناحية “المْدَيْنَة” ليستقلّ وصحبُه زوارق بخارية مع وُجَهاء المنطقة عابرين “نهر الفرات” حيث تجمّع الناس -كما كان حالهم في تلك البقاع جميعاً- رجالاً ونساء وشيوخاً وأطفالاً ليُحيّوا رئيس
الجمهورية بالتصفيق والهتاف والأهازيج، حتى عاد إلى “القُرنة” حيث كان قائمقام القضاء “عبداللطيف الجُبُوري” قد هيّأ طعام الغداء ضمن وليمة كبرى لم يتم تناوله إلاّ في الساعة الرابعة والنصف عصراً.
وبينما كان “عبدالسلام عارف” يشغل نفسه بطعام خفيف، وقد بانَ على وجهه غاية السعادة والفرح، فقد كان يدعو الآخرين تناول هذا الصنف من الطعام أو ذاك قبل أن يطلب “سَجّادة” ليؤدّي صلاة العصر -التي ستكون الأخيرة في حياته- ويهمّ بعد ذلك بمغادرة “القُرنة” للعودة الى “البصرة” بطائرات الهليكوبتر، فقد إنتهى منهج نهار اليوم الثاني من الجولة كما كان مقرراً لذلك مع حلول المساء.
وسنأتي في قادم الأيام -بعونه تعالى- على تفاصيل ((مصرع الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”)) وكيفية سقوط طائرته الهليكوبتر بعد إقلاعه من مهبط بلدة “القرنة” مساء (الأربعاء/13/نيسان/آبريل/1966).
الصورة (81) في صبيحة الثلاثاء-12/نيسان/أبريل/1966
الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” بعد هبوطه من طائرة الرفّ الجمهوري في مطار البصرة الدولي وهو يصافح السيد “محمد الحيّاني” متصرف/محافظ لواء البصرة، وقد أدى معاون الطيار الرائد “طاهر صالح التكريتي” التحية—ويظهر على سلّم الطائرة اللواء “عبداللطيف الدراجي” وزير الداخلية والدكتور “مصطفى عبدالله” وزير الصناعة…
الصورة (82) ظهر الثلاثاء 12/نيسان/أبريل/1966
الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” يضع الحجر الأساس لمعمل الأسمدة الكيميائية في قضاء (أبي الخصيب) وقد ظهر الى الخلف منه العميد “زاهد محمد صالح” المرافق العسكري الأقدم