23 ديسمبر، 2024 10:59 ص

كيف تقطَّعتْ أشجار شارع المتنبي وسوق السراي ببغداد ؟

كيف تقطَّعتْ أشجار شارع المتنبي وسوق السراي ببغداد ؟

ليس الوفاءُ غريباً على أستاذنا الصحافي القدير زيد الحلي ، بأنْ نعَى إلينا عبر الصحافة العالميَّة متمثلة بجريدة ( الزمان ) اللندنية ، بطبعتها الدولية وبعددها ( 4242 ) الصادر يوم الأربعاء 4 / تموز / 2012م ، المكتبيَّ المعروف الأستاذ نعيم الشطري ، صاحب ( مكتبة ومزاد الشطري ) الكائنة بشارع المتنبي ببغداد ، أو شجرة هذا الشارع العريق ، كما أسماه في مقالة سابقة له نشرتها صحيفة ( الزمان ) نفسها قبلاً في العام 2009م ، قـلـتُ : نعاه قائلاً : ( شارع المتنبي … بلا نعيم الشطري ) ، فأبكانِي على الاثنين ! .
ولسْتُ مبالغاً لو قلتُ لكم : إنَّ الشطري هو أوَّل مَن باع الكتاب في العراق بمزاد علني ، فمزاده كانَ الأوَّل وبقي الأخير فيه ، على ما أظنُّ وأعتقد ، أو في ألأقلِّ القليل : إنَّني لم أرَ مزاداً للكتب غيره في دنياي هذي التي عشتها .
عرفْتُ هذا الراحل العزيز لأوَّل مرَّة بنفس مكان مكتبته في شارع المتنبي في العام 1992م ، وعرفه مَن هو قبلي في الأدب والثقافة بنفس مكانها أيضاً في بداية ستينيات القرن الفائت ، يومَ لمْ تكنْ أمي قد ولدتني بعدُ ، أي قبل أكثر من خمسين عاماً ! ؛ له فضلٌ عليَّ لا أنكره ودالة لا أجحدها ، نعم : للشطري فضلٌ عليَّ ودالة يومَ كنْتُ دارساً للأدب العربي ولغته في تسعينيات القرن الفائت ، بأنْ باعنِي الكثير ممَّا كنْتُ أحتاجه في دراستي وبحثي مِن المصادر والمراجع بأثمانٍ زهيدةٍ وأسعار رخيصة أو بأقلَّ من ثمنها الأصلي وقيمتها الحقيقية ، وأعارَنِي البعض الآخر منها بدون مقابل ، مساعدة منه لِي ولأمثالِي مِن دارسي الأدب ، حباً منه للأدب وشغفاً به لا غير ! ، ولم يقبلْ مع ذلك كلِّه منِّي حتى كلمات شكري التي كنْتُ أسقطها عليه وأمطره بها ! ، وكان يقولُ لي : إنَّ واجبه الإنساني والأخلاقي هو رعايتنا نحن طلاب البحث الأدبي ، لأنَّه يرى فينا الأمل والمستقبل على حدِّ قوله وتعبيره ! ؛ وبذا تكون الأجيال التالية التي ستأتي بعد يومنا هذا قد خسرته أو خسرَتْ – من دون تدري – مُعِيناً مخلصاً نزيهاً ، وإنساناً طيِّبَ القلب ، مرهف الحسِّ ، رقيقَ المشاعر ، مُحِبَّاً للأدب ، ومتذوِّقاً لنصوصه ، راعياً لكلِّ الأدباء الذين يمرُّونَ به أو على مكتبته ومزاد كتبه ، صديقاً حميماً لهم ؛ ما أحسنه من صديق ! ، وما أكرمه من إنسان ! .
