18 ديسمبر، 2024 11:58 م

كيف سنكتب التاريخ من بعد عام 2003؟

كيف سنكتب التاريخ من بعد عام 2003؟

يعد علم التاريخ من أكثر العلوم أهمية وأخطرها في الوقت نفسه، فهو ليس كباقي العلوم الأخرى مثل الطب والهندسة والجبر وغيرها. أذ أن علم التاريخ قابل للتشويه والكذب والتلفيق والزيادة والنقصان! كونه يعتمد أساسا على نقل الحدث وروايته، ومن الطبيعي أن ذلك يأتي في آحايين كثيرة على لسان أكثر من شخص، وهنا تكمن الخطورة!، فمن هم هؤلاء الأشخاص الذين نقلوا وروا الحدث؟ وما هي شخصيتهم وقوميتهم وميولهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية والسياسية والفكرية؟ وحتى ما هي غرائزهم وأخلاقهم؟؟ لأن الأنسان مهما بلغ من معرفة وسمو وثقافة وتحضر وأدعاء الحيادية فأنه في الآخر سيبقى أسير تلك المفردات من حيث يدري ولا يدري!،وأن شذ البعض عن ذلك فهم لا يعدون على أصابع اليد الواحدة حقا!؟. لذا تعرض التاريخ القديم وحتى الحديث منه الى الكثير من التشويه والتناقض في الرواية لحدث معين كما (يحدث الآن على الساحة السياسية والأعلامية في العراق). فعلى سبيل المثال: على الرغم من كثرة من نقلوا وروا حادثة مقتل العائلة المالكة أبان ثورة تموز عام 1958 في القرن الماضي من ضباط شاركوا بالثورة وكذلك من كتب عن ذلك من مؤرخين وكتاب كبار ناهيك عن شهود عيان من ناس عاديين كانوا موجودين في يوم وقوع ثورة تموزعام 1958 ألا أنه لا توجد رواية صدقها القراء 100% عن تلك الواقعة الأليمة لكثرة التناقضات والتباين بين من نقلوا وتحدثوا وكتبوا عن الواقعة!، ولازلنا نقرأ بين الحين والآخر عن رواية هنا أو هناك يتحدث بها أصحابها عن تلك الواقعة لا تتشابه مع كل ما قرأناه وسمعناه.مثال آخرقريب جدا لازالت صورته عالقة في أذهان العراقيين بل وفي ذاكرة كل من شاهد الحدث من العالم أجمع! حيث لازالت الروايات تتناقض عن مدى صحة ما عرضه الأمريكان للعالم عن كيفية القاء القبض على رئيس النظام السابق؟!، حيث ظهرت أدلة وحقائق جديدة تكذب رواية الأمريكان وتنسفها جملة وتفصيلا!، وتقول الرواية بأن رئيس النظام السابق لم يكن يختبأ بحفرة بل كان يسكن في غرفة كبيرة بني فوقها بيت!، وأنه لم يستسلم لهم بسهولة بل حاول المقاومة!، كما وأن صدام لم يكن بهذه الصورة المزرية التي ظهر عليها عندما ألقي القبض عليه! ولكن الأمريكان أرادوا أن يذلوه امام العالم فظهر بتلك الصورة البائسة، أشعث الشعر طويل اللحية مذهولا مستسلما للطبيب الأمريكي الذي كان يفحصه وكأنه كان منوما مغناطيسيا أو مخدرا! وبعيدا عن كل شيء فان مختبرات المخابرات الأمريكية تستطيع صنع وعمل أي شيء؟!.(عموم الشعب العراقي الآن باتوا لا يصدقون الرواية الأمريكية لكونهم يعتبرون الأمريكان هم المسؤولين عن دمار وتحطيم العراق، وأن الأمريكان تنصلوا من كل وعودهم التي قطعوها للشعب العراقي قبل الغزو وقبل أحتلالهم للعراق، يعني وبأختصار أن الأمريكان معروفين أمام العالم بكذبهم وتلفيقهم!!