-1-
قلَّ أنْ تلتقي بانسان لايُطنب في تعداد صفاته، وتبيان ملكاته، والتحدث عن قدراتهِ …
ولا ندري هل انَّ ذلك كلّه ناتجٌ عن الحب المفرط للذات ، أم أنّه ممزوج بعناصر اخرى ، قد يكون منها (جنون العظمة) ..!!
وعلى اية حال :
فالاعجاب بالنفس يَمنعُ من الارتقاء الى الحالات الأخلاقية الرفيعة ، ويُعرّضُ صاحَبه كثيراً الى موارد النقد والمواخذة …
-2-
إن السلطة ، والثورة الماليّة، قد يدفعان ذوي الإحساس بالدونية والنقص، الى ألوان من الممارسات التي لا يُقرّها عُرفٌ ولا دين ، فضلاً عن ارتطامها بالخطوط الحمراء أخلاقيا وانسانياً واجتماعياً وحضارياً وقانونياً …
-3-
والسؤال الآن :
كيف يمكن لنا ان نتعرف على الهوية الحقيقية لمن تُناط بهم المناصب المهمة ، والتي يُمكن لهم من خلالها ايقاع الأذى بالآخرين ؟
انّ ايقاع الأذى ، واجتراح العدوان على الناس، تتعدد أشكالُهما ، وتتنوع ضروبُهما حتى تصل الى سفك الدماء ، وقتل الابرياء والاعتقالات الجزافية والتلذذ بما يكابده المظلومون من ألوان العناء …
وهذه الحالة بالذات ، حالة التنمر والقسوة والبطش والاستهتار بالدماء والحرمات، هي سمة الطغاة والجبابرة عبر الاعصار والاقطار …
-4-
ويُضاف الى تلك الحالة، الموغلة في التوحش وانطفاء أنوار الضمير ، حالة التعمد والاصرار على مقابلة الاحسان بالاساءة ، لأنها النذالة بعينها
ومن هنا قيل :
{ اتق شرَّ مَنْ أحسنتَ اليه }
-5-
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك :
ما نقله لنا التاريخ عن الحجاج بن يوسف الثقفي .
لقد كان الحجاج أولَ أمْرِه في شرطة ” روح بن زنباع ” وزير عبد الملك بن مروان ،
( وكان عسكر عبد الملك لايرحل برحيله ، ولا ينزل بنزوله )
ومعنى ذلك :
ان (روح بن زنباع) لم يكن حازما في تدبير الامور ، وتسييرها بالنحو الذي يريده السلطان .
وحين شكا (عبد الملك ) ذلك لروح بن زنباع ، قال هل :
” في شرطتي رجل يقال له الحجاج بن يوسف ،
لو ولاّه امير المؤمنين أمر العسكر ، لأرحل الناس برحيل أمير المؤمنين وانزلهم بنزوله “
وبناء على هذا الترشيح من قبل ” روح بن زنباع ” (ت 84 هجرية)
أصدر السلطان أوامره بتعيين الحجاج آمراً لعسكره .
وهذه يُدٌ (لروح بن زنباع) كان على (الحجاج) ان يحفظها له، ولكنّه – ولخبث ذاته ، وسوء طويته – لم يكتف بعدم حفظ اليد ، بل قابلها
بالاساءة والعدوان فدّلنا على هويته الحقيقية التي دعت بعض الفقهاء لتكفيره .
قال الدميري :
( رأيت على حاشية تاريخ ابن خلكان بخط بعض المشايخ ان بعض العلماء كفرّه …) الدميري /ج1/247
-6-
ورحل (عبد الملك) يوما ورحل الناس ،
وتأخر أصحاب روح بن زنباع عن الرحيل ،
فمّر عليهم الحجاج وهم يأكلون فقال لهم :
ما بالكم لم ترحلوا مع العسكر ؟
فقالوا له :
انزل ، وتغد ، ودع عنك هذا الكلام يا ابن اللخناء
فقال :
هيهات ذهب ما هناك ،
ثم أمر بهم فضربت أعناقُهم ،
وعرقبت خيولهم ،
وأحرقت فساطيطهم ،
فبلغ ذلك (روحا) فدخل على عبد الملك وقال :
انظر ماذا جرى عليّ اليوم من الحجاج !
فقال :
وما ذاك ؟
قال :
قتل غلماني ،
وعرقب خيلي ،
وأحرق فساطيطي .
فأمر (عبد الملك) باحضار الحجاج ،
فلما حضر قال له عبد الملك :
ويلك ماذا فعلت اليوم مع سيدك روح بن زنباع ؟
فقال له :
{ ” يا امير المؤمنين :
إنّ يدي يدُك ،
وسَوْطي سَوطُكَ ،
وما على امير المؤمنين أنْ يخلف (لروح) عوض الغلام غلاميْن ، والفرس فرسيْن ، والفسطاط فسطاطيْن ،
ولا يكسرني في العسكر ،
فقال له :
أفعلُ
فتم للحجاج مايريد ، وقوي من ذلك اليوم أمرُه ، وعظم شَرُّه }
اننا من خلال هذه الحادثة نكتشف هوية (عبد الملك) أيضا، الذي غض النظر عن الدماء المراقه ظلما وعدوانا، واستجاب للظلوم الغشوم في مادعاه اليه ، تقويةً لسلطانه …
ولو لم يكن (الحجاج) قد اكتشف الهوية الحقيقية (لعبد الملك) لما أقدم على جريمته ..!!
-7-
ان الدموية والهمجية هما الطريق الطبيعي للتقدم في ظلّ حكم الطغاة .
ومن هنا كان الدكتاتور المقبور يسند المهام الكبرى لورثة الحجاج وطلاب مدرسته …
-8-
وكنا نحسب ان سقوط الصنم، سينهي كل الجرائم والمظالم في العراق .
ولكننا للأسف :
شهدنا في ظل الحكومة السابقة (2006-2014) من المظالم والمفارقات ما جعلنا نراجع حساباتنا كلها .
اننا ندعو – وبكل اصرار – للمحاسبة على الأخطاء، والمعاقبة على الخطايا .
ولا ينبغي التردد لحظة واحدة في احالة الظالمين والمفسدين للقضاء مهما كانت مناصبهم وصفاتهم …
فليست هناك حصانة لأحد على حساب الحق والشعب والوطن .