لم يبقِ لي أستاذي زيد الحلي ما أقوله أو أكتبه عن صاحبي وصديقي – المغفور له الراحل إلى عالم البقاء الحقيقي – الأستاذ المرحوم نعيم الشطري ، فقد كتبَ عنه بعبارة قويَّةٍ مركزة جداً ، مصقولة ومحبوكة بطريقة محكمة ورصينة ، معدِّداً كلَّ صفاته وخصاله الطيبة ، ذاكراً جميع مناقبه ومواقفه النبيلة ؛ اختار لكم من ذلك قوله عنه : (( كانَ واحداً من الطيبينَ الذينَ إذا لمْ يستنشقوا روائح الحبر والورق العتيق فإنَّهم لا يعدُّونَ يومهم يوماً ، والشطري لمْ يتركْ [ جمعة ] شارع المتنبي أبداً ، حتى في أسوأ حالات فقدان الأمن ، بلْ هناكَ مَن يؤكِّد أنَّ نعيماً كانَ يتواجد في شارع المتنبي حتى في أيَّام منع التجوال )) ! .      
وكانَ الموتُ اللعينُ قد قطَّع قبلاً أشجاراً مثمرة وشامخة في شارع المتنبي شارع الكتب البغدادي ، وسوق السراي الذي يتقاطع معه ، وغيَّبها عن عالمنا ، أذكر من بينها أو بينهم المرحومينَ : قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى ، وصادق القاموسي صاحب المكتبة العصرية ، وحسين الفلفلي صاحب مكتبة الفلفلي ، وعبد العزيز القديفي صاحب مكتبة القديفي ؛ فالأوَّلان تقع مكتبتيهما في شارع المتنبي ، والأخيران تقع مكتبتيهما في سوق السراي ، كما هو معلوم .
لم يبقَ لشارع المتنبي وسوق السراي من أشجارهما الشامخات إلا واحدة انقطعَتْ أيضاً وغابَتَ عنهما ، لتنغرسَ شامخة كما هي في شارع ( الحلبوني ) شارع الكتب الدمشقي وسوقها ، فالموتُ ليسَ مَن قطَّعها وغيَّبها ، بلْ الغربة والابتعاد الذي اختارهما لنفسه أو استحسنهما الأستاذ عباس خزعل حطاب – أطال الله عمره – صاحب مكتبة ( الرائد ) ، التي كانتْ واقعة في سوق السراي ، والتي أغلقها بعد أنْ باعَ رفوف جدرانها وطابوق حيطانها – على ما أذكر – في العام 1995م ؛ وهو يعيش اليوم نزيل العاصمة السورية ملازماً شارع كتبها ، إنْ ضيَّعته تجده هناك يومياً ! ، وهذا الرجل هو كنعيم الشطري قلباً وقالباً أو شبيهه ، فالواحد منهما كانَ يقرأ الكتاب الأدبيَّ قبلَ أنْ يبيعه للراغب في شرائه ، ودليلي على ذلك : تلك النبذة المختصرة التي يعطيك إيَّاها كلُّ منها عن كلِّ كتاب أدبٍ يبيعانك إيَّاه ، وعن مؤلِّفه ، وعن مطبعته التي طبعته ، وعن طبعاته الأخرى إنْ وجِدَتْ ، مع ملاحظةٍ ورأي نقدي مقتضبٍ إذا لزم الأمر ذلك أو استوجب ؛ هذا لو هممْتَ بالاستفسار من أحدهما أو سؤاله عنه .
فيالَ شجني ولهفتي على شارع المتنبي وسوق السراي لما حلَّ بهما بعد كلِّ مَن فقدا من هؤلاء الرجال الأفذاذ ، رحم الربُّ السابقينَ منهم ، ورحم آخرهم أبا ربيع الأستاذ نعيم الشطري ، وطيَّب ثراهم جميعاً ، وأطال عمر أبي رائد الأستاذ عباس خزعل حطاب ، ما أحوجنا اليوم إلى أمثالهم ! .
ــــــــــــ
كاتب وناقد عراقي مقيم بدمشق
للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة إلى :
[email protected]
[email protected]