22 ديسمبر، 2024 2:37 م

كيف تفّوق (خصّاف العبد) على إسماعيل ياسين؟

كيف تفّوق (خصّاف العبد) على إسماعيل ياسين؟

من النادر أن نجد شخصاً في العالم العربي، لا يعرف الممثل الكوميدي المصري إسماعيل ياسين الذي عدّهُ بعض النقاد في وقته ظاهرة فينة لنْ تتكرر. هذا الممثل لهُ القدرة على تطويع وجهه ولاسيما شفتاه الضخمتان( براطمه ) للقيام بحركات تسعد جمهوره، فضلاً على خفة دمهِ التي جعلته في حقبة خمسينيات وستينيات القرن الماضي يحتكر شُبّاك التذاكر. وما زالت شاشات الفضائيات اليوم، تعرض أفلامه كي يعرف الجيل الذي لم يدرك فنّهُ الجميل الذي امتاز ببساطة وأحياناً ببعض الإسفاف والمبالغة المفرطة. حصل (ياسين) لقاء ما يقوم من حركاتٍ كوميديةٍ ومنولوجات غنائية على الشهرةٍ والمالٍ معاً، حتى وصل صيتهُ إلى جميع أنحاء العالم العربي وبعض الدول المجاورة.
ومن شوارع القاهرة ومصر الفرعونية إلى بغداد وشوارع وأزقة الثورة الترابية، حيث تلعب الظروف الاجتماعية والموروثات دوراً في صقلِ موهبةٍ فنيةٍ من نوعٍ خاصٍ تفوقت على أختها المصرية؛ أنّهُ (خصّاف العبد) صاحب القدرة الفنية الفذة التي عمدت إلى إسعاد الناس، وزرعت الابتسامة على شفاهِهم مجاناً. هذا الرجل الأسمر؛ نذر نفسه للقيام بمهمة قد تكون غريبة بعض الشيء، ولكنها في الوقتِ نفسهِ علامة وماركة ثورية مسجلة، هدفها بث روح المرح وزرع الأمل في نفوس الفقراء والمحرومين الذين تزخر بهم مدينة جَلّ سكانها يمتازون بالكرم الجنوبي والحزن الحسيني والحرمان واضطهاد الدولة.
(خصّاف العبد) لمْ يتخرج من الأكاديميات الفنية حتى تملك تلك الموهبة، بل أن الحياة وظروفها الاجتماعية المعقدة هي من كوّنته وصقلت موهبتهِ بشكلٍ عفويٍ وفطري، يستطيع من خلالها أن يتفوّق على أفضل الفنانين المسرحين. حركة هنا، طرفة هناك، مع ملابس بيضاء ومسبحة صفراء طويلة، وأسنان تلمع كأنها الثلج الأبيض، هذه أدوات (خصّاف) التي يستطيع من خلالها أن يزرع البسمة على الشفاه، وهو يجوب قطّاعات الثورة مشياً على الأقدام ليتوقف عند محطات معينة ،حيث تجمّعٍ ما ليجودَ عليهم بما يحمله من طرافة ،ليدخل على قلوبهم السعادة.
الطرائف كثيرة يستطيع الإنسان أن يقتنصها من الحياة أو ينقلها عن الآخرين، ولكن العبرة في كيفية طرحها للمقابل الذي لا يجد سوى الانبهار من هذه الموهبة الفلتة. روح المداعبة وسرعة صنع الموقف الكوميدي صفات امتاز بها (خصّاف العبد)، فربما تسمع نكتة أو تشاهد حركة ما من احدهم، ولكنها من فمه أو إيماءة من جسمه تختلف عن غيره، إنّها الحرفية العالية في توظيف الأشياء الجميلة التي اختص بها أشخاص معينون دون غيرهم.
شوارع وقطّاعات وناس الثورة يعرفون هذه الشخصية، ويسعدون حين تكون بينهم، لأنّ بمجيئها تدخل السرور على قلوبهم ، تطرد ببعض الهموم الثقال – وما أكثرها !- في زمن يُنظَر إلى هؤلاءِ المساكينَ نظرة ازدراء من قبلِ السلطاتِ الحاكمة.
مارسَ (خصّاف العبد) المسرح المفتوح في تقديم (شقندحياته) المرحة، فكان هو المخرج والممثل والمعدّ، وربما هذا الرجل من الأشخاص القلائل الذين يؤمنون بمبدأ العلاج بالضحك بعيداً عن الأدوية ومراجعة الأطباء، وصفته في هذا الأمر نكتة حلوة، وحركة مميزة، تشابه إسماعيل ياسين، فهو موظف للقيام بكل أنواع الفنون الكوميدية.
ربّما توجد شخصيات غايتها إدخال المرح إلى قلوب الناس مجاناً، لأنها تملك موهبة من الله (سبحانه وتعالى) ،ولا تريد أن تحتكر هذا الهبة السماوية داخل نطاقٍ ضيقٍ، وإنما تكون المجاهرة بها أفضل وسيلة تكون حاضرةً في قلوب، وأذهان الناس الذين يقابلونها بنوع من الاحترام والوفاء على هذا الجهد المضني.
تبقى شخصية (خصّاف العبد) من الشخصيات التي مارستْ فن إسعاد الناس في زمنٍ تُقاس الخطوات بمقياس الأجهزة الأمنية التي قد تجد في إشاعة فن مسرح الشارع الذي ابتدعه (خصّاف) نوعاً من التحريض على الدولة، وعادة ما تُفسّرُ الأمور على أنها نوع من الاستهزاء بالنظام ورموزه، ومصير من يخترق هذه المحرمات معروف .
“”””””””””””””””””””””””””””””””””
• ملاحظة: لم تجمعني الظروف أن التقي بخصّاف العبد، ولكن صديقي الشاعر شاكر الشرقاوي سرد لي بعض حكايات رجل امتطى جواده الأبيض وهو يدور في أزقة وشوارع مدينة الفقراء، فكانت هذه الصورة كما تخيلتُها عنه، رجل لا يعرف سوى الابتسامة أسلوباً ليطرد عن الآخرين همومهم ومشاكلهم. رحِم الله (خصّاف) وما تركه من ذكريات حية ما زالت عالقةً في ذهن من عاش تلك الفترة الزمنية.
• برطم : شفه.
• شقندحيات: قفشات كوميدية.