لا زلتُ أتأملُ سؤال معاوية هذا لضرار إبن ضمرة بعد أن سرد هذا الأخير ، اروع الصفات لأمير المؤمنين علي (ع) ، فأجابه واصفا لفجيعةٍ وحزنٍ وجزعٍ لا يوصف (حُزنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُها في حِجْرها) ، يقول التاريخ ، أن معاوية بكى حتى إبتلّت لحيتُه وقال (رحم الله أبا الحسن ، كان والله كذلك) ! ، يا لها من تزكية تاريخية لعليّ ! هو ليس بحاجة لها ، ورغم أن عليا يستحق كل رحمات الأرض والسماء ، بجنّها وإنسِها وملائكتِها ، لكن حتى رحمة معاوية هذه ، ستُحجَب ولن تصل لباب قصره ، فعليّ وربّ السماء لا يريدانها ! ، أكاد أقسم أن سؤاله هذا من بابا الشماتة ، وأن دموعه دموع تماسيح ! ، فمن كان السبب المباشر لإستشهاده ؟ ، مَن حارَبَ ذلك المقاتل الحصيف والزاهد والنبيل والحكيم المُتعب وتآمر عليه بلا هوادة ؟ ، من نازعه على شرعية ألهية وشقّ عصا الطاعة وفرّق الأمة ، شرعية هي ليست مُلكا بعُرف علي ، بقدر ما هي تكليفٌ طالما تبرم منه ! ، علي نور السماء ، ضاقت به الأرض ، فحاصرته وحاربته من كل جانب ، كيف لا وقد أحس بعهرها ، فطلّقها فحاشاه أن يقترن بها ، فنراه مُحبطا متبرما بل متمنيا الموت ، وهو ينكأ الأرض بإصبعه ، وقد غاب عنه خلّص أصحابه قتلا وتشريدا لأضعافه وكسر شوكته وهو يقول :
ألا أيّها الموتُ الذي ليس بتاركي ….. أرحني فقد أفنيتَ كلّ خليلِ
أراكَ خبيرا بالذين أحبّهم …………… كأنك تسعى نحوَهم بدليلِ
قال الشاعر السوري محمد المجذوب مخاطبا معاوية :
أبا يزيد ….
قُم وأرمق النّجفَ الشريفَ بنظرةٍ …… يرتدّ طَرفُكَ وهو باكٍ أرمَدُ
تِلكَ العِظام أعزّ ربُكَ قدرَها ………… تكادُ لولا مَخافةِ اللهِ تُعبَدُ
فأي منطق هذا الذي يزخر به تاريخنا ، وهو يترحّم ويترضّى على الجلاد مغتصب الحق ، والضحية مسلوبة الحق على حدّ سواء ؟! ، وأي حق ؟ إنه حق أمة !، إنتقدَ أحد المفكّرين هذه الإزدواجية الخطيرة ، فبينما كان هذا المفكّر يزور قبر الصحابي حِجر بن عَدي (رض) ، وجد عنده زائرا يبكيه بمرارة ، فسأله (ماالذي يبكيك)؟ ، فأجابه الزائر (أبكي سيدنا ومولانا الصحابي الجليل حِجر بن عدي) ، فقال له المفكّر (ولماذا) ؟ ، أجاب (قتله سيدنا ومولانا أمير المؤمنين معاوية) ، فقال له المفكّر (والله أنت أحقّ بالبكاء منهما) !.
لطالما تجنى تاريخنا على صحابة أجلّاء كبار لا لذنب سوى أنهم من أصحاب علي ، إنه جزء من الحرب الإعلامية القائمة لحد هذه الساعة لمحو أسفار هذا الرجل ، فلم تُفلح ، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله ( ماذا أقول في رجل ، أخفى أعداؤه فضائله حسدا ، وأخفى أولياءه فضائله خوفا ، وما بين هذا وذاك ، ظهر ما يملأ الخافقَين ) ، ففي كتاب التاريخ الإسلامي في الخامس الإبتدائي ، طالعنا حديثا منسوب للنبي (ص) بحق أبا ذر (رض) يقول : قال رسول الله (ص) لأبي ذر وقد عيّرَ أحدهم بإمّه (إنك أمرؤ فيك جاهلية) ! ، لكنهم غيّبوا مديح النبي المستفيض لهذا الرجل العظيم ، خرّيج المدرسة العَلَوية بإمتياز بنصوص متواترة منها : (ما أقلّت الغبراء ، ولا أظلّت الخضراء ، على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر) و (يا أبا ذر ، تعيش وحيدا ، وتموت وحيدا ، وتُحشر وحيدا يوم القيامة ) ، و(أمرني ربّي أن أحبّ أربعا ، عليّا ، والمقداد ، وأبا ذر ، وسلمان) !، ورغم يقيني أن حديث الجاهلية هذا موضوع لغرض سياسي ، فكيف لا يعيّرهم أبو ذر ، بأمهات من طراز آكلات الكبود ، وصاحبات الرايات الحُمر ؟! ، ثم يُنفى أبو ذر ، ويُنكّل بإبن مسعود ، ويُجلد عمّار ، ويُقتل حِجر بن عدي ورُشيَد الهُجَري وميثم التمّار ، ويُسمّم مالك الأشتر وغيرهم ، ممن نالتهم سادية السلطة بشكل قل نظيرها ، فلم ينجُ منهم أحد إلا وأصابه الأذى أو فقد حياته ، ثم شُنّت على ذراريه حروب الإبادة !.
كثير من الناس ، يولد ويموت دون أن يترك أثرا على ساحة الحياة ، والقليل مَن ترك آثارا عليها ، لكن لا تلبث أن تُمحى ، عمر الإنسان قصير ، لا يبقى منه إلا سطرٌ ، تاريخ الميلاد والوفاة يوضع على شاهد القبر ، ثم لا يلبث أن يدرس حتى هذا الشاهد ، لكن عليّ لم يمت ، فقد تجاوز عتبة 1400 عام ، له تاريخ ميلاد مفتوح حُفِرَ على جدار الكعبة ، دون أن يُختم بتاريخ الوفاة ! ، فعليّ ظاهرة فريدة من بين كل حكام الأرض قديما وحديثا ، وفكر وفلسفة وثورة متجددة وحيّة ومتحركة دوما ، وهذه المسميات لن تموت ، لأنها حاجة ملحّة للبشر ، وبالذات الأحرار منهم ، فعليّ قبلتهم في كل زمان ومكان لا يُنازعه فيها أحد .
وضع عليّ مقومات وأسس الدولة الناجحة ذات حداثة عجيبة لا تنتهي ، وطالما جاهر بذلك كلما سنحت له الفرصة ، فقد كان كل همه بناء أخلاق إنسان الجزيرة ، قبل التوسّع يمينا وشمالا ، إنه سرّ لم نصل لإدراكه لحد الآن ، فكيف قبل 1400 عام ؟! ، نعم أوصلتنا الفتوحات لتخوم أوربا ، بما يشبه الإستعمار والإحتلال الذي لم نحس به ونمقته إلا بعد أن إستُعمِرنا ، فطُرِدْنا منها شرّ طرد ، أزاحونا فأعادونا عِبْر البحر كما تُكنس الأزبال ! ، لأن أسس بناء الدولة لم تكن رصينة وراسخة ، صاحب ذلك حمامات دم وهزائم مروّعة لا نفخر بتاريخها !.
كلما تذكّرنا عليا ، جال في خاطرنا ذو الفقار ، لأننا أمة تؤمن بالقوة ، نحترمها ونخافها بنفس الوقت ، لكن لعليّ سيوف أخرى أمضى من ذي الفقار ، سيوف فكرية وفلسفية عالية وروحية وثيقة ، عجيب أمر هذا الرجل الفريد ، أنه عجيب في كلّ شيء ، فقد جمع صفاتا متضادّة ، حوّل هذا الرجل تناقض الثنائيات إلى مكملات لبعضها ، نراها وقد إئتلفت في حكمه وتصرفاته وأفعاله ، بلا تصارع أومناحرة ، قال الشاعر :
جُمِعتْ في صفاتك الأضدادُ ……. فلهذا عزّت لك الأندادُ
زاهدٌ حاكمٌ حليمٌ شجاعٌ …………..ناسكٌ فاتكٌ فقيرٌ جوّادُ
قال إبن حنبل (كلّ من جَلَسَ على كُرسيّ الخلافة ، زانته الخلافة ، إلّا علي ، فقد زانَ الخلافة) ، رجل سيبقى مثار جدل حتى قيام الساعة ، فهو الوحيد الذي كُفّرَ وعُبِد ! ، وما بين هؤلاء وأولئك ، غاص سيف الغدر المسموم عميقا في غرّته ، فحرمونا حرمهم الله .
ما ترك عليّ درنة في سلوكنا وعبادتنا وحياتنا وحركاتنا وسكناتنا ، إلّا وشذبها ، عشقه المسيحيون والعلمانيون والأمميون والمتدينون ، أحبّه كل من وُلِعَ بالحرّية ، ورغم النوائب والصبر المر الذي لا يحتمله إنسان ، لم يثنيه عن زرع التفاؤل في كل الزوايا ، حتى في أدب الدعاء ، فإقرأ (دعاء كُميل) بمنطق عليّ الفذ ، كيف يناجي العبدُ ربّه ، وكأنه يناجي حبيبا ، أو معشوقا ، أو صديقا .
مولاي أبا الحسن ، يا فخرا عالميا وأبديا لسنا أهلا له ! ، يا رمزا ناصعا في عيون كل الأحرار ، أنظر ماذا فعل بنا من أدّعى الوصلَ بك ، وتاجر بإسمك ، وتسلّق أكتافنا بإسم مظلوميتك ، فلو بُعثتَ اليوم لَحارَبْتَهم ، وإن لم تفعل ، حاربوك ! ، فأنت مَن قال (الدنيا إذا أقبلتْ على المرء ، أعارته محاسن غيره ، وإن أدبَرتْ ، سَلَبتهُ محاسنَ نفسه) ، فكلّنا ضُرار في حزنه ، فسلام الله عليك يوم ولِدت ، ويوم أستُشهِدت ، ويوم تُبغثُ حيّا .