23 ديسمبر، 2024 10:03 ص

كيف تعالج موضوعة نظام الحكم في الإسلام؟

كيف تعالج موضوعة نظام الحكم في الإسلام؟

كتب أحدهم على الفيس بوك مخاطباً قائداً سياسياً لإحدى الدول (إنك لن تستطيع أن تبني دولة إسلامية بأناس فاسدين). ولقد اختصر هذا القول كل ما قلناه وما نريد أن نقوله. كما إنه عبر عن العلاقة العضوية بين طبيعة مكونات المجتمع الذين أطلق عليهم المعلق مصطلح (الأُناس) وبين الدولة التي ستقوم وهم قوامها، كما إن هذا التعليق انطوى ضمناً على المدخل الصحيح لمعالجة الموضوع (المشكلة) المتمثلة بقضية نظام الحكم في الإسلام. ولقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن بعض الجوانب المتعلقة بنظام الحكم في الإسلام وكانت النتيجة التي خلصنا إليها إن هذا الموضوع يعود للمجتمع وإنه أمر دنيوي وإن للناس أن تختار منه ما يناسبها وما يتوافق مع احتياجاتها وظروفها والمرحلة التاريخية التي تمر بها، وأن لا علاقة للأمر بالدين إلا بالقدر الذي نحتاج فيه أن نُحكِّم الشريعة في القضايا التي تتطلب موقفاً شرعياً، ( وليست كل قضايا الحكم بحاجة لرأي شرعي) وإزاء ذلك فإن المدخل المناسب لمعالجة الموضوع هو ما يتعلق بـــ ( الأُناس) وفق تعبير صاحبنا الذي علق في الفيس بوك. إضافة إلى المداخل التي سنطرحها بتفاصيل حياة المجتمع المختلفة والتي يتطلب بعضها رأياً أو حكماً شرعياً.
كيف تعالج موضوعة نظام الحكم؟
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعالج المسلمون شؤونهم السياسية وأنظمة الحكم لديهم؟
وللإجابة على هذا التساؤل فلابد من حل عدد من القضايا ابتداءاً:
أولاً: ترسيخ القناعة بأن موضوع نظام الحكم ليس قضية دينية وكما سبق أن ذكرناه، وهذه القناعة موجودة لدى كثير من المهتمين، ولكن المشكلة هي إن كثيرين آخرين مؤثرين لازالوا يعدون موضوع نظام الحكم أهم من كل القضايا الأخرى بل إنها لديهم تتقدم على الدين نفسه إذ المهم والمقدم عندهم هو الإمساك بمقاليد الحكم كمقدمة ووسيلة لتطبيق الشريعة. ونرى إن كثيراً مما كتب في نطاق هذه القضية، إنما يضع العربة أمام الحصان كما يقولون، بمعنى إنهم يريدون أن يتوصلوا إلى ما يعتقدون إنه شكل نظام الحكم المثالي، الشرعي، الإسلامي، المطلق، ثم ما على الآخرين إلا اتباعه والسير على هديه. وهذا أمر لم يحدث على أرض الواقع في التاريخ الإسلامي باستثناء المراحل الأولى من الخلافة الراشدة التي لم تتكرر بصيغتها ولا بمثاليتها والتزامها بحدود الشريعة ولا بإجماع المسلمين عليها.
وفي العصر الراهن فشلت كثير من المحاولات التي جرت لإقامة ما يسمى بالدولة الإسلامية لأنها اصطدمت بالواقع ولم يمكنها التكيف معه، بل إن آثارها كانت عكسية على الإسلام نفسه ولا زلنا نعاني آثارها وأضرارها بل إن العالم كله اليوم يعاني معنا.
كما إن كثيراً من الدول التي تطلق على نفسها صفة (الإسلامية) لا يبدو من واقعها إنها استطاعت أن تبني نموذجاً يعبر عن قيم الإسلام أو أن تقيم تجربة يحتذى بها.
إن الحقيقة التي تثبتها الأحداث كل يوم هي إن العقل البشري ومخرجاته لا يمكن أن تقولب وفق صيغ جامدة، وإن محاولة صياغة صورة واحدة ومطلقة لنظام الحكم لا تخرج عن هذه الحقيقة، فطبيعة أنظمة الحكم تجعلها من أكثر الأمور عرضة للتغيير، إذ إننا نرى إن أسلوب الحكم وكيفية تسيير أمور البلد والمجتمع وطبيعة النظام وكثيراً من قوانينه تتغير كلما تغير الحزب الحاكم، بل كلما تغير الرئيس أو الملك أو الامبراطور الذي يجلس على كرسي الحكم حتى لو كان من الحزب الحاكم نفسه، وهذا يحدث في الأنظمة ( الديمقراطية ) التي يفترض إن نظمها السياسية ناضجة ومستقرة. وهوأكثروضوحاً وحدوثاً في الأنظمة غير الديمقراطية، إذ نجد إن طبيعة النظام وتوجهاته ومسيرة الدولة برمتها تتغير كثيراً ما إن يتغير الشخص الذي يتربع على القمة، والسبب بسيط لأنه لا يوجد شخصان متماثلان في التفكير والمبادئ والقيم والمعتقدات بل هم متغايرون في كل ذلك كما تتغاير بصمات أصابعهم وسحنات وجوههم وطبقات اصواتهم.
