حدث قبل عامين أن انقضى شهر بالتمام والكمال وأنا بانتظار ثلاث مقالات لثلاثة كتاب عراقيين اضافة الى افتتاحية العدد بغية إكمال العدد الجديد من مجلة ثقافية ورقية كلفت بإصدارها من الغلاف الى الغلاف ولكن من دون جدوى إذ لم يصلن مقال واحد من المقالات المطلوبة قط، ليتذرع أحد الكتاب بمشاغل الحياة المضنية وبهمومها اليومية مسترسلا بالحديث عن ارتفاع بدل الايجارات،وتضاؤل مفردات الحصة التموينية وانخفاض جودتها ،ومشاكل التدريس الخصوصي،ومزاجيات”أبو المولدة”،ومتاعب الأبناء، فيما علق الثاني أسباب تلكؤه على شماعة نضوب موهبة الكتابة لديه وتراجعها بالتدريج ولاسيما بعد وباء كورونا ولا أدري حقيقة ما علاقة “الكريم كراميل بالبابا غنوج”،بينما زعم الثالث بأنه موهوب فعلا إلا أنه قد عاهد نفسه وزوجته على أن لا يكتب مقالا “بلوشي”ولو لنصرة القضايا المصيرية والرسالية والوطنية الملحة إلا أنه ومع ذلك لم يكتب لاحقا أي مقال حتى عندما خصص له المبلغ المطلوب الذي طلبه نظير الاستكتاب،أما عن إفتتاحية العدد وكانت من نصيب رئيس التحرير فقد قدم لنا الموما إليه اعتذاره عن اكمال كتابتها بعد أن وصل الى السطر الخامس منها قبل أن تتشتت أفكاره بسبب بعض الأقارب والأصدقاء “ولا أعلم يقينا هل كان الأخ خياطا مع حفظ الالقاب قبل أن يمتهن الصحافة ليقيس أسطر المقالات والافتتاحيات بشريط القياس المتري؟!” لتذهب كل الوعود التي قطعها على نفسه أدراج الرياح حيث لم يقدم الافتتاحية “من طق طق الى سلام عليكم”الى هيئة تحرير المجلة كما تعهد وقبل أن يحين موعد إصدار العدد الجديد ،فما كان مني وبعد أن سئمت من طول الانتظار إلا أن كتبت المقالات الثلاث علاوة على الإفتتاحية مضافا لها تحرير الأخبار وإعداد وترتيب مواضيع الأبواب المنوعة والثابتة ،واضعا نصب عيني ما قيل قديما” أتعب أقدامك ولا تتعب لسانك”،ليصدر العدد أخيرا ولكن بعد مرور 15 يوما على موعد الإصدار وكان غلاف المجلة الداخلي يضج بقائمة”طويلة وعريضة”من أسماء المصححين والمحررين والمنفذين والمصممين والمصورين والموزعين زيادة على أسماء الكتاب والمفكرين ممن لم أر واحدا منهم على الاطلاق طيلة فترة اعداد المجلة وصولا الى المطبعة التي أنيطت بها مهمة طباعة العدد بمنطقة البتاويين!
