19 ديسمبر، 2024 7:15 ص

كيف تدخل التاريخ ؟

كيف تدخل التاريخ ؟

-1-
من منّا لا يتمنى ان يدخل التاريخ من أحدى بواباته الكبرى ليبقى ذِكْرُه خالداً ، وتتعرف الأجيال عليه جيلا بعد جيل ؟

انها أمنيةٌ تراود أذهاننا جميعاً، ولكنْ متى تنتقل الأماني من حيّزها النظري المحض الى حيّز الواقع ؟

ان الطرق الموصلة لتسليط الأضواء على الشخصية كثيرة جداً ولا يستطيع أحصاءها أحد ، وفي طليعة تلك الطرق :

المواهب العلمية والفكرية والأدبية والفنيّة …

والاتصاف بالصفات الحميدة والمناقب الباهرة كالمروءة والكرم والشجاعة والفطنة والإيثار …

والاختراعات والإبداعات التي تشكّل اضافات حقيقية في الميدان الحضاري .

والخدمات المتميّزة النافعة للانسانية من تشييد المعاهد والمعابد والمستشفيات ودور رعاية الايتام والمكتبات العامة والصدقات الجارية

وهكذا …

هذه هي مداخل الذِكْر الايجابي …

وفي مقابل ذلك :

يحتل السفّاحون والطغاة والمستهينون بالقيم الروحية والانسانية والاخلاقية ،صدارة القوائم السوداء الملعونة على كُلّ لسان مدى التاريخ..

وما الحجاج بن يوسف ” ببعيدٍ عن الاذهان، بعد أنْ أصبح مضرب المثل

في القسوة والاستهتار بالأرواح والاموال ….

ومن الحجاج بن يوسف الى الصعاليك الداعشيين، الذين ورثوا القسوة والغلظة والتنكر للقيم من أسلافهم الجبارين، وزادوا عليها خسةً ونذالةً وابتكاراً لطرائق التعذيب والتفخيخ والتفجير والتدمير والإبادة …

-2-

واصحاب المواقع المتميزة في وجدان التاريخ أصناف: منهم المشاهير أصحاب الأسماء المدّوية …

ومنهم مَنْ لم يصل الى تلك الدرجة العالية وانما ازدانت ترجمتُه في كتب التراجم والسير بومضات …

على أنَّ انتزاع المكانة المتميزة امرٌ في غاية الصعوبة ، لما يكتنف عملية التسليم بتفوق الشخصية على غيرها من عوائق وعقبات .

ومن هنا جاء النهي القرآني عن بخس الناس

قال تعالى :

{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم }

ولو كان التسليم لأصحاب المهارة والجدارة بالمكانة المتميزة لما جاء هذا النهي .

-3-

لن يعبق الذِكْرُ بالعطر ، الاّ حين تفوح الأشذاء ، وتتوالى المحاسن والأنداء ، على نحو لا يستطيع معه الحاسدون والمغرضون الاّ الاذعان للواقع والوقائع …

مَنْ الذي استطاع أنْ يُشككَ في كرم (معن) بن زائدة ؟

ومَنْ الذي استطاع أنْ يحذف بطولة (مالك بن الاشتر) مثلا ؟

ومَنْ الذي استطاع أنْ يتجاهل عبقرية الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض) ومنهجه التجديدي الرائد ؟

وهل يجرؤ أحد ان يستهين بشاعرية (الجواهري) مثلاً ؟

-4-

لقد كانت اللمحات الأخلاقية في سيرة بعض الشخصيات ، هي النافذة التي أطلوا منها على التاريخ .

ومن هؤلاء القاضي (عيسى بن أبان) – كما جاء في كتاب الانساب للسمعاني ج4 /ص411-412

” لقد تولى قضاء البصرة ،

وكان رجلاً سخيّاً جداً

وكان يقول :

والله لو أُتيت برجلٍ يفعل في مالِهِ فِعْلي لحجرتُ عليه “

ترافَعَ أمامه شخصان

كان المدّعي رجل يقول :

انّ له على (محمد بن عبّاد) اربعمائة دينار

فسأله (عيسى) عما أُدعي، عليه فأقرّ بذلك

فقال له المدعي :

( احبسه لي )

فقال له (عيسى) :

أما الحبس فواجب، ولكْن لا أرى حبس (أبي عبد الله) وأنا أَقْدرُ على فدائه من مالي .

فَغَرَمَها عنه (عيسى) من ماله .

والمهم :

إنّ القاضي حكم بما يقتضيه ” العدل” دون انحياز للمدعي عليه (محمد بن عباد )

ولكن المحكوم عليه كان عاجزاً عن دفع ما توّجب عليه اداؤه من المال ، فبادر القاضي وسدّد للمدعي تمام المبلغ وأنقذ المدعى عليه من السجن…

وهنا يظهر السرّ .

انه بمروءته وأريحيته وسخائه سجّل نفسه في ديوان الرجال الذين لا ينساهم التاريخ …

وهكذا يتجلّى أنَّ الاعمال لا الآمال هي التي توصل الانسان الى الِذكْر الحميد والتاريخ المجيد .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات