تسجل إيران وروسيا حوارا متصاعدا في أفغانستان، وفق وصف لصحيفة واشنطن بوست، وسط غفلة واشنطن عما يجري في هذا البلد. وما يجري في أفغانستان اليوم، خصوصا على مستوى التمدد الإيراني وعلاقة طهران بحركة طالبان، يشبه في جزء كبير منه ما جرى في لبنان ويجري في العراق وسوريا ما يجعل من سياسات واشنطن على خط التماس مع طهران تشهد سلسلة طويلة من الإخفاقات التي مكنت الإيرانيين من توسيع نطاق نفوذهم بالمنطقة، اعتمادا على الأدوات الاقتصادية والطائفية وأذرعهم التي تنشط في الفوضى التي تخلفها الولايات المتحدة الأميركية.
فات وقت الإصلاح
لم تستطع الولايات المتحدة إقناع الطائرات التركية بالتوقف عن قصف قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني. كما لم تستطع الولايات المتحدة إقناع إسرائيل بالتوقف عن قصف معسكرات حزب الله اللبناني في سوريا، فلا يمكن لتل أبيب القبول بالإرهابيين كمنقذين من خطر إرهابيين آخرين. ولم تستطع الولايات المتحدة إقناع السعودية بالقبول بالميليشيات الشيعية والحشد السيستاني (المقدس) كقوات وطنية محاربة لداعش. كل دولة مهمة في المنطقة لها أولوياتها الأمنية والجيوسياسية.
جوهر التعقيد في المنطقة يتمثل بطهران، فلن تستطيع إيران العثور على وسيلة أخرى لتصدير ثورتها سوى دعم الإرهاب والحركات المسلحة. شعرت واشنطن بذلك منذ أبريل عام 1983 حين فجّرت شاحنة مفخخة السفارة الأميركية ببيروت وسقط حينها 63 قتيلا، ثم مرة أخرى في أكتوبر من العام نفسه حين استهدفت مركبة مفخخة أخرى قاعدة للمارينز الأميركي في بيروت وقتلت 241 شخصا.
أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغان إيران دولة راعية للإرهاب لأن التحقيقات أثبتت بعد عام تورط الحركات الجهادية وحزب الله في العمليتين الإرهابيتين.
كانت إيران تهدف إلى طرد الأميركان من بلاد الشام وابتلاع لبنان. وقد انسحبت فعلا القوات الأميركية بعد هذه الخسائر الكبيرة في الأرواح.
السياسة الإيرانية أثبتت خبثا وكفاءة عالية فمن خلال شبكة من التنظيمات الإرهابية يمكن لها زعزعة الشرق الأوسط وتحقيق مكاسب مخابراتية مستمرة. الهدف النهائي هو خلق بؤر ومراكز جغرافية في المنطقة خارج المركزية الغربية.
وهذا ما حققته إيران مؤخرا في سوريا من خلال التحالف مع روسيا. طهران تبحث عن قطب خارج الولايات المتحدة بالمنطقة وموسكو عبرت عن رغبة مشتركة، وهنا المشكلة.
السؤال هو كيف تنجح الولايات المتحدة في سوريا وقد سبق لها أن فشلت في أفغانستان والعراق؟ فقد استطاعت إيران في النهاية السيطرة على كابول وبغداد. لنتخذ أفغانستان مثالا فقد تحدثنا كثيرا عن العراق في السابق.
من خلال شبكة من التنظيمات الإرهابية يمكن لإيران زعزعة منطقة الشرق الأوسط وتحقيق مكاسب مخابراتية مستمرة
إيران في أفغانستان
بدأت الحملة الأميركية على الإرهاب عام 2001 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة. ضربت الولايات المتحدة نظام طالبان وانهار النظام بسرعة. وانتهت الحملة عام 2011 حين أعلنت واشنطن عن مقتل أسامة بن لادن في باكستان.
كان من المفترض أن يكون ذلك نهاية الإرهاب كما صرح مسؤولون كبار في البيت الأبيض من ضمنهم الرئيس أوباما. ما الذي حدث؟ وكيف عاد الإرهاب وسقطت الموصل بيد تنظيم إرهابي جديد مثل داعش؟ الجواب هو إيران.
تصرّفت إيران على حدودها الشرقية في أفغانستان تماما كما تصرّفت في ما بعد على حدودها الغربية في العراق. دخلت طهران في تعاون استراتيجي أمني ومخابراتي مع التحالف لتسهيل احتلال كابول، ولكنها في نفس الوقت عملت من جهة أخرى على دعم سرّي للإرهابيين لجعل الإقامة صعبة ومكلفة على القوات الغربية.
تحركت إيران بسرعة نحو الاقتصاد الأفغاني واستثمرت في البنية التحتية والصناعة. عام 2012 قدّر الباحثون وجود ألفي شركة إيرانية تعمل في أفغانستان مع 110 مشاريع إنشائية هندسية وتقدر قيمة المصالح الإيرانية في ذلك البلد الفقير حينها بـ 360 مليون دولار، ولا حاجة إلى ذكر التبادلات التجارية الكبيرة بين حكومتي طهران وكابول حتى أنها منحت الأفغان ممرا بحريا إيرانيا عبر ميناء جابهار الواقع في مقاطعة سيستان بلوشستان.