وانطلاقا من الحكمة الشهيرة التي تقول”للنصر 1000أب،أما الهزيمة فيتيمة” لا أم ولا أب لها ، وكما كان متوقعا وإذا بالكتاب الثلاثة علاوة على رئيس التحرير والمقوم اللغوي وبعد صدور العدد بحلة قشيبة تستهوي القراء وخلال لقاء مجاملات مهنية – تيك أواي – جمعنا على طاولة مستديرة تتوسط أحد مقاهي الباب الشرقي -التعبانة- حيث أسراب الذباب ،ودخان السجائر ،وغمامات المعسل تستلزم لبس أقنعة الغازات السامة فقد أعرب الحضور عن فرحتهم الغامرة وعن احتفائهم الكبير بصدور العدد الجديد، ليطلقوا العنان لألسنتهم وهم يستعرضون فنون الكتابة الرصينة، وأساليب التحرير الصحفي الجاد،مع التشديد على أهمية تسليم المواد المطلوبة بمواعيدها المقررة، مستذكرين جرائد ومجلات عربية وعراقية مرموقة سبق لهم وأن عملوا وكتبوا فيها”مع أن المية تكذب الغطاس”،ليشط أحدهم بعيدا وبعد أن حمي وطيس الذكريات ، وتعالى غبار – الهمبلات – وبعد أن أتى على علبة سجائر المقوم اللغوي عن بكرة أبيها وهو لايفتأ يردد عبارة”نسيت باكيت الـ مارلبورو مع القداحة الذهبية بالبيت !!”، مستذكرا الحوار الصحفي الذي كان قد أجراه يوما في بيروت مع رئيس منظمة التحريرالفلسطينية ،لينطلق الآخر وبعد أن شرب”استكان الشاي العاشر” متحدثا عن التحقيق الصحفي الجريء الذي كان قد أجراه ذات يوم عن السينما والدراما والمسرح السوري وكيف حظي بمزيد من الاهتمام والتكريم ،لتتابع بقية الشلة سجل البطولات الحافل ومن دون أية أدلة ثبوتية على صحة ما يهرفون بما لايعرفون ، لنقضي الجلسة الاستعراضية برمتها في خضم مغامرات إعلامية لم تخل من بعض التشويق العاطفي والمغامرات النسائية لنتنقل كقرود الغابات بين أغصان المقالات والحوارات والاعمدة والتحقيقات الصحفية الغابرة ولأجد نفسي مضطر وصاغرا في ختام العرض المسرحي وبعد أن تسلل الصحفيون المعتقون والكتاب المخضرمون”وفقا لمزاعمهم وادعاءاتهم”،هذا الى الحمام، وذاك الى خارج المقهى متظاهرا باجراء مكالمة هاتفية مهمة تقتضي الهدوء بعيدا عن صخب الدومينو وضجيج الطاولي، لأدفع ثمن المشروبات الباردة والساخنة كاملا وفقا لما يقتضيه عرف المقاهي- الطايح حظه- والذي يحتم على أول الواصلين الى المقهى الشعبي دفع الحساب، وقد كنت ولسوء الحظ من طليعة الجالسين على مقاعد الطاولة الخشبية القديمة الهزازة لأترنم وبعد اكمال العدد الجديد من المجلة، اضافة الى دفع حساب هيئة تحرير المجلة بأبيات لـ وريث الصعاليك، وأعني به الشاعر المصري عبد الحميد الديب،أو للشاعر السوداني إدريس جماع،على خلاف بنسبتها الى أحدهما دونا عن الآخر يقول فيها :
إن حظِّى كدقيقٍ ..فوق شوكٍ نثروه
ثم قالوا لِحُفاةٍ …يومَ ريحٍ إجمعوه
الحقيقة أن ما سقته الى حضراتكم آنفا إنما يمثل واضافة الى الإخبار عن حدث – زمكاني – قد لا يهم أكثركم،أنموذجا مبسطا للكتابة الساخرة وهذا النوع من الكتابة تحديدا وقد خضت غمارها طويلا ، كالسيف ذو حدين، ففي حال لم يعالج المقال الساخر قضايا مهمة وحساسة تصب في خدمة الصالح العام ضمن سياق النص، فإنه سيتحول الى تهريج وإنحطاط وإسفاف أشبه ما يكون بالمحتوى الرقمي أو الفيلم السينمائي أو العمل الدرامي أو العرض المسرحي التجاري الهابط، إذ لابد للمقال الساخر من أن يدور وجودا وعدما حول”مضمون جاد كليا”مسلطا الضوء على نازلة سياسية،على آفة مجتمعية،على ظاهرة غير حضارية،على وباء فكري،على جائحة ايديولوجية،على مرض أخلاقي،على فوضى اقتصادية،على معاناة إنسانية ، على قصور خدمي، على تراجع صحي،على انهيار علمي ..الخ ، واضعا السبابة والإبهام على مكامن الخلل فيها،ومواطن الضعف التي تعتريها لوصف الدواء الناجع الكفيل بعلاجها وكبح جماحها مستقبلا فضلا على الوقاية منها ابتداء وتلافيها !
