23 نوفمبر، 2024 1:16 ص
Search
Close this search box.

كيف سقطت طائرة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”؟؟؟

كيف سقطت طائرة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف”؟؟؟

بادئ ذي بدء أود إستجلاب أنظار القارئ العزيز والمتابع الكريم لمجريات تأريخ العراق وأحداثه السياسية في أواسط عقد الستينيات من القرن العشرين، وبالأخص شخص الرئيس الراحل “عبدالسلام محمد عارف، بأن هذه الدراسة –التي تعبتُ في إعدادها كثيراً- ليست كمثيلاتها التي نـُشِرَت تباعاً على صفحات هذا الموقع الأغر، كون مصرع ذلك الرئيس جراء سقوط طائرة الهليكوبتر -التي أقلعت من بلدة “القـُرنة” مساء (الأربعاء/13/نيسان/آبريل/1966) في طيران ليلي نحو “البصرة”- كان بحق واقعة هزّت “العراق” ونظامه السياسي القائم في حينه، وجعلت زعماء الأحزاب العراقية الصامتين ورؤساء الكتل السياسية الخائفين يستغلون بعض الهشاشة التي أصابت أدوات السلطة ليخططوا لإنقلابات تـُقـَفـِّزُهم ليجلسوا بين عشية وضحاها على كراسي الحكم وقتما إستشعروا بأن رجلاً تميّز بالشجاعة والحزم والقرار الحاسم قد غاب عن القصر الجمهوري وجعل ساحة العراق السياسية تعود إلى هشاشتها بعد أن تمتعت بشيء من الإستقرار النسبي منذ عامين فحسب.
وما هذه الدراسة الطويلة –وما سألحقها من دراسات مفصلة ومعمقة أعتبرها جملة شهادات عيان وخبراء لخدمة التأريخ- سوى ((زبدة)) ممّا سطـّرته من يوميات صادقة من دون إنحياز إيجابي أو سلبي–والله يشهد على ما أقول- في تلك الأيام بساعاتها وحتى بالدقائق التي عشتها وسط الأحداث فضلاً عن المقابلات التي أجريتها –في حينه- مع العديد ممّن كانوا بصحبة الرئيس الراحل مرافقين له أو قريبين منه في ساعاته الأخيرة، فضلاً حقائق ميدانية تمخـّضت عن المجلسين التحقيقيين (القضائي والعسكري) في قراريهما الرسميين المنشورين، وما تكرّم الذوات المدرجة أسماؤهم في أدناه من
معلومات وآراء إثر معايشتهم الميدانية مع الحدث قـُبَيلَ وقوعه وأثناءه ومن بعده… وهم السادة:-
1. المقدم الركن فاضل مصطفى أحمد- مقدم لواء الحرس الجمهوري- الذي رافق الرئيس “عبدالسلام عارف” في جولته الأخيرة لمحافظة “البصرة”.
2. المقدم الطيار عدنان أمين خاكي- آمر/قائد رفّ الطائرات الجمهوري، وقائد الطائرةالخاصة التي أوصلت الرئيس “عبدالسلام عارف” إلى “البصرة”.
3. الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت- قائد الهليكوبتر الثانية لدى العودة من “القرنة” إلى “البصرة”.
4. الملازم أول رشيد علوان المهداوي- المرافق العسكري للرئيس “عبدالسلام عارف” في زيارته للبصرة..
5. الملازم شهاب أحمد الدليمي- آمر فصيل الحماية الشخصية للرئيس- الذي كان أقرب الشخوص للرئيس “عبدالسلام عارف”.
6. الملازم أول أحمد بهجت- معلم وخبير المتفجرات في مدرسة الهندسة العسكرية- عضو اللجنة التحقيقية العسكرية لحادث سقوط الهليكوبتر.
7. الملازم (إحتياط” محمود رؤوف- آمر الفصيل (المرتب) المكلـّف بحماية مهابط الهليكوبترات الثلاث في “البصرة” و”القرنة”.
الإلتمـاس المحمـوم للقَـدَر المـحتـوم
والآن فلنعد إلى بلدة “القـُرنة”… فوفقاً لتوقيتات جولات اليوم الثاني من زيارة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” للبصرة والمُبلَّغة إلى الطيارين والمرافقين الرسميين، فقد هبطت الهليكوبترات الثلاث من طراز (ويستلاند ويسيكس/WESTLAND WESSEX-بريطانية المنشأ) قرب ملعب الإدارة المحلّية لمركز قضاء”القُرنة” قـُبَيل الساعة الواحدة من ظهر (الأربعاء/13/نيسان/آبريل/1966) وباتت جاهزة لإعادة رئيس الجمهورية وصَحبه من “القُرنة” الى “البصرة” حتى حلـّت الساعة ((الرابعة والنصف)) عصراً، وهي الموعد المفترض للإقلاع… وكان الطيار الأقدم “النقيب الطيار خالد محمد نوري”
قائداً للمجموعة بطائرته الأولى المُرقَّمة “598”، والثانية بقيادة “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزّت”، والثالثة يقودها “الملازم أول الطيار عثمان نوري علي” وبصحبته “الملازم الطيار مذكور فليح الرُبَيْعي” مُعاوناً وبمثابة (طيار إحتياط) قد يحلّ محلّ أحدهم لأي سبب كان.
ولكن واقع الحال في ذلك الحين لم يكن كذلك، فالرئيس “عبدالسلام عارف” لم يكترث بالتوقيت الممنهج في تلك الحديقة المُطلّة على مياه “نهر دجلة” حتى الساعة ((الخامسة والنصف)) مستأنساً بالحديث مع الوزيرَين “اللواء عبداللطيف الدَرَاجي، والدكتور مصطفى عبدالله”، والعميدَين المهندسَين “جهاد أحمد فخري- مدير عام مصلحة الكهرباء الوطنية، وعبدالهادي حافظ- وكيل وزارة الصناعة”، وقتما إنتصب أمامه -بحكم سوء القَدَر- السيد “عبداللطيف الجُبوري”- قائمّـقام قضاء القُرنة، ملتمساً فخامته ضرورة حضور مهرجان شعبي أقامه في ملعب الإدارة المحلية وسط المدينة…….. فكان إلتماساً محموماً، وكانت إستجابة “عبدالسلام” له قاتلة.