ثانياً: أن يُنظر إلى الموضوع على إنه شأن دنيوي لا علاقة له بالدين إلا بالقدر الذي تتوافق فيه ممارسات نظام الحكم مع الشروط العامة للشريعة الإسلامية، فكما إن الإسلام لا شأن له بنوعية الطعام واللباس إلا بالقدر الذي يتوافق مع شروط الشريعة ووفق قواعد بسيطة ومحددة ومتفق عليها، فإن موضوع الحكم لا يختلف كثيراً عن ذلك.
ثالثاً: الاعتراف والاقتناع بحقيقة إن الإسلام لم يقر شكلاً محدداً لنظام الحكم ولا ضرورة للبحث عن ذلك الشكل المثالي الذي يراد أن تطلق عليه صفة نظام الحكم الإسلامي. فمع إن كثيراً من الكتاب والمفكرين حاولوا استخدام مفهوم الشورى كقاعدة أساسية لإقامة نظام الحكم في الإسلام، فإن هذه القاعدة جرى التخلي عنها مبكراً منذ انتهاء عهد الخلفاء الراشدين وأصبحت أنظمة الحكم وراثية. ومع إن الكثيرين ومنهم الكاتب يرفضون أنظمة الحكم الوراثية والعائلية، إلا أن ذلك لم ينزع عن تلك الأنظمة صفة الإسلام ولم يجعلها متعارضة مع الشريعة، فاستعيض عن الشورى بالبيعة التي اكتفى بها الجميع بديلاً عنها وغدت كافية لإسباغ الشرعية (الإسلامية) على تلك الأنظمة. ولا زالت بعض الأنظمة المعاصرة تتخذ البيعة حجة على شرعيتها وبديلاً (سهلاً) عن الشورى وعن مظاهر ومتطلبات واستحقاقات الديمقراطية الحديثة. ومع ذلك فإن طبيعة نظم الحكم الوراثية لم تمنع مثلاً من أن يظهر فيها خليفة مثالي ومصلح كعمر بن عبد العزيز(رض) أو قائد تاريخي كصلاح الدين الأيوبي وكثيرون آخرون على شاكلتهما من حيث الصلاح والعدل والالتزام بقواعد الشريعة أو الدفاع عن الإسلام وقيمه وعن المسلمين ووجودهم وهذا دليل آخر على إن نظام الحكم وطبيعته وراثياً كان أو غير وراثي قضية مستقلة عن الدين.
ونعود إلى سؤالنا عن السبيل لمعالجة القضية، إن الذي نحتاجه في هذا المجال هو:
1- البحث عن الأسس العامة أو القواعد الشرعية ذات العلاقة أو التي تنظم وتحدد واجبات الحاكم أو التي يقوم عليها نظام الحكم. وهي ليست معقدة ولا متعددة بل هي بسيطة وعامة.
2- إن نظام الحكم مهما كان شكله إذا لم يكن مخالفاً للقواعد العامة للشريعة فإنه نظام مقبول إسلامياً، وعليه فمن الضروري أن نتخلى عن مصطلح (نظام الحكم الإسلامي) وأن نستبدله بتعبير (نظام الحكم المتوافق مع الشريعة) بغض النظر عن شكله وبغض النظر عن تسميته.
3- الالتفات إلى الإنسان بدل التركيز على النظام إذ ينبغي التركيز على بناء الإنسان المسلم الذي سيضع بنفسه أطر نظام الحكم وكل نظام وفق حاجة المجتمع التي تحتمها الظروف المحيطة بدل البحث عن أطر جاهزة. هذا الإنسان ستكون كل تصرفاته إسلامية أو متوافقة مع شروط الشريعة. وبالتالي فإن كل تصرفاته وما يفعله وما يقوم به وما يشرعه سيكون إسلامياً.
4- لو أردنا إقامة منظمة إسلامية ( ومن المعلوم إن الدولة منظمة والعائلة منظمة والنقابة منظمة والشركة الانتاجية منظمة وكل هيآت المجتمع هي منظمات بشكل أو بآخر ) فلا يكفي أن نطلق عليها تلك التسمية لتكون معبرة عن مبادئ وقيم الإسلام أو أن تكزن ملتزمة بشروطه إذ إن العبرة هي في من يديرونها، فإن كانوا مسلمين حقاً فإن كل نشاطها سيكون متوافقاً مع الشريعة وسيكون إسلامياً حتى لو لم يقصدوا ذلك ولم يصرحوا به، و حتى لو لم يكن اسمها إسلامياً، أما إن كان اسمها إسلامياً والعاملون فيها فاسدين مثلاً، فإن عنوانها الإسلامي لن يشفع لها كي تكون إسلامية، ونستذكر مرة أخرى قول صديقنا ((إنك لن تستطيع أن تبني دولة إسلامية بأناس فاسدين )) الذي عبر بدقة عن الفكرة.
وإذن فإنك إن أردت بناء دولة (أو أي كيان) متوافقة مع الشريعة فعليك ببناءِ الإنسان المسلم الحقيقي أولاً وهذا يكفي.