وأضيف ومن باب النصح للاجيال الشابة الصاعدة التي تروم إقحام نفسها في فنون صاحبة الجلالة والسلطة الرابعة و”عالم الست مجلة والست صحيفة” وأقول لابد للكاتب أسوة بالصحفي من أن تكون له ثلاث روزنامات تحت الطلب،الأولى للمناسبات الوطنية والثقافية والدينية،والثانية لحدث في مثل هذا اليوم،والثالثة للأيام الدولية نحو يوم اليتيم العالمي،يوم مرضى السرطان،يوم الأم،يوم الكفيف،يوم الصم والبكم، التوحد،متلازمة داون،أصحاب القدرات والاحتياجات الخاصة،وما شاكل ليلاحقها أولا بأول وليكون له قصب السبق والقدح المعلى للكتابة فيها وبإستمرار ، كيف لا وهو بصدد كتابة مقال إنساني نبيل هدفه نشر الفضيلة وكبح جماح الرذيلة لتغيير الأحوال وإصلاح الحال ما كان الى ذلك سبيلا تاركا كل الأفكار تتزاحم على سجيتها في رأسه ماقبل الشروع بالكتابة أسوة بالانفعالات لتفور كمداد يغلي في قلب دواته قبل أن يشرب قلمه المشرع ظلمتها ليلفظ نورا من كلمات يصوغها سطورا على صدر الصفحات ، ذاك أن موهبة الكتابة نعمة يتحتم على من حباه الله تعالى بها أن يضعها في سياقها الصحيح وأن لايستجدي بها ظالما،ولا يتطاول بها على مظلوم، ولا يتملق بها فاسدا،ولايحابي بها غشوما، وإلا فستتحول الى نقمة ،ولابد للكاتب هاويا كان أو محترفا،من أن يُحَدِث أسلوبه بإستمرار خشية أن يمله القراء،ولكي لا يكون في مرمى المتنمرين وأصحاب الاغراض اللئيمة ولكي لايكون هدفا للتهكم والتفكه والتندر فضلا على سهام النقد والانتقاد التي لا ترحم،ويتحتم على الكاتب أن يصقل مهاراته على الدوام، وأن يطور من قدراته وينمي موهبته،وعليه أن ينوع ثقافته،و يوسع من دائرة معارفه وأن يكثر من أزهار مداركه، وأن لا يركن الى الدعة والاستكانة البتة ليأكل من جرفه مكررا ذاته مستهلكا نفسه وهو يتوكأ على نسبة القراءات والمتابعات أو على أعداد المعجبين والمعجبات،ذاك أن التكرار كالاطالة مُخِلٌ يورثُ السآمةِ والملل، ولاسيما مع وجود الكتاب المواكبين لركب التقنيات الحديثة ونظرائهم من الكتاب المُتَجَددين والمُجَددين ممن يتكاثرون بالانشطار وبمتواليات هندسية أكثر من كونها عددية في محيطهم، وكل ذلك إنما يتحقق بمزيد من القراءات وبكثرة المطالعات وعلى الكاتب أن يولد من جديد ويحلق كطائر فينيق من تحت الرماد الى أفق أرحب مع كل مقال يخطه بيمينه فالقلم الصادح بالحق أرومة طيبة، والكلمات الصادقة نطف نقية، والصحائف البيضاء رحم طاهرة ، ولا بد لهؤلاء من أن يتظافروا لينجبوا للقراء مقالات تعصف بالأذهان، وتحرك الوجدان، في عصر التصحر الثقافي والجدب المعرفي والجفاف الوجداني وفي حقب الكسل والجمود من جهة، والانفتاج والذوبان والتغريب وعقد الخواجة من جهة أخرى . ولعل كل ما سطرته وصدعت رؤوسكم به يعد بمثابة ومضة أسوقها لكل من أراد أن يصير كاتبا متجددا يولد مع كل مقال من جديد أسلوبا ومضمونا،مع الحفاظ على ثوابته ورؤيته ورسالته وهويته، ولابد له قبل التبدد والتبلد من التجدد ولا أقول التودد بألق أدبي باهر يقدمه على طبق من ذهب لجمهور قديم – جديد ومن هنا تكون البداية الحقيقية، وجل ما سبقها وإن كان