ردّ عليه “عبدالسلام عارف”:-
“ولكن الوقت أدركنا يا أخ عبداللطيف، وليس من المعقول أن نتأخر عن الساعة السادسة، لأن الطيارين لا يقدرون على الطيران ليلاً”.
وخاطب الطيارين:- “هل تدبرون الطيران الليلي”؟؟؟؟
وفوراً ردّ آمر/قائد السرب والطيارون الثلاثة الآخرون وهم بوضع الإستعداد العسكري:- “نعم سيدي جاهزون”!!!!
((وأقول أن من المؤسف أن يكون هذا ديدن العسكر في مثل هذه المواقف، وكأنه لا يجوز للضابط أن يظهر عكس ذلك، وبالأخص إذا كان المقابل بمنصب عالٍ!!!
فواقع الحال -حسبما سأتأكد بعدئذ من زميلي الملازم أول الطيار منذر سليمان عزت- أنهم لم يكونوا جاهزين بشكل مطلق، ولم تكن طائراتهم رغم حداثتها -ومثلما كان عليه حال معظم هليكوبترات العالم في حقبة الستينيات- مزودة بأجهزة رؤية ليلية، ولم تحتـَوِ سوى آلات بسيطة للطيران الليلي، بل وأنهم جميعاً كانوا
غير مُدَربين إلاّ بشكل عابر على مثل هذه المهمة التي تعتبر صعبة وتتطلب إستحضارات دقيقة، وحتى أن آمر السرب والآخرون لم يضعوا ولو خطة بسيطة في ذلك المساء وقتما تبين لهم أن العودة إلى “البصرة” سيتم في ظل ظلام دامس بالإعتماد الحتمي على الخريطة وأسلوب الطيران بالآلات والإبتعاد قدر الإمكان عن النظر بالعين المجردة)).
وعلى أي حال وتحت إلحاح ورجاء شديدَين إضطر “عبدالسلام” إلى الإستجابة المصحوبة ببعض التردّد… فسار راجلاً مع العشرات من صحبه نحو “ملعب الإدارة المحلية” الذي طَوَّقَته الجماهير من جهاتها الأربع.
المهـرجـان القـاتـل
إفتتح “القائمقام” المهرجان بزهو وفخر، فتتابعت الخطب الطويلة وعبارات الترحيب وتلاحقت قصائد التمجيد التي عرضت مطالب أهل “القُرنة”، حتى وجد “عبدالسلام” نفسه أن من الواجب عليه إلقاء كلمة قصيرة مناسبة، تحوّلت الى خطاب مُرتَجَل ودافئ، إذْ قال في بعض عباراته:-
((لم نكن نريد لأنفسنا مكاسب معينة حينما ثـُرنا… ولم نكتفِ بقراءة البيان رقم (1) في الإذاعة… بل كان كل ذلك من أجلكم ولتأمين حياة أسعد لكم… إننا لا نعمل في سبيل تلبية مطالب أهالي “القرنة” الأعزاء فحسب، إنما نتمنى لو إستطعنا أن (نُزَوِّجَكم) جميعاً… ونَذراً عليَّ يا أهل “القرنة”، لو أَمَدَّ الله في عمري لأُزوّجكم جميعاً لتنجبوا لهذا الوطن صبياناً وبنات نفتخر بهم يوم القيامة)).
وفي تلك اللحظات سمع فيها الرئيس “عبدالسلام” صوت المُؤذَِّن الداعي الى صلاة المغرب، فإستبشر كثيراً قبل أن يضيف:-
((أنظروا… فهذه شهادة على صدق حديثي إن شاء الله… وأعتذر عن عدم البقاء معكم أطول مما بقيتُ، فالطيارون سوف لا يستطيعون أن يطيروا… فقد أطلتُ البَقاء معكم، فكيف أقوم بواجباتي يوم غد؟؟!! لاسيّما وأن منهجاً حافلاً آخر ينتظرني هذه الليلة حال عودتي للبصرة)).
كان الظلام يحلّ شيئاً فشيئاً بعد غروب شمس ذلك اليوم في حوالي الساعة السادسة، ولربما لم يستشعر معظم الحضور بذلك، فقد كانت الساحة مُنارة بتسليط أضواء عشرات “البروجكترات” الضخمة عليها… وجاوزت الساعة السادسة والنصف، وقتما راح “عبدالسلام” يُلَوِّح بيديه مُودّعاً الجماهير، وسط تصفيق حاد تتخلّله الأهازيج والهُتافات العالية، فتوجّه مُحاطاً بصحبه الى حيث كانت طائرات الهليكوبتر تنتظر، والهتافات تنادي:-
“إحنا جنودك يا سلام… إحنا جنودك يا سلام”
“عبدالسلام محبوبنـا… مكتوب جوّه قـلوبنا”
ألتقطت هذه الصورة مساء (الأربعاء 13/نيسان/أبريل/1966) التي ربما تكون آخر ما أُلتُقِطَ للرئيس “عبدالسلام عارف” وإلى الخلف منه أمين سره الرائد “عبدالله مجيد” وهما في متن السيارة المكشوفة في الطريق إلى الساحة التي تقف فيها طائرات الهليكوبتر التي ستقلهم من “القرنة” الى “البصرة”.
رحلـة العـودة القـاتلـة
وفي مدخل الطائرة، صاح “عبدالسلام” لمُودّعيه من الجماهير وبصوت عال:-
– في أمان الله.. في أمان الله.
فردّوا عليه:-
§ الله معاك.. الله معاك.. في أمان الله.. في أمان الله يا “أبا أحمد”.
وصعد معه في الطائرة نفسها كل من “عبداللطيف الدراجي، مصطفى عبدالله، جهاد أحمد فخري، عبدالهادي حافظ، محمد الحيّاني، العميد زاهد محمد صالح، الرائد عبدالله مجيد”.
وبعد أن تم تشغيل محرّك الطائرة والتأكد من سلامة الرِيَش والأجهزة والمعدّات, صعد إليها نائبا الضابط “الكهربائي محمد عبدالكريم، والبرّاد كريم حميد”.
