23 ديسمبر، 2024 5:32 ص

كيف طبعت الطائفية السياسية الجدل حول موعد الانتخابات

كيف طبعت الطائفية السياسية الجدل حول موعد الانتخابات

أخيرا أنهت المحكمة الاتحادية الجدل الذي طال بين دعاة التمسك بالموعد الدستوري للانتخابات، ودعاة تأجيلها بسبب الأوضاع الاستثنائية للنازحين، وظروف المناطق التي خضعت لسلطة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

بكل تأكيد يجب أن يكون قرار المحكمة الاتحادية باتّا وملزما للجميع، وهذا ما أقرّ به حتى دعاة التأجيل. ولا بد لنا كعلمانيين ديمقراطيين أن نقرّ بإلزامية قرارات المحكمة الاتحادية، وإن كانت لنا مبرراتنا للشك في كون المحكمة الاتحادية غير خاضعة بالمطلق لثمة ضغوطات سياسية، سواء بتفسيرها للكتلة النيابية ذات العدد الأكبر بعد انتخابات 2010، أو لادستورية الاستفتاء في إقليم كردستان، أو في قرارها الأخير هذا بوجوب التمسك بموعد الانتخابات. ولكن بما أن الشكوك لا ترقى إلى درجة القطع، ولا يجوز ترتيب الأثر عليها، يبقى الواجب أن يقبل الجميع بقرارات المحكمة الاتحادية، وهذا لا يتعارض مع ما يراه البعض منا في وجوب مواصلة السعي، أو لنقل المطالبة، بإصلاح القضاء العراقي عموما وبكل مستوياته، طبعا مع ابتعادنا عن الاتهام بمجرد الشك وبلا دليل.

لم يكن هذا هو الدافع بالنسبة لي لكتابة هذه المقالة، بل أردت أن أثبّت ما ينفيه البعض من المدافعين عن العملية السياسية من وجود شيء اسمه (طائفية سياسية) في العراق، ويجعلون دليلهم على نفي وجودها، هو عدم وجود اقتتال طائفي بين الشيعة والسنة. وكأن الطائفية السياسية لا يكون لها وجود، إلا عندما تبلغ مرتبة الحرب الطائفية، وقى الله العراق والعراقيين وكل البشرية منها، وكأن وجود أحزاب شيعية محضة، وفي المقابل أحزاب أخرى سنية محضة هي الأخرى، لا يعدّ من الطائفية السياسية. ويبررون دفاعهم ونفيهم إما لأنهم ساذجون، أو لأنهم يعدّون المواطن المتلقي لخطابهم ساذجا، بأن وجود أحزاب شيعية وأخرى سنية أمر طبيعي، لوجود شيعة وسنة في العراق.

أعود إلى موضوع مقالتي هذه، وهو قرار المحكمة الاتحادية، والأهم من ذلك ما سبق هذه القرار من جدل في مجلس النواب، بشكل خاص بين نواب شيعة يصرون على إجراء الانتخابات في موعدها، تمسكا منهم في هذه القضية بالذات، بالالتزامات الدستورية، ونواب سنة يدعون إلى تأجيلها إلى حين تطبيع الأوضاع في المناطق المنكوبة باحتلال داعش، وعودة النازحين إليها، كي يستطيعوا أن يدلوا بأصواتهم بشكل متكافئ مع الناخبين في المناطق التي لم تمرّ بنفس الظروف. إذن هنا، أي مطلب التأجيل، له أيضا أرضيته الدستورية. فكما تنص المادة (56) – ثانيا على أن «يجري انتخاب مجلس النواب الجديد قبل خمسة وأربعين يوما من تاريخ انتهاء الدورة الانتخابية السابقة»، تنص المادة (16) على أن «تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك». فكأنما المادة (56) أصبحت في هذه القضية بالذات مادة شيعية، والمادة (16) أصبحت مادة سنية. ولا أتصور إن المحكمة الاتحادية كانت غافلة عن المادة (16)، عندما اتخذت قرارها، ولكن يبدو، إذا تيقّنّا من عدم وجود عامل سياسي في القرار، إن مع تعارض المادتين هنا من حيث التطبيق، فإن المادة (56) حاكمة على المادة (16). وعلى ذكر تبرير المواقف السياسية بالدستور، لا بد من القول إن التعاطي مع الدستور يتم بازدواجية، فينتهك الدستور مرات عديدة لسنوات، وفجأة يصبح التمسك به ثابتا وواجبا لا حياد عنه.

أعتذر من القارئة الكريمة والقارئ الكريم، إذ جعلتهما ربما ينتظران حتى هذه الجملة، دون أن أبين العلاقة، لا أقول بين قرار المحكمة الاتحادية، بل بين ما سبقها من موقفين متعارضين في مجلس النواب، من موقف شيعي وآخر سني، وبين استدلالي على تأصُّل الطائفية السياسية عند معظم – حتى لا نعمّم فنقول كل – المتمسكين بالتوقيتات الدستورية والداعين للتأجيل. فإننا وجدنا أن المتمسكين بالتوقيت الدستوري هم على الأعم الأغلب النواب الشيعة، والداعين للتأجيل هم النواب السنة. لو لم يكن أعضاء مجلس النواب طائفيين، من حيث يشعر أكثرهم، أو من حيث لا يشعر أقلهم، لكان انقسام النواب بين داع إلى إجراء الانتخابات في موعدها الدستوري ومطالب بالتأجيل غير قائم على أساس طائفي، بل كنا قد وجدنا نوابا من كلا الطائفتين ومن غيرهما يرون الأولوية للالتزام بالالتزامات الدستوية مهما كانت الظروف، كما كنا قد وجدنا نوابا من كلا الطائفتين ومن غيرهما يرون الأولوية لتحقيق الشرط الدستوري في وجوب توفير شروط تكافؤ الفرص. ومن أجل توضيح ما أذهب إليه أطرح السؤال، هل كان النواب الشيعة سيكونون بنفس الحماس بوجوب الالتزام بالتوقيت الانتخابي الدستوري، لو كانت المناطق الشيعية هي التي تمرّ في ظروف كالمناطق السنية الآن، مما يحتملون أن نسبة يُعتَدّ بها من الشيعة لن يستطيعوا أن يدلوا بأصواتهم؟ بلا شك كان الموقف سيكون مختلفا كليا. ونفس السؤال يطرح على النواب السنة، أنه يا ترى لو كانت مناطقهم مستقرة، ومناطق الشيعة وحدها التي تمر بظرف استثنائي، أكانوا سيطالبون بنفس الحماس بالتأجيل؟ بلا شك كان الموقف سيكون مختلفا كليا.

أما عندما يكون لدينا نواب لا يفكرون شيعيا ولا يفكرون سنيا، عندما يرجحون هذا أو ذاك الموقف، بل يفكرون عراقيا وحسب، بحيث يختلفون، لا بسبب اختلاف انتمائهم لهذه الطائفة أو تلك، بل بحسب تشخيصهم للأولويات، وما فيه قدر أكبر من المصلحة للشعب العراقي، ومن الانسجام مع مبادئ الديمقراطية والعدالة.

ورأينا هذا الانقسام الطائفي في سنوات سابقة في كثير من القضايا. ومن أجل ألا أطيل، أذكر فقط المواقف المتباينة تجاه أحداث الدول العربية، بعد بداية ما سمي بالربيع العربي، وكذلك المواقف تجاه تدخلات دول المنطقة في الشأن العراقي. ففي القضية الأولى وجدنا الشيعة غير مكترثين كثيرا بما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن ثم سوريا، لكنهم كانوا شديدي التضامن مع احتجاجات البحرين، بينما وجدنا السنة بعكسهم متضامنين بشدة وحماس مع الثورات الشعبية في البلدان ذات الأكثرية السنية، وغير مكترثين بما حصل في البحرين. وعلى مستوى تدخل دول الجوار في الشأن العراقي، كنا نسمع دائما إدانات سنية للتدخل الإيراني وسكوت تجاه التدخلات السعودية والقطرية والتركية بل قبول وكثيرا من الأحيان استقواء بها، وهكذا وجدنا العكس من قبل الساسة الشيعة، حيث إدانتهم واستنكارهم للتدخلات السعودية والقطرية والتركية وسكوتهم عن التدخلات الإيرانية بل قبولهم واستقوائهم بها. طبعا هنا وهناك حالات استثنائية، كما شذّ على سبيل المثال مقتدى الصدر في السنوات الأخيرة عن ذلك، كما شذّ بعض السنة عمّا يشبه الإجماع السني في القضايا التي ذكرتها كأمثلة، وآخرها موضوع هذه المقالة.

أن يكون السياسي في حياته الشخصية وفي التزاماته الدينية إذا كان ملتزما، شيعيا أو يكون سنيا، فهذا من حقه كمواطن، وفقط كمواطن، لا كسياسي، لكن أن يصطحب هويته ومشاعره وانتماءه كشيعي أو كسني إلى حيث السياسة والمواقف والقرارات السياسية لتحكم شيعيته أو سنيته قراراته ومواقفه، فهذا ما أراه جريمة سياسية، تبرر للدول التي تحترم مبدأ المواطنة ومبادئ الديمقراطية والمساواة، أن تشرع قانونا يحظر عليه العمل السياسي على مزالها، إذا ما ابتليت بما ابتلي به العراق.

فلنعمل، مهما رأينا الطريق طويلا، والهدف صعب التحقيق، من أجل دولة المواطنة الديمقراطية العلمانية العادلة.