غزيرا بعض الشيء مجرد همسات،ومضات، انشاء، خواطر، بوح لما يعتمل في صدره وبصوت مسموع لا أكثر، وأنوه الى أنني قد أتفق وقد أختلف مع بعض النقاد في الاجابة على سؤال متكرر، وأحيانا حائر خلاصته “كيف تصير كاتبا ؟!” وعلى وفق تصوري القاصر وبناء على تجربتي الشخصية المتواضعة أرى والله أعلم بأن لكل كاتب ، عدة بدايات ، وعدة نهايات، أولاها تنمو كطفل وتصقل وتتطور بمرور الوقت ويشتد عودها بكثرة القراءة والكتابة والتجارب الحياتية والتطورات المجتمعية اضافة الى الدربة والمران المتواصل ثم لاتلبث أن تخفت جذوتها ويتراجع بريقها لتموت سريريا ولأسباب شتى بخلاف ما تقدم ، إلا أن هناك بداية أخرى متجددة تولد من رحم كل حقبة زمنية وانعطافة تأريخية وخطب جلل اضافة الى ولادات يفرضها الواقع وسعة الأفق وزيادة الوعي الثقافي والادراك المعرفي المتنامي بمرور الأيام مع التقدم في السن ، أو نتيجة القدح والمدح ، وربما الهجاء والثناء، كما ألفت الى دور الحِكَم والأشعار والأمثال الشعبية والفصحى في تجميل المقال وبيان واقع الحال !
ولكي تحقق حلمك بأن تكون كاتبا يشار اليه بالبنان وصاحب رسالة مسموعة ومقروءة بين جمهور عريض من أولئك الباحثين عن الحقيقة والمدافعين عنها ،عليك أن لاتكثر من المفردات العامية باللهجات الدارجة، وأن لاتقحمها في النص إلا للضرورة القصوى واضعا إياها بين قوسين للفائدة ، وعليك أن لاتكثر من المفردات والمصطلحات الأجنبية ، لأنها تشبه سابقتها، فالأولى تخريب ، والثانية تغريب،وعليك أن تتوسط بينهما على الدوام لأن الوسط فضيلة بين رذيلتين على الدوام ، وعليك ان لا تتقعر مكثرا من إستعمال بعض المفردات العربية المهملة والصعبة وغير المفهومة ، كما يتوجب عليك الاهتمام بالمترادفات وانزالها في محلها ،وعليك أن تنهض بذائقة القراء وتسمو بأفكارهم ومفاهيمهم عاليا، ولاغرو أن هذا السمو المشفوع بالرقي بحاجة الى تأثير آسر يشع من بين حروف الكلمات ليسلط الأضواء الكاشفة على الزوايا المعتمة بشكل جلي حتى لايضطر القارئ الى ترك مقالك عند المنتصف ومغادرته الى مقال آخر قبل أن يمتع عقله وناظريه ببقية السطور الى نهايتها ، ولضمان وصول الرسالة المراد ايصالها الى المتلقي على الوجه الأمثل أنصح الاهتمام بتلاوة القرآن الكريم وكثرة سماعه والانصات اليه، وأن يولي كتب النحو والصرف والاملاء والأدب والبلاغة إهتماما كبيرا، وأن يحفظ عن ظهر قلب ما أمكنه من الأمثال والحكم وأقوال المشاهير وأن يكون قارئا جيدا لموسوعات التراث والفلسفة والتأريخ والسياسة بهدف استدعاء ما تعلمه الى الذهن لحظة الحاجة اليه لتنساب لا اراديا من لا وعيه اثناء الكتابة فتحدث تأثيرا مناسبا للمتلقي تجعله عاشقا لما تكتب .
وختاما أقول حاول ان تستفز الأنا والهو عند كتابة المقالات الصاخبة ، الماتعة ، الشائقة ،الصائبة وكل ما من شأنه أن يكون بمثابة حجر كبير تلقيه في البركة الراكدة ليحركها وليهز جذع العقل الناشط والخامل اضافة الى نظيريهما ، الضمير الحاضر والغائب في عصر الكوارث والمصائب “هكذا تبدأ وهكذا تمضي في مسيرتك وهكذا تختمها ! اودعناكم اغاتي