كيف أصبح الفساد نظاماً؟ قصة العراق بعد الاحتلال

كيف أصبح الفساد نظاماً؟ قصة العراق بعد الاحتلال

لقد شهد العراق في القرن العشرين احتلالين رئيسيين تركا بصماتمتباينة على بنيته السياسية والمؤسسية: الاحتلال البريطاني الذيأعقب الحرب العالمية الأولى، والاحتلال الأمريكي عام 2003. ورغمأن كلا الاحتلالين أدّيا إلى تأسيس نظام سياسي جديد، إلا أنالنتائج على مستوى الفساد البنيوي، الهوية الوطنية، واستقرارالدولة كانت متباينة بشكل لافت. ففي حين اتسم النظام الملكي الذينشأ بعد الاحتلال البريطاني بقدر من الانضباط الإداري، ومحدوديةالفساد، وسعى لبناء مؤسسات حديثة، فإن النظام الذي تأسس بعدالاحتلال الأمريكي تميز منذ نشأته بفساد مؤسسي واسع النطاق،وتفكك في الهوية الوطنية، وهيمنة منطق المحاصصة الطائفية علىمؤسسات الدولة.

نطرح هنا إشكالية مركزية ألا وهي أنه كيف يؤثر شكل الاحتلالوطبيعة النخب التي ترثه على بنية الدولة ومستوى الفساد؟ ولماذانجح النظام الملكي في ضبط الفساد نسبيًا، بينما فشل النظامالجمهوري ما بعد 2003 في بناء مؤسسات مقاومة له؟ للإجابة علىالسؤالين، نعتمد هنا على تحليل بنيويتاريخي يقارن بين طبيعةالاحتلالين، وتأثيره على شكل بناء الدولة، وتكوين النخب التي ورثت الحكم من بعده، وماهية الهوية السياسية في كل مرحلة، مستندينإلى أدبيات ما بعد الاستعمار، ونظريات الدولة الوريثة، والفسادالبنيوي.

نظرياً :

تُعد دراسة الفساد البنيوي في سياق ما بعد الاحتلال من القضاياالمركزية في أدبيات الدولة الحديثة، لا سيما في المجتمعات التيورثت أنظمة سياسية من قوى استعمارية أو احتلالية. ويُقصدبالفساد البنيوي ذلك النمط من الفساد الذي لا يقتصر علىممارسات فردية أو خروقات إدارية، بل يتجذر في بنية الدولة نفسها،ويُعاد إنتاجه عبر مؤسساتها، ونخبها، ومنظومتها القانونيةوالسياسية.

يشير مفهومالدولة الوريثةإلى أن الأنظمة السياسية التي تنشأبعد الاحتلال غالبًا ما ترث مؤسسات مشوّهة، أو تلك التي تُعادهندستها لخدمة مصالح الاحتلال السابق. هذه الوراثة لا تكونمحايدة، بل تُعيد إنتاج منطق الهيمنة، سواء عبر الامتيازاتالاقتصادية، أو عبر البنية القانونية التي تُشرعن الفساد. في الحالةالعراقية، ورث النظام الملكي مؤسسات إدارية مركزية، بينما ورثنظام ما بعد 2003 دولة مفككة، أُعيد تشكيلها على أساسالمحاصصة، مما جعل الفساد جزءًا من بنيتها التأسيسية.

النظام الملكي العراقي

اعتمدت بريطانيا في العراق على نموذجالحكم غير المباشر،حيث أُسندت السلطة الشكلية إلى الملك فيصل الأول، بينما احتفظتبريطانيا بالنفوذ الفعلي عبر مستشارين سياسيين وعسكريين. هذاالشكل من الاحتلال، رغم طبيعته الاستعمارية، لم يُفكك مؤسساتالدولة، بل ساهم في بنائها تدريجيًا، خاصة في مجالات التعليم،القضاء، والجيش¹.

تشكلت النخبة الحاكمة في العهد الملكي من شخصيات مدنيةوعسكرية تلقت تعليمها في العراق أو في الخارج، وغالبًا ما كانتتحمل رؤية تحديثية للدولة². ورغم ارتباط بعض هذه النخب بالمصالحالبريطانية، إلا أن العديد منها سعى إلى بناء دولة ذات سيادةنسبية، ومؤسسات مستقلة.