وإمتطى الطائرة الثانية كل من “بايز عزيز- متصرف لواء الناصرية، إبراهيم الوَلي- رئيس التشريفات وكالة، المقدم الركن فاضل مصطفى أحمد- مقدم لواء الحرس الجمهوري، المقدم الركن قاسم حمودي- آمر موقع البصرة العسكري وكالةً، المقدم الركن “زكي الصائغ”- ضابط ركن موقع الناصرية العسكري، “شاكر الغرباوي”- رئيس بلدية الناصرية، “أحمد الحَسّو”- أحد موظفي القصر الجمهوري، “فيصل حَسّون”- نقيب الصحفيين، و”عبدالعزيز بركات”- السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية”.
أما الطائرة الثالثة فقد كانت مخصّصة للصحافيين والإعلاميين والمصورين ومراسلي الصحف والإذاعة والتلفزيون والسينما.
إقترب الملازم “شهاب أحمد الدليمي”- آمر فصيل الحماية الشخصية- من الرئيس “عبدالسلام” قبيل صعوده إلى متن الطائرة، ليوضّح له أن صداعاً شديداً قد ألَمَّ برأسه بعد أن أرهقته تدابير الحماية والجولات الطويلة المرهقة منذ الصباح الباكر بحيث لا يستطيع السفر بالطائرة، وسيعود إلى “البصرة” بالسيارة الخاصة المكشوفة مع السائق “حميد بَلاسِم”.
فبادره رئيس الجمهورية إلى القول مستهزئاً باللهجة العامّية:-
“وَلَكْ تْخَسَه… أنتَ السَبع تخاف من الطيارة!!!!”((بمعنى عيب عليك… أنت كالأسد وتخاف من ركوب الطائرة)).
قالها “عبدالسلام عارف” قبل أن يسلّم نظارته الطبية ومسدّسه الشخصي الصغير من طراز “وَبْـلِي” إلى مرافقه الشخصي “الملازم أول رشيد علوان المَهداوي” ليوصيه قائلاً باللهجة ذاتها:-
“دير بالك على شهاب، مبيّن ما له خُلُكْ”. ((بمعنى أرجو مداراة “شهاب” يبدو أنه ليس بصحة حسنة))
فكانت تلك آخر العبارات التي سمعها “الملازم شهاب” من رئيسه.
وحالما شاهد الطيارون رئيس الجمهورية قد إقترب منهم سائراً على قدميه، إبتغى قائد التشكيل “النقيب الطيار خالد محمد نوري” التأكد من سلامة الأجهزة اللاسلكية، فنادى قائد الطائرة الثانية “الملازم أول الطيار منذر سليمان عزّت”، فأجابه بوضوح.
وفي (السابعة إلاّ عشر دقائق مساءً) أقلعت الطائرة الأولى، وتبعتها الثانية فور إنقشاع الغبار المتصاعد الذي عمّ تلك البقعة بكثافة جراء السرعة القصوى لدوران مروحتي الطائرتين، وذلك دأْبُ الهليكوبترات عند الإقلاع، وخصوصاً إن كانت الأرض التي تحتها هشّة وترابية أو رملية.
وبسبب عُطل بسيط أصاب محرّك الهليكوبتر الثالثة وتمّ إصلاحه خلال دقائق، أقلع بها “الملازم الطيار عثمان نوري علي” يعاونه “الملازم الطيار مذكور فـــلَيــِّح الرُبَيْعي”، مُتـَّبِعة الطائرتين الأُولَيَين نحو “البصرة” في طيران ليلي سيدوم أقل من “نصف ساعة” لقطع مسافة لا تزيد على (80) كيلومتر.
وبعد دقيقتين من التحليق وسط ظلام دامس، وحالما علم السيد “فَريد عبدالأَحَد” المراقب الجوّي لمطار البصرة الدولي أن إحدى الطائرتَين تحمل رئيس الجمهورية، فقد أبلغهما “التقرير الجوي” المعتاد” باللغة العربية:-
((إتجاه الريح (350) درجة.. سرعة الريح (4) عقدة جوية.. مدى الرؤية (4) كيلومتر.. هناك أتربة معلّقة في الجو.. الغيوم معدومة.. الضغط الجوي (1008.6) ملّيبار)).
ولم يَتَلَقَّ الطيارون بعد ذلك، سواء من “مطار البصرة” أو سواه أي تحذير عن سوء في الأحوال الجوية السائدة..
وبينما تحقق تبادل الرؤية بين الطائرتين الأولَيَين، فإن ثالثتهما كانت متأخّرة عنهما، ولكن الإتصال اللاسلكي بين الطيارين جميعاً كان سالكاً، وهم يحلّقون على إرتفاع (6,000) قدم ((حوالي 2,000 متر)).
الكــارثـة
وفجأة، ومن دون سابق إنذار أو تحسّس، وبعد طيران دام حوالي (15) دقيقة بعد الإقلاع من “القرنة”، وجد “الملازم أول منذر” -قائد الطائرة الثانية- نفسه في
أجواء من الجيوب الهوائية المؤثّرة على توازن طائراته، وإستشعر الركاب بهزّات عنيفة، وأمسى مدى رؤيته (صفراً) بسبب الغبار الذي ملأ الجو المحيط به.
تلقّى “منذر” مكالمة من “خالد” قائد التشكيل، وهو يطلب الإيعاز إلى قائد الطائرة الثالثة “عثمان” بالعودة إلى “القرنة” فوراً، وسمع حواراً من “خالد” وهو يطلب من “مطار البصرة الدولي” أن يحدّد إتجاه طائرته وموقعها.
ولما أستشعر “منذر” تلكّؤ “سيطرة المطار” في الإجابة، تدخّل بينهما ليقول للمراقب الجوي في ذلك المطار، وبلهجة عنيفة:-
((ألا تفهم؟ النقيب “خالد” معه السيد رئيس الجمهورية، حدّدوا له إتجاهه وموقعه بسرعة)).
إلاّ أن ردّ السيطرة كان:- ((لا تتوفر لدينا أجهزة لتحديد الإتجاه))!!!..
أدار “منذر” المكالمة نحو “سيطرة قاعدة الشُعَيْبة الجوية”، فكان الجواب كذلك سلباً ، فلا جهاز لتحديد الإتجاه لديهم.
خلال تلك اللحظات تملـّكَ الرعب شخص “منذر” وقتما سمع “خالد” يصيح:-
((منذر.. منذر، ولك عيني إلحَكْني.. أنا في خطر))… ((إلحكني:- يعني “أنجدني”)).