، وحتى أن الكثير من الخليجيين لا يصدقون الرواية الأمريكية أيضا بخصوص كيفية ألقاء القبض على رئيس النظام السابق!، وذلك بسبب مواقف الأمريكان الأخيرة تجاه دول الخليج وكذبها عليهم وأبتزازها لهم، والعراقيين والخليجيين أن كذبوا الرواية الأمريكية فهي ليست حبا بصدام بل بغضا وكرها بالأمريكان بسبب من مواقف الأمريكان تجاه العرب عموما وتجاه العراق ودول الخليج خصوصا!). هذه أمثلة قريبة ذكرناها عن التاريخ لم تمر عليها فترات طويلة ومع ذلك ظهر عليها الكثير من التناقض. وكم سمعنا وقرأنا ولا زلنا نقرأ ونسمع أن هناك أشخاصا وأحزابا وحتى دول قد شوهت مجرى التاريخ وزورت الكثير من حقائقه خدمة لمصالحها ولتصنع لنفسها تاريخ جديد يتلائم مع ما تريده!. وهنا علينا أن لا ننسى بأن كل فترة من فترات التاريخ لها كتابها وأقلامها وأعلامها والكثير من هؤلاء يكتبون ويقولون ويصرحون بقدر العطاءات والهبات والهدايا التي تغدق عليهم وأيضا هم يكتبون من أجل الجاه والحظوة!, وهؤلاء من يطلق عليهم كتاب البلاط ، وهؤلاء تجدهم في كل زمان ومكان، فهم ميتو الضمير والوجدان والأنسانية ولا تهمهم مصلحة الوطن والشعب، فقط تهمهم مصالحهم في الأول والآخر. نعود بالقول، كم من مرة وقفنا أزاء أمر ما وموضوع وحدث معين لم تمض عليه سوى عقود قليلة من الزمن، ولكننا نجد تناقضات كثيرة وأختلافات واضحة في نقل ذلك الحدث! فكل راو للحدث يريد أن يقول أو هكذا يبدو بأن روايته هي الأكثر صدقا وحقيقة وأحيانا يكذب الروايات الأخرى بشكل كامل، وأمام هكذا تناقضات وأختلافات وتباين في نقل الأحداث كالتي ذكرناها، كيف بنا سنصدق تاريخ عمره آلاف السنين جرت فيه الكثير من الأحداث والمواقف والوقائع؟. ولا أدري ما مدى صحة ما نقله لي أحد الزملاء عندما كان يدرس الدكتوراه في الأتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي تحديدا عام 1989 من أن الزعيم السوفيتي(كورباجوف) وهو آخر الزعماء الروس الذي أنتهى الأتحاد السوفيتي في حكمه وأنهارت معه منظومة الدول الأشتراكية،أقترح هذا الزعيم بعد أنهيار الأتحاد السوفيتي ألغاء أمتحان درس التاريخ في كل المراحل! مطالبا بأعادة كتابة تاريخ الدولة السوفياتية منذ ثورتها البروليتارية عام 1917 من جديد وبشكل نزيه وصادق لأن الثورة البروليتارية الحمراء التي هي رمز الشيوعية لم تكن تحمل تلك المفاهيم الأنسانية والفكرية والأجتماعية من حريات وديمقراطيات وما الى ذلك!. بل بالعكس من ذلك فأنها كانت مليئة بالكذب والتشويه وحمامات الدم والقمع والأستبداد والتصفية والمقابر الجماعية، وقد شارك بصنعها كل زعامات ورجالات الدولة السوفيتية آنذاك بدأ من (لينين) مفجر الثورة البروليتارية عام 1917 ومرورا بستالين وخروشوف وبقية القادة السوفيت، وهو ما ثبت صحته فيما بعد!. نعود الى صلب الموضوع وعن الساحة السياسية العراقية وما يجري الان فيها من أحداث وما يصدر من تصريحات وما تنقله الفضائيات وما تكتب عنه الصحافة عن كل هذه الأحداث السياسية وغيرها من المشاهدات اليومية والتي تعد في حقيقة الأمر من أخطر الفترات