23 ديسمبر، 2024 1:31 ص

كيف ستقلب الدولة العميقة ظهر المجنّ للوزير العبيدي ؟

كيف ستقلب الدولة العميقة ظهر المجنّ للوزير العبيدي ؟

في البدء لا بد لنا أن  نعرف الدولة العميقة قبل ان نسهب في الحديث عن دورها الحالي في العراق وتحديدا في قضية استجواب وزير الدفاع السيد العبيدي . فالدولة العميقة هي مجموعة قوى ومصالح وشبكات خارج المؤسسات المعلنة والمعروفة للدولة الوطنية الرسمية . تديرها مجموعة من التحالفات وشبكات المصالح المتشابكة والمترابطة  الممتدة داخل مؤسسات الدولة عمودياً وأفقياً بدون هيكلية مخطط لها، وهي تشمل  سياسيين ونواب ووزراء ورؤساء هيئات وبعض رجال الدين وموظفين كبار  ورجال أعمال ورجال أمن  وإعلاميين. وأغلب هؤلاء لا يعرف افرادها بعضهم بعضا لكنهم يعملون لهدف مشترك وهو الدفاع عن مصالحهم وامتيازاتهم  ومصالح قادتهم وامتيازاتهم لانها مرتبطة ارتباطا وثيقا بهم ، ويجري عمل هذه الدولة خارج اطار دولة القانون والسياقات الرسمية للدولة الوطنية وأعراف المجتمع ، بمعنى آخر هي دولة داخل الدولة او سلطة اعلى من سلطة الدولة. خلاصتها انها شبكة سرية تتكون من النخب العسكرية والمدنية والأمنية والقضائية، الذين يعملون على إجهاض كل ما يهدد مصالحهم وقياداتهم ، وهي تسيطر على الدولة الوطنية الحقيقية وغالباً ما تتحول الى ما يسمى ب” الدولة الموازية”  اذا لم يتم تفتيتها كما هو الحال في تركيا اليوم.في واقع العراق الحالي الدولة العميقة  هي دولة المالكي التي أسسها وعمل على تكوينها منذ عام 2006 بعيدا عن هيكلية الدولة الوطنية الرسمية . دولة المالكي هي الدولة الفاشلة التي ولدت من رحمها الدولة العميقة اذ وجدت بيئة ملائمة لظهورها  وبالتالي فهي تمهد لظهور الدولة الموازية . لقد تنامت دولة المالكي العميقة يوما بعد يوم  بدعم إيراني اولا وضوء اخضر أمريكي ثانيا وسكوت مُلفت للانتباه من قبل خصومه السياسيين وكتلهم الكبيرة طيلة ثمان سنوات ، فسيطرت على ما يقارب 80% من مؤسسات الدولة الحيوية كوزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني والمخابرات والقيادات الأمنية للعمليات في عموم العراق والهيئات المستقلة العليا المهمة كالمساءلة والعدالة والنزاهة والانتخابات والاتصالات والاعلام والنقابات كالصحفيين والمحامين  وغيرها ، كذلك فانها عملت على السيطرة على الإعلام بتملكها لقنوات فضائية او شراء ذمم اخرى باموال طائلة وشراء صحف وإنشاء مواقع الكترونية وتأسيس جيوش الكترونية لمناصرتها ومهاجمة اعدائها على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الجوانب التي لن نسهب في الحديث عنها في هذا الموضع لنتحدث عن  كيفية التخطيط لسيطرة عناصر وأدوات الدولة العميقة على قضية استجواب الوزير السيد العبيدي الذي فضح  عدد من أشخاص وعناصر تلك الدولة  فاستفزها واستنفر عناصرها ومناصريها  لوأد كشف فضائح الفساد المتورطة بها تلك العناصر اكثر من غيرهم. لو قدر للمالكي الحصول على الولاية الثالثة لاستكمل العشرين بالمئة  من اجل احكام الدولة العميقة سيطرتها على السلطات  الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية وأنهت دور الرئاسة تماما   ولسيطرتها على كافة مؤسسات الدولة كافة.
كانت أول الخطوات بعد امتصاص الصدمة الكبيرة لدى استجواب العبيدي وفضحه لشخوص الدولة العميقة هو تحريك اهم عناصرها وهو القضاء المسيس  متمثلا بمحكمة النزاهة التي أرسلت على السيد العبيدي لاستجوابه عن ما تحدث به في البرلمان وطلب الوثائق والادلة الثبوتية المتعلقة بكل ما أفصح عنه في الاستجواب . وفي نفس الوقت أعلنت المحكمة منع سفر عدد من الذين اعلن العبيدي عن تورطهم بالفساد  وأولهم رئيس مجلس النواب و نواب حاليين وسابقين ورجال اعمال ولكنه استثنى النائبتين حنان الفتلاوي وعالية نصيف لأنهن من  الشخصيات التي تعمل لصالح الدولة العميقة وعلاقتهن القريبة من مؤسس هذه الدولة المالكي ، مع ان  العبادي امر قبل ليلة منع سفر  كل من ورد اسمه على لسان العبيدي وجرى تداول وثيقة رسمية من وزارة الداخلية على الانترنت شملت عدة أشخاص بينهم الفتلاوي ونصيف . وهذا هو اول مؤشر من مؤشرات حرف التحقيق الذي دعا اليه رئيس الوزراء العبادي عن مساره الصحيح فخرجت الفتلاوي لتقول بانها غير مشمولة بمنع السفر.