وفي تلك اللحظة بالذات، وقع “منذر” في جيب هوائي كبير، جعل طائرته تفقد حوالي (1000) متر من إرتفاعها خلال ثوانٍ، حتى وجد نفسه فوق بقعة من الأهوار، كلّها مياه.
حاول “منذر” رؤية طائرة “خالد” فلم يستطع، فقرر العودة الى “القُرنة” وهبط قرب “ملعب الإدارة المحلية” نفسه في حوالي الساعة السابعة وعشرين دقيقة – أي بعد طيران دام حوالي نصف ساعة- وظلّ ينادي “خالد” لاسلكياً طوال طريق العودة من دون جدوى حتى وجد أمامه “عثمان” وقد سبقه في الهبوط بالموقع نفسه.
تَرَجَّــل “منذر” مسرعاً من مقصورته وصرخ بصوت عالٍ موجّهاً كلامه نحو “المقدم الركن فاضل مصطفى”- مقدم لواء الحرس الجمهوري:-
“سيدي… طائرة المشير تاهت”.
وهنا فقط، أدرك الركاب الذين نزلوا من هذه الطائرة، أنهم لم يهبطوا في “مطار البصرة” كما كان مخططاً، بل أنهم في “القرنة” مرة أخرى.
ساد الهرج ساحة الملعب، وسط إرتباك وقلق كبيرين… وبأوامر فورية فتحت السيارات -التي كانت لا تزال هناك- أضواءها، وأشعل أهل “القرنة” النار فوق سطوح منازلهم عسى أن تهتدي الطائرة المفقودة اليها، بينما إنطلقت بضع سيارات إلى الطرق الخارجة من المدينة لعلّ أصحابها يعثرون على شيء.
إتصل “منذر” بالهاتف الوحيد الذي كان منصوباً قرب “مَنَصّة الخطابة” بملعب “القرنة”، بمطار البصرة موضّحاً لـ”السيطرة” تفاصيل الموقف القائم، طالباً منهم إنارة “مدرج الهبوط” علّها تساعد الطيار في التوجّه نحو المطار.
إمتطى “منذر” طائرته وأقلع لوحده، وحلّق في سماء “القرنة” ليبعث إشارت ضوئية إلى جميع الإتجاهات، وحاول الإتصال لاسلكياً بالطائرة المفقودة، دون جدوى.
إنقضى الوقت ساعة بعد أخرى دون نتيجة، فقرّر الجميع العودة نحو “البصرة” بالسيارات.
في فنـدق شط العـرب الفاخـر
كانت مأدبة العشاء التي أقامها متصرف/محافظ البصرة “محمد الحيّـاني” في فندق “شط العرب” الفاخر جاهزة قبل الساعة السابعة مساء، وقتما كان جموع المدعوين من كبار الضباط والموظفين وشيوخ العشائر ووجهاء المدينة يترقبون عودة “رئيس الجمهورية” وصحبه من جولة الأربعاء، حتى قاربت عقارب الساعة من التاسعة مساءً لما باتوا يتهامَسون عن أسباب هذا التأخير غير الإعتيادي، حتى سَرَى ((خبر)) فقدان الطائرة التي لم يشأ أحد تصديقه… ولمّا لم يحضر صاحب الدعوة “محمد الحياني” ورئيس الجمهورية المُحتفى به حتى العاشرة ليلاً، إنصرف المدعوّون إلى بيوتهم خائبين وقلقين.
في إدارة الفندق رأس “الدكتور محمد ناصر” -وزير الثقافة والإرشاد- مع “اللواء الركن عبدالمجيد سعيد”-مدير عام مصلحة الموانئ العراقية- إجتماعاً طارئاً حضره كبار الضباط وإداريّو البصرة ومديرَي الشرطة والأمن، متباحثين حول إجراء إتصالات هاتفية فورية مع “بغداد”، كانت أولاها مع “الأستاذ عبدالرحمن البزاز” رئيس الوزراء، وذلك قبل أن ينتقل الجميع الى ديوان المتصرفية/المحافظة ليتّخذوه مقراً لعملهم الدؤوب حتى الصباح.
إجـراءات إحتـرازيـة
أُدْخِلَتْ القوات المسلحة العراقية بالإنذار تحَسّباً لأي إحتمال قائم، فيما صدرت الأوامر ليلاً إلى الزوارق السريعة التابعة لمصلحة الموانئ والشرطة النهرية، وكذلك الى عدد من سيارات الإسعاف والسيارات العسكرية ومفارز الشرطة والأمن والإستخبارات للإنتشار في البقاع الفاصلة بين “البصرة والقرنة” وسواهما بحثاً عن الطائرة المفقودة، بينما تطوّعت “شركة نفط البصرة” المختلطة بإطلاق إحدى طائراتها في تلك الليلة للتحليق في أجواء المنطقة عموماً وإستطلاعها، ولكنها عادت دون جدوى.
في تلك الساعات كذلك تمت مهاتفة مخافر الحدود العراقية المتاخمة مع “إيران”، وبشخص “القنصل العراقي” في مدينة “المحمرة/خُرمْشَهر” ليُقال له ((أن طائرة هليكوبتر تحمل شخصيات عراقية مهمة)) قد ظلّت طريقها وسط عاصفة ترابية، ولربما تكون قد دخلت الأجواء الايرانية… ولكنهم لم يتلقّوا جواباً.
مشاهداتي في مبنى الإذاعة والتلفزيون
لم يكن نهار (الأربعاء/13/نيسان/آبريل) مختلفاً في هدوئه عن باقي الأيام التي مضت علينا في حماية مبنى الإذاعة والتلفزيون.. فبعد إنقضاء ساعات الدوام الرسمي غادرنا “الملازم يوسف خليل” آمر السرية ومعه “الملازم سعد شمس الدين” فبقيتُ بصحبة “الملازم عبدالجبار جسّام”، متّمتعاً بقيلولة ما بعد الظهر، حتى أيقظني “الملازم عبدالجبار” قبيل أذان العصر ليستأذنني متوجهاً إلى مسكنه على أمل أن يعود قـُبَيل منتصف الليل، كما جرت العادة.