ارتفعت قيمة التعاملات التجارية بين كابول وطهران من 800 مليون دولار عام 2008 إلى 2 مليار دولار عام 2011. وهي في تصاعد مستمر حتى وصلت إلى 5 مليارات دولار عام 2015، وهكذا أصبحت إيران بحكم الواقع أهم شريك تجاري لأفغانستان اليوم. تدخلت إيران في الشأن الأفغاني منذ سقوط حكومة طالبان المتطرفة ودعمت الرئيس السابق حميد خارازاي في الانتخابات عام 2004 واستخدمت التقارب الثقافي والعطايا والرشوة للتأثير على استقلال حكومة خارازاي.
وكشف تقرير دولي عام 2012 أن التأثير الإيراني في الحكومة الأفغانية على كل المستويات وعدد كبير من السياسيين الأفغان مرتبطون بطهران ويتلقون مرتبات شهرية منها. واعترف الرئيس خارازاي نفسه عام 2010 بأنه اضطر إلى قبول مبالغ إيرانية بقيمة 2 مليون دولار مقدمة له شخصيا.
في الوقت نفسه ركزت إيران جهودا خاصة على مقاطعات أفغانستان الغربيـة مثل هراة وفرح بواسطة الضغـوط التجارية المبـاشرة والتقارب المذهـبي والضغـط الثقـافي وجعلت الطريق معبدا من كابول إلى طهران.
عام 2014 اتهم رئيس شرطة هراة إيران بالمسؤولية عن تفجيرات في مدينته. وقال “الدولة الصديقة لأفغانستان لا تدرب الإرهابيين على أرضها”. وكانت تلك التصريحات من جنرال أفغاني كبير تعني أن المقاطعات الغربية الأفغانية تقع تحت نفوذ طهران المباشر وليس العاصمة كابول.
التأثير الإيراني في الحكومة الأفغانية على كل المستويات وعدد كبير من السياسيين الأفغان مرتبطون بطهران ويتلقون مرتبات شهرية منها
منذ عام 2006 أخذت تتراكم تقارير أميركية عن تسليح ودعم إيران للإرهابيين والمتطرفين في حركة طالبان وذات التقارير تذكر التدفق الكبير للسلاح الإيراني إلى قندهار للتأثير والتحكم بتلك المقاطعة الصعبة. لم تكن من أهداف إيران مساعدة المتطرفين السنة للتحكم بالبلاد. ولكن كما قال الجنرال ديفيد بترايوس حينها بأنه كان يهمهم أن تفشل الولايات المتحدة في أفغانستان وتدفع خسائر كبيرة من خلال الاصطدام بالمتطرفين السنة.
في النهاية أعلن الرئيس أوباما عام 2011 عن الانسحاب من أفغانستان مما جعل إيران تقفز على البلاد بالقوة الناعمة، والتأثير على المقاطعات الغربية، وزرع شبكات مخابراتية ومؤسسات تابعة لها استعدادا لأي حرب بالوكالة قد تخوضها إيران مستقبلا على الأرض الأفغانية.
حرائق إيران
عام 2013 وقّعت كابول مع طهران اتفاقا للتعاون الاستراتيجي والرسالة كانت واضحة وهي أن طهران، وليست واشنطن، هي القوة التي تهيمن في المستقبل على جنوب شرق آسيا.
وحتى حين جاء رئيس أفغاني جديد عام 2014 وهو أشرف غني أحمد زي بقيت إيران مهيمنة على كابول. فقد قال الرئيس الجديد لنائب الرئيس الإيراني حسين شريعة مداري “إن علاقة أفغانستان مع الدول الأخرى لا يمكن لها أن تضر بالعلاقة الوثيقة مع إيران”.هذه النهاية الحزينة للسياسة الأميركية في أفغانستان هي في الحقيقة هزيمة سياسية كبيرة أمام المكر الفارسي. فماذا تفعل القنبلة العميقة أو أم القنابل التي ألقاها الرئيس ترامب الشهر الماضي على الجبال الأفغانية؟ هل ستلجأ أميركا إلى هدم الجبال بسبب الغضب من الهزيمة السياسية؟
إيران تتصرف كإطفائي يقوم بإشعال الحرائق بدوافع إجرامية مبيتة. لقد وقعت أميركا في فخ قوتها واندفاعها نحو الإرهاب السني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهنا فكّرت طهران، ومؤخرا موسكو، باستدراج أميركا لإطلاق الرصاص على مصالحها بيدها بحجة محاربة الإرهاب. فكما دعمت طهران “سرا” حركة طالبان ودولتها ومدتها بالمال والسلاح، فعلت الشيء نفسه في العراق وسوريا.
طهران تُشعل الحرائق ثم ترتدي بزة الإطفائي “الشيعي” الذي سيساعد أميركا على التخلص من الإرهابيين “السنة”.
هذه اللعبة وصلت إلى نهايتها وتوقفت الحملة العالمية المبالغة للإرهاب السني وحجمه. فقد أدركت أوروبا أنها تقع في فخ سياسي روسي، كما أدركت واشنطن بأنها قد وقعت في فخ إيراني شيعي.
واليوم لا إسرائيل مقتنعة بمشاركة حزب الله في مكافحة الإرهاب، ولا تركيا مقتنعة بمشاركة حزب العمال الكردي في مكافحة الإرهاب، ولا السعودية مقتنعة بمشاركة الميليشيات الشيعية في مكافحة الإرهاب.
نقلا عن العرب