لم يكن الفساد في العهد الملكي ظاهرة بنيوية، بل اقتصر غالبًا علىامتيازات فردية، أو تواطؤ محدود في العقود الحكومية³. وقد ساهموجود برلمان ناشئ، وصحافة حرة نسبيًا، ورقابة ملكية، في الحد منانتشار الفساد وتحويله إلى نمط مؤسسي.

النظام العراقي بعد 2003

شكّل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لحظة مفصلية في تاريخالدولة العراقية، ليس فقط من حيث إسقاط النظام السابق، بل منحيث إعادة هندسة الدولة على أسس طائفيةإثنية، وتفكيكمؤسساتها السيادية. وهذه كانت غاية “المحافظين الجدد” في أمريكا من إحتلال العراق.

فعلى خلاف النخب العسكريةالإدارية التي حكمت في العهدالملكي، تشكلت النخب السياسية بعد 2003 من أحزاب المعارضة الدينية والعرقية، وغالبها كانت في المنفى، ومرتبطة بمشاريعإقليمية أو دولية⁵. هذه النخب لم تمتلك مشروعًا وطنيًا جامعًا، بلسعت إلى تثبيت مواقعها عبر السيطرة على الموارد، وتوظيف الدولةكأداة للتمكين الفئوي.

في هذا السياق، لم يكن الفساد مجرد ممارسات فردية في هذا النظام الجديد، بل أصبح جزءًا من آلية الحكم. الوزارات تُدار وفقمنطقالمحاصصة، والعقود الحكومية تُمنح وفق الولاء الحزبي،لا وفق المعايير المهنية⁶. كما أن القضاء، والإعلام، وهيئات الرقابة،خضعت لتأثير الأحزاب، مما أضعف قدرتها على المحاسبة، وكشفالانتهاكات سرقة المال العام أو الفساد الإداري والعسكري.

تُظهر التجربة العراقية أن الاحتلال لا يُحدد مصير الدولة وحدهفحسب، بل حتى طريقة وراثة الدولة وتركيبة إعادة بنائها؛ فهماالعاملان الحاسمان في إنتاج أو مقاومة الفساد البنيوي للدولة ما بعد الاستعمار. النظام الملكي، رغم نشأته في ظل استعمارامبراطورية بريطانيا العظمى، ولكنه سعى إلى بناء مؤسساتحديثة، وضبط الفساد، وتعزيز الهوية الوطنية. أما النظام الذيتأسس بعد الاحتلال الأمريكي، فقد نشأ على أنقاض دولة مفككة،والتي أُعيد تشكيلها وفق منطق الغنيمة، مما جعل الفساد جزءًا منبنيته التأسيسية، وأضعف قدرته على تمثيل المجتمع أو خدمته، أو تحقيق تنمية مستدامة لإقتصاده.

الملفت للنظر أن قيادة النظام السياسي الذي أنشأه البريطانيونكانت برئاسة ملك مستقدم من الجزيرة العربية، وحكومات متعاقبةيقودها ضباط من الجيش العثماني؛ أما النظام الذي أقامهالأمريكيون، فقد تولّاه قادة من أحزاب المعارضة السياسية ضد حكمالبعث في العراق، وكانت جلّ نشاطاتهم السياسية تتم خارج البلاد. والفرق بين كلا النظامين كالآتي:

أولًا: الشرعية التأسيسية

النظام الملكي (1921-1958)

الملك فيصل الأول بالإضافة إلى أنه رئيس دولةمستورد، بل جاءبتوافق دولي ومحلي بعد ثورة العشرين أيضاً، كحل وسط بينالاحتلال البريطاني والمطلب الشعبي بالاستقلال. وقد سعى الملكفيصل إلى بناء دولة وطنية حديثة، واعتمد على نخب عراقية مدنيةوعسكرية ذات خبرة عثمانية، لا على ولاءات طائفية أو مناطقية. فكانت شرعية النظام الملكي دستوريةرمزية، تستند إلى فكرة الدولةالحديثة والانتماء القومي.

النظام ما بعد 2003

أما النخب التي تولّت السلطة جاءت عبر الاحتلال العسكريالمباشر، ولم تُنتخب من الشعب، بل نُصّبت عبر توافقات دوليةطائفية. فمعظم القادة السياسيين كانوا في المنفى، وافتقروا إلىتجربة إدارية داخل العراق، كما أن شرعيتهم كانت مستمدة من نشاطاتهم السياسية في المنفى. فشرعية نظامهم القائم هي فئويةمحاصصية، تستند على هوايتهم الطائفية واستمراريته يقوم على توزيع الغنائم لا إلى مشروع وطني.