تفقّدتُ نقاط الحراسة ومواقع الأسلحة المنصوبة لحماية المبنى، قبل أن أنفرد في “غرفة الضباط” لأستقبل البعض من ضباط صف سريتنا ممن لديهم معاضل محددة بغية حلّها، إضافة لزملاء مذيعين ومخرجين ومقدّمي برامج في زيارات مجاملة شبه يومية، حتى قاربت الساعة العاشرة ليلاً، حين جاءني آمر حرس باب المبنى مهرولاً ليخبرني بأن السيد آمر الفوج “الرائد الركن عبدالرزاق العُبَيْدي” قد حضر بسيارته العسكرية -على غير عادته- طالباً حضوري أمامه فوراً.
هرعتُ الى حيث آمر الفوج وأديتُ التحية العسكرية له وقدّمت نفسي بصوت عال، كالعادة…. فقال بكل هدوء -كعادته دائماً- بعد أن أشّر نحو الجنود بالإبتعاد عنا:-
– كيف حالكم، يا ملازم صبحي؟
§ بخير، والحمد لله، سيدي.
– وكيف أوضاع الجنود في نقاط الحراسة؟
§ الجميع قائمون بواجباته، وقد تفقّدتُهم عصراً، سيدي.
– ملازم صبحي أودّ إسمعني جيداً ونفـّذ فوراً:-
أولاً- أدخل الجميع بالإنذار، وليُحِط نصفهم بسياج المبنى، ويظل النصف الآخر جاهزين في قاعة المنام، وبدّلهم كل ساعتين او ثلاث.
ثانياً- أرسل سيارة لإحضار آمر السرية فوراً، وبلّغه بأن إجازات المراتب الدورية قد أُلغيت إلى إشعار آخر.
ثالثاً- سأُبلّغكم بمجريات الأمور لاحقاً، ولا داعي لإطلاع المراتب عليها.
وبينما جلس آمر الفوج في غرفة الضباط، فقد حضر رأس عرفاء السرية أمامي خارجها… وقبل كل شيء همستُ في أذنه أن يركض (الجندي المُراسِل) للملازم “عبدالجبار” إلى مسكنه ليأتي إلينا فوراً، شريطة دخوله المبنى من بابه الخلفي للحيلولة دون مشاهدة آمر الفوج له.
في هذه الأثناء عاد “الملازم سعد شمس الدين” بملابسه المدنية، ودخل غرفة الضباط بعد أن أعلمتُه بوجود السيد آمر الفوج هناك، فيما أسرعتُ إلى قاعة منام المراتب لأجدهم في وضع مرتبك بعض الشيء -كما الحال كلّما أُدخِلنا الإنذار- وأوعزتُ لهم بالإسراع في إرتداء الملابس والتجهيزات وحمل أسلحتهم والتحرّك كل الى القاطع المخصص، وأجريتُ جولة تفقّدية سريعة حول المبنى للتأكد من سلامة تنفيذ الأوامر.
عدتُ إلى “غرفة الضباط” في حوالي الساعة العاشرة والربع، لأجد “الملازم سعد شمس الدين” وقد إرتدى ملابسه العسكرية وحمل مسدسه، وأن آمر الفوج قد غادرنا إلى “ثكنة الفوج”… فبادرتُه بالسؤال المعتاد الذي يفرض نفسه على كل فرد بالحرس الجمهوري في مثل هذه المواقف:-
§ يبدو أن هناك إحتمال مؤامرة أو حركة هذه الليلة؟
– الإحتمال قائم بالطبع، ولكن هناك شيء أكبر من ذلك في هذه المرة!!!!
§ خيراً إن شاء الله.
– أرجو ألاّ تخبر أحداً بما سأُتحدث به، فالموقف غير واضح لحد الآن.. لقد فُقِدَتْ طائرة الهليكوبتر للسيد رئيس الجمهورية أثناء العودة من “القُرنة” إلى “البصرة”.
§ ما هذا؟؟؟ وكيف تفقد طائرة السيد رئيس الجمهورية؟؟؟
– هذا ما بلّغني به السيد آمر الفوج… وتشير المعلومات الأولية أنها أقلعت من “القرنة” مساء هذا اليوم في حوالي الساعة السابعة، ولم تصل إلى “البصرة”، وكذلك لم تَعُدْ الى “القرنة”.. ويُقال كذلك أن الجو كان مُغبَرّاً.
§ وماهي الإجراءات المتّخذة الآن؟
– لا أدري، ولكن التفتيش جارٍ في المنطقة الفاصلة بين “البصرة” و”القرنة”، لعلّهم يعثرون على شيء؟
بعد فترة وجيزة، حضر آمر السرية “الملازم أول يوسف خليل أحمد” إلى المبنى قادماً من دار سكناه بالسيارة العسكرية، بعد أن عاد “الملازم عبدالجبار جسّام” من صلواته، ومن الطبيعي أن يُصْعَقا بالخبر الفاجعة..
وبينما طلب آمر السرية منا جميعاً التوجّه كل لقاطع فصيله، ظلّ هو جالساً في “غرفة الضباط” حيث تتضاعف المُهاتفات في مثل هذه الساعات، مشدِّداً على ضرورة عدم إخبار أي شخص بهذا الأمر.
حضور آمر/قائد لواء الحرس الجمهوري
تثاقلت الساعات على نفوسنا، وخصوصاً بعد منتصف الليل، حيث خلَى المبنى من جميع موظفي الإذاعة والتلفزيون، ولم يَبقَ إلاّ عدد ضئيل من الخافرين الذين باتوا في الغرف متنعِّمين بنوم هادئ لا يدرون ما وقع وجرى، حتى حلّت الساعة الثانية والنصف، حين طلب “آمر السرية” حضورنا في مكتبه، لنجد آمر/قائد لواء الحرس الجمهوري “العقيد الركن بشير عبدالرزاق الطالب” جالساً.
ووقتما وقفنا أمامه بحالة الإستعداد، قال:-
– يا إخوان، أنتم على علم بالموقف الحَرِج الذي نحن عليه، فلغاية هذه الساعة لم يُعثَر على السيد رئيس الجمهورية، ولكنّا لم نيأس من رحمة الله تعالى، فالإحتمال الوحيد بسلامته هو أن الطائرة قد تعطّلت وإضطرّت إلى الهبوط في موقع بعيد عن
الطرق والنياسم السالكة، ولربما يتم إكتشاف موقعها صباح اليوم… مع العلم أن طائرة نقل تابعة لشركة نفط البصرة قد حلّقت في أجواء المنطقة بشكل عام دون أن تعثر على شيء، وأن طائرة نقل عسكرية “آنتونوف-12″ مجهزة بـ”بروجكترات” ضخمة قد إنتقلت من “بغداد” إلى “البصرة”، ولعلّها تفيدنا في العثور على شي ما.