لذا فان العبيدي صرح يوم امس بأنه لن يسلم ملفاته حول الفاسدين الى لجنة النزاهة لعدم الموثوقية بها وحسناً فعل ، بل سيقدمها للقضاء ، ولكن يبقى نفس التساؤل : أليس القضاء مسيس أكثر من اللجان البرلمانية والثلاثة عشر سنة الماضية تشهد بأنه أشبه بمثلث برمودا في ابتلاع القضايا وتسويفها. مثلاً ، أين ملف اللجنة التحقيقية في قضية سقوط الموصل ، وجريمة سبايكر وغيرهما ؟ فما الفائدة من تسليمها للقضاء إذن وهو جزء من الدولة المالكية العميقة ؟
وها هو شاهد من رجالات هذه الدولة النائب الحسن موزع سندات الاراضي مقابل اصوات الناخبين يصرح يوم امس ويبدو انه خرج عن طوع قبضة دولته العميقة بقوله أن “الاستجوابات التي حصلت كانت عبارة عن مسرحيات تبدأ وتنتهي دون اي جدوى لان غرضها بات معروفا”، معربا عن قناعته بان “اللجنة التحقيقية التي تشكلت بشأن أقوال وزير الدفاع ستنتهي دون الوصول الى اية نتيجة ، وان الجميع أبرياء ولا علاقة لهم بشيء ” . وربما هذا التصريح يكفي لنعرف ما وصل اليه الوضع في العراق من بؤس ولا عدالة وفوضى عارمة. على الرغم من ان مؤسس الدولة العميقة والذي لايزال يقودها من خلف الكواليس كان قد اعطى إشارة خفية للقضاء المسيس قبل عدة ايام مع ان تصريحه كان  علنيا في ان يأخذ القضاء دوره في التحقيق في قضية استجواب العبيدي ليسوفها وينهيها  كما يشتهي هو وزبانيته.
جهات كثيرة تعلم ان التحقيقات ستنحرف عن مسارها الصحيح ومنها عصائب أهل الحق التي اعلن الناطق باسمها قبل يومين بانهم يحذرون من تسويف التحقيق وإغلاقه دون نتيجة . كذلك ومن بين كثيرين يصرح النائب اللبان  انه ليس من المستبعد ان تحصل ضغوط سياسية قد تكون غير عادية لتغيير مسار التحقيق او التأثير عليه في قضية الاتهامات التي اطلقها وزير الدفاع ضد رئيس البرلمان وعدد من النواب والمسؤولين ورجال اعمال.
بالتأكيد سيحدث ذلك اذا ما نظرنا الى الوراء لنجد كيف انتهت وسوفت وميعت العديد من القضايا الموثقة بالوثائق والادلة والوقائع والاعترافات والتصريحات وأكثرها أهمية  تصريحات مشعان الجبوري قبل ستة أشهر عندما فضح جميع السياسيين قائلاً : جميع المسؤولين فاسدين ومرتشين أو  على الأقل جبناء لايستطيعون الحديث عن الفساد. ولكنه بحسب قوله تم تهديده بالقتل من قبل مافيات الفساد ليسكت عن فضح الفاسدين رغم اعترافه بأنه أحدهم . والاخطر من ذلك ما آل اليه مصير احمد الجلبي الذي تجاوز الخطوط الحمراء في كشف الفساد فقضى في ميتة تحوم حولها شبهات  الاغتيال لحد اليوم لوقفه عن كشف الفضائح السياسية والمالية وهو متهم بكونه احد ابرز الفاسدين باعترافه بنفسه .
لا عدالة ولا أمان ولا استقرار الا بتفتيت الدولة العميقة ومحاسبة شخوصها وعناصرها  من قضاء وهيئات ومؤسسات مختلفة مهمة ، ولكن من سيقوم بذلك ، المفترض هو رئيس الوزراء الحالي  القائد العام للقوات المسلحة الذي لديه كل السلطات وعلى الرغم من انه قام بعدة خطوات خجولة في هذا الاتجاه منذ توليه زمام القيادة منها إلغاء  مكتب القائد العام  وإحالة لضباط كبار في الدفاع والداخلية على التقاعد  وتغيير في رؤساء هيئات ودوائر محدودة  جاءت بتوجيهات وأوامر أمريكية ،  الا انه لايستطيع المضي ابعد من ذلك والسبب انه هو نفسه كان من المؤسسين ومن الرجالات  المخلصين للدولة المالكية العميقة .  
قضية العبيدي سوف تسوف وتميّع كسابقاتها ان لم يقلب ظهر المجن للعديدين  على الرغم من زهوه وتفاخره بالنصر بعد جلسة استجوابه ، وكما قال الشاعر :
                           بينما المرء رخيّ باله       قلب له الدّهر ظهر المجنّ