18 ديسمبر، 2024 5:02 م

كيف تم التطبيع مع اليمين المتطرف في فرنسا؟

كيف تم التطبيع مع اليمين المتطرف في فرنسا؟

ماذا حصل حتى يصبح وصول اليمين المتطرف إلى نهائي الانتخابات الرئاسية أمرا عاديا لا يستدعي الكثير من القلق بين الفرنسيين عموما ووسائل الإعلام على وجه أخص؟

كان تأهل مرشح الجبهة الوطنية إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة 2002 بمثابة الصدمة العظمى التي زعزعت المجتمع الفرنسي بأسره، إذ لم يكن أحد يتكهن بذلك الوصول المدوي للحزب اليميني المتطرف إلى هذا المستوى من السلم الانتخابي في ديمقراطية من أعرق الديمقراطيات في العالم.

أصيب السياسيون والمـلاحظون والمجتمع المدني برمته بالذهول وراحت الصحف والمجلات تصف إقصاء الحزب الاشتراكي من طرف حزب اليمين المتطرف وكأنه نهاية العالم. وهو ما عكسته بالبند العريض عناوين صفحات الجرائد والمجلات الصادرة غداة انتخابات أول أبريل 2002: جريدة فرانس سوار “القنبلة لوبان”، الباريزيان “الصدمة”، مجلة نوفال أوبسرفاتور “دروس الكارثة”، لوبوان “حالة الصدمة، من المسؤول؟”، ماريان “الكارثة، من المخطئ؟”، ليكسبريس “من أجل فرنسا، من أجل الجمهورية، من أجل الديمقراطية، صوتوا لصالح شيراك”، باري ماتش “الجمهورية الجريحة”، لومـوند “الجمهـورية بين أيديكم”، ليبراسيون “لا”، ليزيكو “الزلزال”.

وعاشت فرنسا الجمهورية ما بين الدور الأول والثاني حالة من الغليان والمظاهرات والغضب والسخط والقلق، وكذلك فترة أخوة وتضامن وتسامح ردا على فرنسا العنصرية المغامرة متمثلة في الجبهة الوطنية. وقد خرج أكثر من مليون فرنسي يوم أول مايو 2002 في مظاهرات صاخبة في المدن والقرى معبرين عن رفضهم للجبهة الوطنية ومرشحها جان ماري لوبان، وحتى جاك شيراك نفسه المرشّح الثاني آنذاك رفض المناظرة التقليدية التي تجرى بين المتنافسين بين الدورين على شاشة التلفزيون.

تمر 15 سنة وتتأهل مارين بنت لوبان للدور الثاني من الانتخابات الفرنسية وعلى النقيض مما حدث في انتخابات 2002 فلا مفاجأة ولا صدمة على الإطلاق، بل ربما كانت المفاجأة في عدم احتلالها للمرتبة الأولى وضعف نسبة الأصوات التي حصدت والتي لم تتعد 22 بالمئة.

أما عناوين الصفحات الأولى للصحافة الفرنسية الصادرة غداة إعلان نتائج الدور الأول يوم الاثنين 24 أبريل الماضي فقد ركزت على إيمانويل ماكرون أساسا وعن فوزه المرتقب على مـارين لوبان في الدور الثاني، دون إبداء أدنى قلق من حضور اليمين المتطرف في هذا المستوى. فنقرأ على صفحة الباريزيان الأولى “ماكرون الإحساس العظيم”، وليبراسيون “ماكرون على عتبة الرئاسة”، وليزيكو “ماكرون على الجبهة ضد لوبان”، ولاكروا “ماكرون لوبان، المعطى الجديد”.

فماذا حصل حتى يصبح وصول اليمين المتطرف إلى نهائي الانتخابات الرئاسية أمرا عاديا لا يستدعي الكثير من القلق بين الفرنسيين عموما ووسائل الإعلام على وجه أخص؟

في رده عما إذا كان من اللائق أن يناظر مارين لوبان على التلفزيون كما جرت العادة بين الدورين، أجاب إمانويل ماكرون بالحرف الواحد على القناة الفرنسية الثانية “لقد أصبحت الجبهة الوطنية حزبا عاديا كالأحزاب الأخرى”. فكيف تم التطبيع مع الحزب اليميني المتطرف؟

كان التطبيع مستحيلا في عهد الأب لوبان نظرا لتاريخه الثقيل، ولم يكن سهلا مع البنت مارين أيضا رغم محاولتها التبرؤ من مواقف أبيها المعادية للسامية وتصريحاته الصادمة عن الأجانب والمختلفـين عموما، ومع ذلك فقد نجحت حملة التنظيف التي بدأتها فور توليها الزعامة سنة 2011 في تطهير الحزب ولو نسبيا من الحرس العنصري القديم الذي كان يشوه وجهه وتكاد عملية التلميع تبلغ أهدافهـا وذلـك لأسباب كثيرة أهمها إبعـادها لأبيها عن الحزب وشؤونه بطريقة صارمة، وإحداث شبه قطيعة مع تاريخ الحزب ورجـاله وأفكـاره المنفّـرة. وذهبت حتى إلى تهديد قضائيا كل مـن ينعت الحزب بصفـة التطرف اليميني أو العنصرية.

وشيئا فشيئا تغيرت صورة الحزب لدى نسبة معتبرة من الفرنسيين، ولم يعد في نظرهم ذلك الحزب/ الملجأ الذي يشكل مرتعا للغاضبين والمتطرفين والعنصريين وعلى الخصوص تلك القوى المظلمة العنيفة التي كانت تنشط بقوة في سبعينات القرن الماضي والمشكّلة أساسا من أنصار “الجزائر الفرنسية”.

استغلت مارين لوبان ظروف الأزمة الاقتصادية الخانقة وراحت تقدم حزبها للملايين من البطالين والخائفين عن فقدان عملهم على أنه حزب في خدمة قضية عليا هي حماية فرنسا وإنقاذها من أخطار العولمة ومن سجن الاتحاد الأوروبي والغزو الإسلامي وهجوم المهاجرين. ومنذ 2011 ونتائج الحزب الانتخابية في تطور مستمر وكانت الذروة حصوله على ثقة 7 ملايين ناخب وهو ما يمثل 22 بالمئة من مجموع الناخبين في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لسنة 2017، وربما سيحسن النتيجة في الدور الثاني.

وفي النهاية يمكن القول إن حزب الجبهة الوطنية هو الذي فرض وجوده، ثم وجوده شبه الطبيعي من خلال الإصلاحات الداخلية والنتائج الانتخابية الباهرة.

ولكن هل تغيرت الجبهة الوطنية فعلا، أم غيّرت الصورة التي تريد إيصالها إلى الناخبين؟ ذلـك هو السؤال، والجواب سيكـون حينما تخرج الأزمـة الحادة والصراع الخفي بين التيارات والشخصيات المتعددة داخل الحزب إلى العلن بعد الانتخابات الرئاسية رأسا.
نقلا عن العرب