وسكت آمر اللواء قليلاً قبل أن يبادر:-
– المهم الآن، أن تكونوا وجنودكم يقضين وحذرين من أية تحركات تشتبهون بها، ومستعدّين للردّ عليها.
وأخيراً إنتهى كل شيء مع الصباح
وبينما لم يُغمَض للضباط وضباط الصف جفن حتى الصباح، فإن العديد من الجنود طغى عليهم سلطان النوم متّكــئين على سياج المبنى، حتى أشرقت شمس (الخميس/14/نيسان/أبريل/1966) وقاربت الساعة من السادسة والنصف، حين طلبنا (آمر السرية) في مكتبه:-
– يا إخوان… مع مزيد الأسى والأسف فقد عُثِرَ على طائرة السيد رئيس الجمهورية مرتطمة بالأرض فتهشّمت أجزاؤها وتناثرت، ولم يَنْجُ أحد من ركابها.
كان الخبر مروّعاً… فتتحدثتُ مع نفسي:-
– هل يمكن أن يموت “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” -رئيس الجمهورية العراقية والقائد العام لقواتها المسلحة- بهذه البساطة؟
– وهل أن مصيره كمصير أي إنسان بسيط، وهو الشجاع المتهور الذي دخل “بغداد” وقضى على “مَـلَــكيّــة” كانت “بريطانيا العظمى” وعموم دول الغرب ومعظم دول الجوار تدعمها؟
– يا لمصائب القدر.. ويا للأجَل المحتوم الذي لا يستقدم ساعة ولا يستأخر..
– يا لقُدرة الله الذي لا يَبقى سوى وجهه ذي الجلال والإكرام..
– يا للموت الذي يدرك أياً كان ولو قبع في بروج مشيدة.. ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً ولا تدري نفس بأي أرض تموت.
الحكـومـة تبـث الخـبـر رسـمـيـاً
ساد الوجوم وجوه الجميع، وسَرى النبأ في أروقة المبنى وبين الجنود كالنار في الهشيم… فيما أحضر موظفو الإذاعة سراعاً، وبأمر من مديرهم العام، أشرطة القرآن الكريم، وباشروا ببثّ التلاوات بالساعة السابعة صباحاً بعد قطع برنامجها الإعتيادي، وواصلت ذلك حتى حلّت الثامنة صباحاً، لتُذيع النبأ المفاجئ على مسامع العراقيين والعالم، وفقاً لبيان رسمي مكتوب وردهم من ديوان رئاسة مجلس الوزراء:-
((تنعى الحكومة العراقية، مع مزيد من الحزن والأسى، للشعب العراقي وللأمة العربية وللشعوب الإسلامية عامة، السيد رئيس الجمهورية المشير الركن عبدالسلام محمد عارف… فقد سقطت به، وبمن معه من الوزراء والمرافقين، مساء أمس، الطائرة التي كانت تقلّه من “القرنة” إلى “البصرة” بفعل عاصفة قوية أدت الى تحطّمها وإستشهاد السيد الرئيس ووزيرَي الداخلية والصناعة، وبعض المُرافقين.
وفي الوقت الذي نعلن فيه هذا النبأ المُفجع والحادث الجَلَل، نتضرّع إلى العليّ القدير أن يُسكن الشهداء فسيح جناته، ويلهم الشعب الكريم الصبر والجَلَد على تحمّل هذه الصدمة المُؤلمة بالصبر والإيمان والثقة بالله، والعمل الدائب من أجل المُــثُـــل العليا التي لقي الرئيس الراحل ربّه راضياً مَرضياً من أجلها.
وتُعلن الحكومة إلى الشعب كافة، بأنها تُقَدِّرُ مسؤوليتها في هذه الفترة العصيبة، وقد أُنيطت مهام السيد رئيس الجمهورية بالسيد رئيس الوزراء، حسب أحكام المادة (56) من الدستور المؤقت، إلى حين إنتخاب رئيس جمهورية بمقتضى المادة (55) من الدستور، والتي تقضي بإنتخاب رئيس جديد خلال أسبوع واحد من تأريخ خلو المنصب، وذلك بأغلبية ثُلْثَي المجموع الكلّي لأعضاء مجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني)).
إجراءات قاعدة الشعيبة الجوية؟؟؟
بات القلق يتزايد ساعة بعد أخرى والأمل يتضاءل شيئاً فشيئاً حتى إنتصف الليل.. ولمّا لم يستطع أحد من العاملين في سيطرتَي “قاعدة الشعيبة الجوية” و”مطار البصرة المدني” وبُرجَي مراقبتهما تحقيق أي إتصال لاسلكي بالطائرة، فَقَدَ الجميع الأمل الذي عقدوه في إحتمال أنها ما زالت في الجو، أو هي قد هبطت سالمة في موقع ما… ولكنهم ظلّوا متعلّقين بأمل يتيم في أن تكون قد إضطرّت للهبوط سراعاً
فإرتطمت بالأرض بقوّة في بقعة ما، ولربما تسبّب الإرتطام في تعطيل أجهزتها اللاسلكية، والذي لربّما حال دون تحقيق الإتصال بأحد.
وعلى ذلك الأساس، وبعد منتصف الليل، إستدعى آمر القاعدة الجوية “المقدم الطيار الركن خالد حسين ناصر” طيّاري المقاتلات “ميك-21” النفاثة لديه، فأعدّ معهم في “غرفة العمليات” خطة طيران إستطلاع بَصَري ينبغي تنفيذها مع حلول فجر اليوم التالي، حيث لم تكن الطائرات تلك ذات قدرة على الطيران الليلي بإرتفاعات منخفضة للقيام بتلك المهمة، وتدارَسَ معهم التوقيت الأنسب للإقلاع في أبْكَر وقت ممكن، وكانت مواقيت “البصرة” تشير:-
أولاً- القمر في تربيعه الأخير، ويطلع في الساعة 00,30 ((الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل)).
ثانياً- يحلّ الفجر في الساعة 4,02((الرابعة ودقيقتان)).
ثالثاً- الضياء الأول في حوالي الساعة 04,45 ((الخامسة إلاّ ربعاً)).
رابعاً- تشرق الشمس في الساعة 05,32 ((الخامسة والنصف ودقيقتان)).
وتأسيساً على تلكم المعلومات، أستعد الطيارون للإقلاع بعد “الضياء الأول” مباشرة وقبل شروق الشمس بنصف ساعة، حيث تكون معالم الأرض واضحة بعض الشيء أمام أنظارهم… وكان قرار آمر القاعدة أن يتهيأ الجميع للإقلاع مع الساعة الخامسة فجراً.
وفي تلك الليلة أيضاً، أقلعت طائرة نقل عسكرية ضخمة من طراز “آنتونوف-12/أوكرايينا” من “قاعدة الرشيد الجوية” قرب “بغداد”، إلى “مطار الشُعَيْبة العسكري”.. ولما حامت في أجواء المنطقة الفاصلة بين “القُرنة” و”البصرة” مستخدمة أضواءها الكاشفة “البروجكترات” موجِّهةً أنوارها نحو الأرض من دون نتيجة، فتوجه قائدها “الرائد الطيار محمد إبراهيم أدهم” ليهبط في “الشعيبة”، وتهيأ للقيام بواجب الفجر أُسوةً بالطيارين الآخرين.
كانت الساعة الخامسة فجراً، عندما أدار طيارو (9) طائرات مقاتلة من طراز “ميك –21” محرّكاتها مُقلِعين بها تباعاً، وقد سبقهم في ذلك طائرة النقل الضخمة التي إمتطى في جوفها كل من “المقدم الركن فاضل مصطفى والسيد عبدالعزيز بركات” يصحبهما مصوّر تلفزيوني… كل ذلك جرى وفقاً لخطة طيران إستطلاع بصري بإرتفاعات منخفضة أُتُّفِقَ عليها منذ الليل، ونحو إتجاهات مختلفة تغطّي
جميع المنطقة المحتملة التي قد تكون طائرة رئيس الجمهورية قد تعرّضت لحادث، أو هبطت إضطرارياً فيها.
العثور على حطام الهليكوبتر
لم يَطُلْ التحليق كثيراً، ففي الساعة (الخامسة وعشرين دقيقة)، وبينما كانت الشمس على وشك الشروق، وبعد (10) ساعات من فقدان طائرة رئيس الجمهورية، كان قائد “طائرة النقل” ومن فيها هم أول من شاهدوا المأساة التي حلّت.
كانت الهليكوبتر قد تناثرت أجزاؤها حطاماً ممزّقاً في أرض قاحلة ومستوية تماماً… تتوسّطها، أو على مقربة منها، إحدى عشرة جثة هامدة ومحترقة… وكان الموقع الذي حدّده قائد الطائرة على بعد (25) كيلومتراً جنوب شرقي “القرنة”، وعلى مسافة (150) كيلومتراً من “البصرة”، وفي بقعة تقع ضمن الحدود الإدارية لناحية “السُوَيْب” شرقي نهر “شط العرب”، ما بين هَورَي “الحُوَيْزة والسُوَيْب”، وفي نقطة ليست ببعيدة عن قرية “النَشْوة”.
حاول “الرائد الطيار محمد إبراهيم أدهم”، بعد عدة دورانات ومناورات، الهبوط بطائرته على مقربة من الهليكوبتر، ولكنه قَدََّر أن تلك الأرض الرملية ربما لا تتحمّل ثقل طائرته الضخمة، أوانئذ عمّم إحداثيات موقع الحادث على الخريطة والنقاط التي يمكن لطياري الهليكوبترات أو السيارات الإستدلال بها وصولاً الى موقع الطائرة المنكوبة.
وحال تثبيت المعلومات تلك على الخريطة، قرّر آمر قاعدة الشعيبة “المقدم الطيار الركن خالد حسين ناصر” ركوب الهليكوبتر التي قادها “الملازم الطيار مذكور فلَيِّح الرُبَيْعي”، حتى هبطا في مكان الحادث.
وحالما شاهد “مذكور” ذلك المنظر المروّع أُصيبَ بحالة هلع صائحاً:-
“ماتوا، سيدي.. ماتوا يا سيدي”
ولما عايَنوا الساعات اليدوية للصَرعى وجدوها قد توقّفت جراء الصدمة، عند (الساعة السابعة وعشر دقائق)، أي بعد اقلاعهم من (القرنة) بـ(20) دقيقة فقط.
حال الجثث في موقع تحطم الهليكوبتر
كانت شمس (الخميس/14/نيسان/أبريل1966) قد أشرقت وبان كل ما على وجه الأرض القاحلة القريبة من قرية “النشوة” واضحاً، حين حطّت طائرة الهليكوبتر التي قادها “الملازم الطيار مذكور فلَيِّح” في حوالي الساعة السادسة في
مكان الحادث.. حيث شاهد “المقدم الركن خالد حسين ناصر” ومن كان بصحبته، وكذلك “الملازم شهاب أحمد الدليمي”-آمر فصيل الحماية الشخصية- الذي تنقّل إلى هناك بسيارة رئيس الجمهورية، حطام الطائرة متناثرة في بقعة قطرها حوالي (50) متر، وبينها معظم الأشلاء ممزّقةً ومحترقةً ضمن هيكل الطائرة الذي تحوّل قطعاً صغيرة.
كان الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” على بعد (3) أمتار من نقطة الإصطدام، مُنكفِئاً على وجهه، وقد تشابكت يداه تحت رأسه، مُلصِقاً وجهه بالأرض، فيما بات شعره محترقاً في بعضه، عاكفاً إحدى ساقَيه إلى اليسار وقد إحترق كعب قدمه، مرتدياً بذلته المدنية الصيفية ذات اللون الزَيتوني، بينما تمزّق قسم من سترته عند الظَهر… وكانت نُقَطٌ من الدم متخثّرة على فتحتَي أنفه.
وحالما شاهد “الملازم شهاب” رئيس الجمهورية بذلك الوضع المأساوي، خلع قمصلته العسكرية ليغطي بها الجثة الهامدة، قبل أن يسقط مغشياً عليه.
لم يكن جَيب سترة “عبدالسلام” يحتوي سوى مصحف صغير الحجم، ودفتر مذكرات شخصية، وبعض المفاتيح، وكانت أزرار قميصه الأبيض قد أُنتُزعت عن أماكنها.