التي يمر بها العراق في تاريخه الحديث لكونها تنوعت بين فساد ونهب وسرقة المال العام على يد الطبقة السياسية الفاسدة، وبين حروب أهلية وأقتتال داخلي، وبين كثرة وعمق التدخلات الخارجية والأقليمية بالشأن العراقي، وبقدر ما أنعكس ذلك على كيان المجتمع العراقي الذي أصابه الكثير من التصدع والتمزق، فأنه وبلا شك سيورث جملة من التراكمات على عقل وفكر المواطن مليئة بالكذب والتزوير والتلفيق لربما سيكون من الصعب أجتثاثها فيما بعد!.أن هذه الفترة العصيبة التي نمر بها جميعا شعبا ووطنا دخلت التاريخ حتما وستروى لكل أجيالنا القادمة بكل تفاصيلها وأحداثها ودقائقها وهنا يبرز السؤال المهم هو : كيف سنكتب التاريخ للأجيال القادمة عن هذه الفترة؟ ومن الذي سيكتبه؟ وهل سنلوث عقولهم وأفكارهم بالكذب والتلفيق وتزويرالأحداث بزيادة هنا ونقصان هناك!، كما تلوثت عقولنا بالكثير من الأحداث التي جرت على مر التاريخ للعراق!. المشكلة أن قول الحقيقة وأظهار الحق في هذه الفترة الرهيبة التي مر ويمر بها العراق منذ الأحتلال الأمريكي له بأسقاط النظام السابق بكل أحداثها وتداخلاتها وأرهاصاتها، هو أمر صعب لا يحتمل البوح به والحديث عنه ولربما يؤدي بصاحبه الى الهلاك والموت، فليس كل ما يعرف يقال!؟ . يبقى المواطن البسيط وكذلك القاريء هم الخاسرين في هذا الصراع السياسي المرعب في العراق والذي تمده وتغذيه القوى الدولية والأقليمية، فهم مثلما خسروا حياتهم وأريقت دمائهم بسبب ذلك الصراع، فالمواطن والقاريء الآن يخسر عقله وفكره بسبب ما يراه ويسمعه من الكم الهائل من الأخبار والأحداث والمتناقضات بين خبر وخبر ومشهد ومشهد كلها مليئة بالكذب والتلفيق والتناقض. ان هذه الفترة التي يمر بها العراق منذ سقوط النظام السابق ولحد الآن بكل هذه الصراعات والتقاتل والأستقتال ستنتهي عاجلا أم آجلا ولكننا لا ندري من سينتصر في النهاية الحق أم الباطل، وهل ستنتصر أرادة الشعب الذي لا زال يبحث عن الحق والحقيقة؟. أخيرا نقول:ولأن الأحتلال الأمريكي والأقليمي للعراق لابد له من نهاية! فنقول لكل سياسيينا ومفكرينا وأدبائنا وكتابنا، الذين عاشوا ويعيشون هذه الفترة المهمة والمفصلية من تاريخ العراق من بعد الأحتلال الأمريكي والأقليمي له!، أن العراق من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه هو أمانة لديكم وأن كتابة تاريخكم والتحدث عنه وسرد الوقائع على حقيقتها هي جزء مهم من بناء العراق الجديد خدمة لأجيالنا القادمة. وأذا كان الزعيم السوفيتي (كورباجوف) قد أنصف الروس عموما وتكلم بضمير نقي وصاف وبجرأة، ترى من سينصف تاريخنا من كل هذا التشويه والتزوير والكذب الذي نسمعه ونراه كل يوم؟. وهل سياتي الى العراق شخص مثله قادر على أن يضع حدا لكل هذه الفوضى ويوقف معها بعد ذلك أداء أمتحان درس التاريخ القديم والحديث للعراق وبكل مراحله لحين أعادة كتابته بشكل صادق ونزيه وشفاف وصريح بعيدا عن الأقلام الرخيصة وكتاب البلاط وعن أية ضغوطات خارجية ويعطي لكل ذي حق حقه؟ نتمنى ذلك.