ثانيًا: الفرق في طبيعة النخب الحاكمة

النظام الملكي

النخب السياسية التي حكمت النظام الملكي في بدايتها مؤلفة منضباط الجيش العثماني، ولكن تطورت بعد ضم نخب من إداريين،ومثقفين تلقوا تعليمهم في بغداد أو إسطنبول، ومن خريجي البعثاتالذين عادوا من الخارج للوطنهم، بعد أن امتلكوا خبرة ريادية فيإدارة الدولة. وعلى الرغم من ارتباط بعضهم ببريطانيا، إلا أن كثيرًامنهم سعى إلى بناء مؤسسات وطنية، وكانوا يخضعون لرقابة ملكيةوبرلمانية نسبية. فكانت حالة الفساد في النظام الملكي محدودة،وغالبًا ما يُواجهون المسائلة والمحاسبة أو الإقصاء السياسي.

فماهية النظام السياسي القائم بعد 2003 هو أن الطبقة الحاكمة هم من قادة أحزاب المعارضة، كثير منهم لم يعمل في مؤسساتالدولة سابقًا، وافتقروا إلى الخبرة الإدارية ويعتمدون على شبكاتدولية أكثر من اعتمادهم على الشعب.

ومن هذا أصبح الفساد في نظامهم هو منظومة تشغيلية لأحزابهم وسلطتهم، حيث تُدار الوزارات كإقطاعيات حزبية، وتُوزّع العقودوالوظائف وفق الولاء لا الكفاءة.

ومن هذا أصبح الفساد في النظام الجديد مؤسسيًا وشاملًا،مرتبطًا بمنطق المحاصصة والغنيمة لا بمشروع وطني.

ولتبسيط المقارنة، الجدول أدناه يوضح هذه المقارنة

النظام بعد 2003

النظام الملكي (1921-1958)

فرض عبر الاحتلال العسكري

توافق داخلي–دولي بعد ثورة العشرين

شرعية تأسيس الدولة

قادة أحزاب طائفية في المنفى

ضباط عثمانيون، إداريون محليون

النخب الحاكمة

ضعيفة، معظمها نظرية

عالية، مستمدة من الدولة العثمانية

الخبرة الإدارية

مفككة، محاصصية، حزبية

مركزية، تدريجية، مؤسساتية

بنية الدولة

مؤسسي، شامل، محمي سياسياً

فردي، محدود، قابل للمحاسبة

طبيعة الفساد

حزبية مغلقة، بلا مساءلة فعالة

ملكية وبرلمانية نسبية

الرقابة والمحاسبة

الفرق الجوهري بين كلا النظامين يكمن في أن النظام الملكي سعىإلى بناء دولة حديثة ذات مؤسسات، بينما النظام بعد الاحتلالالأمريكي نشأ على أنقاض دولة مفككة، وأُعيد تشكيله وفق منطقالغنيمة، مما جعل الفساد جزءًا من بنيته التأسيسية.

توصيات مستخلصة

ضرورة إعادة التفكير في شرعية النخب، وربطها بالانتخاباتالحرة ونزاهة القيادات، واعتماد الخط الأحمر الذي حددته المرجعية،المجرب لا يجرب“.

بناء مؤسسات رقابية مستقلة، تتجاوز منطق المحاصصة،وتعيد الاعتبار للكفاءة الوطنية، بالإضافة إعادة بناء جميع مؤسساتالدولة على أساس الكفاءة لا الولاء.

الاستفادة من التجربة الملكية في بناء الدولة المركزية، دونتكرار نموذجها السياسي، بل تطويره نحو ديمقراطية مؤسساتية.

استعادة الهوية الوطنية الجامعة

تفعيل القضاء والإعلام كأدوات للمحاسبة

الهوامش

1.حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثوريةفي العراق، ترجمة عفيف الرزاز، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية،1990، ص 112.

2.توبي دودج، اختراع العراق: فشل بناء الدولة وتاريخ مُنكَر،لندن: دار هيرست، 2003، ص 45.

3.علي علاوي، احتلال العراق: كسب الحرب وخسارة السلام،بيروت: دار الساقي، 2007، ص 223.

4.Charles Tripp, A History of Iraq, Cambridge University Press, 2007, p. 156.

5.Huntington, Samuel P., Political Order in Changing Societies, Yale University Press, 1968, p. 32.

6.Transparency International