كان “اللواء عبداللطيف الدراجي” أبعد الجميع عن مركز حطام الطائرة، إذْ قُدِّرَت المسافة عن هيكلها المحترق بـ(30) متراً، وبكامل ملابسه عدا سترته التي يبدو أنه خلعها على بعد (10) أمتار، وقد تحوّلت إلى شبه رماد.. فيما كان “مصطفى عبدالله” على مسافة (4) أمتار من الرئيس، وقد رقد “عبدالهادي حافظ” قريباً منه.
أما الشخوص السبعة الآخرون، فلم يستطع أحد التعرّف عليهم بشكل مطلق، سوى “محمد الحيّاني” الذي شُخِّصَ من قلم الحبر الذي كان يحمله… ولربما أُمكِن الإستدلال بعض الشيء على جثة “عبدالله مجيد”.
وقد عُثرَ أيضاً على خاتم زواج يحمل إسم السيدة “شَهبال” عقيلة السيد “مصطفى عبدالله”، وعلى السِدارة العسكرية للعميد “زاهد محمد صالح” وعلامة ياقته الحمراء ومسدّسه الشخصي.
إنقضت ساعات عديدة، إلتقط خلالها المصوّرون المصاحبون لهيأتَي التحقيق القضائية والعسكرية صوراً صامتة وأخرى سينمائية لموقع الكارثة والجثث وأجزاء الطائرة… فيما إنهمك المحقّقون برسم المخططات، مستنطقين الفنيّين والأطباء، حتى قاربت الساعة من الثانية بعد الظهر، لتحضر سيارات إسعاف عديدة محملة بـ(11) تابوتاً خشبياً، ليُجمع ما أمكن جمعه أمام أنظار رجال الدين الذين أشرفوا على (تكفين) الجثث وفق المراسيم الشرعية، وقبل أن تستقر فيها، وتُلَفّ بالأعلام العراقية.
أفراح البصـرة تتحول أحزانـاً
أما الأهالي في “مدينة البصرة” فلم يكونوا قد علموا أي شيء مما حدث في تلك
الليلة… ولذلك تحشدوا منذ الصباح الباكر ليوم الخميس (14/نيسان) وسط شوارعها المُزدانة بالأقواس واللافتات الحاملة لعبارات المديح، وإستعدّوا للترحيب برئيس الجمهورية الذي سيقوم -وفق المنهج المعلن- بجولة وسط مدينتهم الجميلة والعريقة، في حين إصطفّ أطفال المدارس محمّلين بأعلام العراق والزهور في ثاني زيارة يُجريها “عبدالسلام عارف” لمدينتهم بعد الجولة التي قام بها قبل عامَين.
وحالما أُذيع الخبر عند حلول الساعة الثامنة صباحاً حتى إنقلبت أفراحهم أحزاناً… ولما شاهدوا مفارز من الشرطة المحلية ووحدات الجيش وهي تنتشر بهدوء وسط المدينة، عادوا خائبين حَزانى الى مساكنهم ليقبعوا فيها ويتابعوا أجهزة المذياع وهي تبثّ تلاوات من القرآن الكريم، تتوسّطها بيانات عديدة تصدرها الحكومة بين ساعة وأخرى.
وفي “بغداد” توزّعت الصحف اليومية منذ الصباح الباكر -كالعادة- وقد نشرت في صدر صفحاتها الأولى أخبار زيارة “السيد الرئيس” إلى “البصرة” و”الزبير”، وصوراً لإستقبال الجماهير له هناك، ووضعه الحجر الأساس لمعمل الورق… أما الموظفون وطلاب الكليات والمدارس فقد تَعَكَّرَ صفوهم حالما إستمعوا لتلاوات من القرآن الكريم بحلول الساعة السابعة على غير العادة اليومية للإذاعة.
وفيما توجّه ألوف العمال والموظفين الى أعمالهم، فإن معظم الناس آثروا التريث في بيوتهم ريثما يطّلعون على حقيقة ما، لا سيّما وأن العراقيين عموماً قد تعوّدوا على المفاجآت والبيانات الرسمية للثورات والإنقلابات والمؤامرات والإنتفاضات خلال السنوات الثماني المنصرمات منذ (14تموز1958)… ولكن لا أحد منهم دار في مخيّـلته أن يستمع إلى خبر سقوط طائرة (عبدالسلام عارف)، والذي لَمْ يُذَعْ بيانه إلاّ في الساعة الثامنة من ذلك الصباح.
بيانـات الخميـس المتتـالـيات
بعد إذاعة بيان الحكومة العراقية الرسمي -الذي آنفنا ذكره- توالت البيانات الأخرى، والتي نصّت في مجملها على ما يأتي:-
أولاً- إعلان الحداد الرسمي إعتباراً من (الخميس/14/نيسان) ولمدة شهر واحد، وتنكيس الأعلام العراقية لـ(7) أيام متتالية.
ثانياً- تعطيل (الدوام الرسمي) في دوائر الدولة والكليات والمعاهد والمدارس في عموم العراق لهذا اليوم فقط.
ثالثاً- فرض (منع التجوال) إعتباراً من الساعة/12 من ظهر (الخميس) وحتى إشعار آخر، لتمكين أجهزة الدولة من إتخاذ إجراءاتها لحفظ الأمن في البلاد تحسّباً لأي طارئ.
رابعاً- سيتم تشييع جثمان الرئيس “عبدالسلام عارف” في الساعة الثالثة من بعد ظهر (السبت/16/نيسان/1966) الموافق ليوم (26/ذي الحجّة/5138هـ).
أُلتُقِطت هذه الصورة على أرض قرية “النَشوة” ظهيرة (الخميس/14/نيسان/أبريل/1966)
مع صورة فوتوغرافية للنقيب الطيار “خالد محمد نوري” قائد الطائرة المنكوبة وسط نثارها.
صورة فوتوغرافية ظهيرة (الخميس/14/نيسان/أبريل/1966) لأحد الإطارَين الأماميّين لطائرة الهليكوبتر، إلتقطتها (هيأة التحقيق العسكرية) وقد ظهرت عن بعد هليكوبتر من طراز (مي-4/MI-4) سوفييتية المنشأ أقّلت أعضاء الهيأة الى موقع الحادث.

أحدث المقالات

أحدث المقالات