18 ديسمبر، 2024 11:11 م

كيف باع غورباتشوف صدام حسين؟ – الحلقة الثانية

كيف باع غورباتشوف صدام حسين؟ – الحلقة الثانية

لم يتعامل المجتمع الدولي، بجدية، مع خطاب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في آخر مؤتمر قمة، استضافتها بغداد نهاية شهر أيّار/ مايو 1990 أي قبل غزو الكويت بشهرين، وحديثه عن “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، في سياق التدليل على أن الأشقاء الذين حماهم  من إيران وقاتل نيابة عنهم، يحاصرون العراق، ويعملون على تدمير اقتصاده،وتخريب عملته، وسرقة نفطه.
ومع أنّ أولئك الأشقاء توجسوا خيفة من لهجة صدام  حسين العنيفة، إلا أنّهم كانوا يركنون الى قوة تحالفاتهم مع الولايات المتحدة،واستبعدوا عملاًعسكرياً يقدم عليه العراق، بجيش خرج  متهالكاً من حرب استمرت حوالي عقد من الزمن مع إيران ، وتعتبر أطول حروب القرن العشرين بين بلدين.
ولم تلتفت الجهات المعنية، في واشنطن وموسكو الى لهجة التهديد. وفِي الأقل فان موسكو ، وكما حدثني ليونيد شيبارشين، رئيس  العمليات الخارجية ومكافحة التجسس في جهاز أمن الدولة ( كي جي بي) لم تتوفر على أيّة معلومات حول نوايا العراق ضد الكويت، عسكرياً.
وفِي مقابلة أجريتها معه صيف العام 2000 بمناسبة مرور عشر سنوات على غزو العراق للكويت؛أشار الجنرال الذي قضى في آذار/ مارس 2012 منتحراً بسبب معاناة مضنية مع المرض، كما قيل حينها؛  إلى أنّ لا المخابرات السوفيتيّة ولا الأميركية كانتا تتوفران على دلائل او إشارات تنم عن تحرك عسكري مبيّت ضد الكويت من قبل العراق.
وقال:
” بعد غزو العراق للكويت، اكتشف جهاز مكافحة التجسس السوفيتيّ أن وكالات الاستخبارات الاميركية بمختلف أقسامها ، سعت لاختراق أجهزتنا الأمنية المكلفة بمتابعة العراق، عسى أن تجند احداً يفيدها بمعلومات عن صدام حسين ونظامه”!
وقال :
ارتكب  العراقيون خطأ فادحا، حين لم يتركوا ولو كوة صغيرة للأمريكيين  كي يتجسسوا على العراق. والنتيجة أن الصورة حالكة الظلام عن الأوضاع في العراق، داخل الاجهزة الأميركية ، خلقت لديهم تصورات مبالغ فيها عن الحجم الحقيقي لقوة وامكانيات العراق.
وحسب شبارشين، فإن الاستخبارات يجب ان تفتح ولو ثقب صغير أمام العدو.
وهكذا فان موسكو كانت تجهل تماما خطط ونوايا صدام، مع انها كانت ترصد عبر الأقمار الصناعية حشودا عسكرية عراقية على الحدود مع الكويت.
بيد أن أقمار التجسس لا تقرأ ما في العقول ولا تسبر القلوب!
وبعد ساعات من اقتحام القوات العراقية دولة الكويت؛ لم  تتأخر  موسكو، في حض العراق على الانسحاب ، دون قيد او شرط.
واذا ما رأت في مغامرة صدام حسين تهديدا للشراكة التي يتطلعها ميخائيل غورباتشوف مع الغرب والولايات المتحدة، فإنّ ” غوربي ” متصاعد الشعبية  في الخارج، باعتباره مصلحاً سوفيتياً ؛ استثمر الغضب العارم في الديمقراطيات الغربية، على ديكتاتورية صدام حسين المكتشفة فجأة! لينخرط في العمل المشترك الهادف لإخراج القوات العراقية من الأمارة المحتلة.
في الوقت ذاته لاح ، أنّ  الدبلوماسية العراقية، كانت تتكئ على مقولات جاهزة،حول التضامن الاممي ومعاداة الامبريالية، والمعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفيتيّ ، العبارة التي كان  الكاتب الساخر أبو كاطع(شمران الياسري) يحولها الى “حسجة”* حين يلخصها في كلمة “وعلى رأسه”! بمعنى الاتحاد السوفيتيّ.
و من غير المعروف فيما إذا  كانت السفارة العراقية في موسكو، زودت حكومتها بتقارير دقيقة عن التحولات الخطيرة الجارية في النظام السوفيتيّ، لكن المؤكد ان قيادة صدام حسين، الخارج من حرب طاحنة مع إيران  تعتبر أطول حروب القرن العشرين بين دولتين، بجيش ضخم مرهق، مدمى، بديون ثقيلة، ودينار، فقد قوته الفولاذية، واحساس بالمرارة من “غدر  الأشقاء” لم يكن في حال تسمح بالقراءة الواعية للتحولات العالمية، عدا عن الاعتداد بالنفس والمكابرة التي تسم إدارة صدام حسين للأزمات؛ وفقا لشهادات منشقين عن النظام وعن حزب البعث الحاكم في العراق.
في نادي الصحفيين، بالطابق الثاني من المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتيّة، كنت التقي بمختلف المراسلين السوفيت والاجانب ، بمن فيهم من عمل لسنوات في العراق.
مرة حدثني، مراسل صحيفة سوفيتية مركزية ، عاش في بغداد، قبل وبعد صعود صدام حسين الى سدة الرئاسة،عن الانجازات الكبيرة التي تحققت في العراق، سبعينيات القرن الماضي، وقال” تولد لدي انطباع لا أدري كيف أصفه؛ ان في العراق حكومتان، واحدة تبني، واخرى تهدم”.
وأوضح ” قام البعثيون بقفزة نوعية في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية ، لكنهم يخسرون كل شيء دفعة واحدة، بخوض مغامرات عسكرية، مثل الحرب مع إيران”.
حينها ، شاع مصطلح” عملاء النفوذ” في الأدبيات السوفيتيّة؛ المناهضة لسياسات الانفتاح التي أطلق لها العنان ميخائيل غورباتشوف.
ويعني المصطلح، أن شخصيات متنفذة، لا تقوم بأعمال تجسس لصالح دول أجنبية ؛ لكنها تنفذ أجندات تلك الدول في تعيين موظفين على اعلى المستويات، يقودون مؤسسات حيوية، ويتم اختيار أسوأ المرشحين لادارتها، بهدف تخريبها على المديات المتوسطة والبعيدة .
 الصحفي السوفيتيّ،  لم يكن حينها متعاطفا مع تحولات  غورباتشوف،  وكان يعتقد أن “عملاء نفوذ” من نوع ما تغلغلوا في منظومة الحكم العراقي، الأمر الذي خلق لديه  الانطباع بوجود حكومتين في بغداد ، واحدة للبناء واخرى خفية للهدم .
يتبع…