(عميد ركن متقاعد- دكتوراه في التأريخ العربيّ الإسلامي)
استانبول… في 29/مايس/2018
تمهيد
بالإعتماد على تقارير دبلوماسية شهرية أو فصلية أو طارئة، كانت المفوضية الملكية والسفارة العراقية في “آنقرة” أو القنصلية الملكية العراقية العامة في “إستانبول” رفعتها وزارة الخارجية العراقية لتُعرَضَ على مجلس الوزراء والديوان الملكي العراقي، والتي عُثِرَ عليها في قبو الديوان بعد إنقلاب (14/تموز/1958) الذي أودى بالنظام الملكي في العراق، فقد أعددتُ هذه الدراسة الوثائقية عن “ميثاق سعد آباد” الذي ربط (أربع) دول “إسلامية شرق-أوسطية” بشبه تحالف لم يَدُمْ طويلاً… وإليكم نبذة عن هذا الميثاق.
ماهيّة “ميثاق سعد آباد”
هو ذلك الميثاق الـمُبرَم في “قصر سعد آباد” الشاهنشاهي بالقرب من العاصمة الإيرانية “طهران” يوم (8/تموز/1937)، الذي وضمّ كلاّ من “إيران، تركيا، العراق، آفغانستان” في شبه تحالف هشّ لم يَدُم سوى (أربع) سنوات.
زعماء الدول المشاركة فيه
أُبرِمَ الميثاق وتُبودِلت وثائقه الرسمية في عهود كل من:-
“الملك غازي الأول”- عاهل المملكة العراقية.
“رضا خان بهلوي”- شاهنشاه “إيران”.
الملك “محمد ظاهر شاه”- ملك الآفغان.
“مصطفى كمال آتاتورك”- رئيس الجمهورية التركية.
الوزراء المخوّلون بالتوقيع
وأمضى على أوراقه وزراء الخارجية المخوّلون لتلكم الدول، وهم:-
عناية الله سميعي- إيران.
الدكتور توفيق رشدي آراس- تركيا.
الدكتور ناجي الأصيل- العراق.
فيض محمد خان- آفغانستان.
موضوعات الوثائق
تخوض التقارير في العلاقات الحسنة بين بعض دول الميثاق والخلافات الحدودية التي سادت أُخرَيات، والخطوات الأولى نحوه والإتفاقيات التي سبقته ومهّدت لعقده، وكيف وُئِدَت الإشكالات بين دوله قبل الإتفاق على إبرامه، والآراء والتصريحات التي أُطلِقت حوله، والأحداث الخطيرة التي طرأت من بعد توقيعه عام (1937) وأدّت إلى أفوله عام (1941).
غايات الميثاق المعلنة
الإمتناع عن أي تدخّل في الشؤون الداخلية.
مراعاة حُرمة الحدود المشتركة.
عدم التعمّد في توجيه تَعَدٍّ نحو الطرف الآخر.
التشاور فيما يخص كل الإختلافات التي لها صبغة دولية ومصالح متشابكة.
عدم السماح لتأليف عصابات مسلّحة وجمعيات تستهدف قلب نظام الحكم أو الإخلال بالأمن الداخلي في أية بقعة من بلاد الفريق الآخر.
فكرة الميثاق وتطورها
يبدو من بعض التقارير، أن فكرة الميثاق كانت قد طُرِحَت للمرة الأولى عام (1934) إثر التحسّن الذي طرأ على العلاقات العراقية-التركية منذ أواسط عقد العشرينيّات وبحلّ مشكلة “ولاية الموصل” عن طريق “عُصبة الأمم”، ففُتِحَت في “آنقرة” أول مفوضية ملكية عراقية عام (1928)، وعُيِّنَ “صبيح بك نشأت” -أحد أقرب المقرّبين إلى الملك “فيصل الأول” وحامل أكثر من حقيبة وزارية خلال السنوات الأولى من تأسيس المملكة العراقية- وزيراً مفوضاً لديها.
وقد تطورت تلك العلاقات خلال السنوات الأولى من عقد الثلاثينيات، وتُوِّجَت بزيارة “الملك فيصل الأول” الرسمية إلى “تركيا” وسط ترحيب رسمي وحفاوة شعبية منظّمة وبالغة أيام شهر (تموز/1931)، وواصلت تحسنها بعد نيل “العراق” إستقلاله -ولو شكلياً- من الإنتداب البريطاني، قبل أن يُقبَل عضواً في منظمة “عصبة الأمم” عام (1932).
أما العلاقات بين “تركيا وإيران” فقد كانت حسنة، بعد أن إرتبطتا بمعاهدات وإتفاقيات نظّمت العديد من الأمور العالقة بينهما، فيما كان مسؤولوها يتبادلون زيارات عديدة… وكذلك كان الحال بين “تركيا وآفغانستان”.
إلاّ أن الخلافات الحدودية بين “إيران والعراق”، وبين الأولى وجارتها “الآفغان”، فقد كانت تعكّر الصفو، وقتما طُلِبَ من “تركيا” -الصديقة للجميع- التوسّط لحلها، فأسرعت من دون تردد، إذْ كان ذلك سبيلاً لتوطيد مركزها السياسي في المنطقة.
إستراتيجية الميثاق السياسية
خلال عقد الثلاثينيات، بان واضحاَ على الأفق تعاظم قدرات دولة جديدة سُمّيت “إتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفييتية” في مناحيها السياسية والعسكرية والصناعية والآيديولويجية، فشكّلت قوة عالمية كبرى ذات نفوذ وطموح عظيمَين تسبّبت قلقاً كبيراً وعدم إستقرار مزعوماً على الحدود الشمالية لكل من “أفغانستان، ايران، تركيا” المتاخمة مع الجمهوريات السوفييتية، وبالتالي خطراً على البقاع الشمالية-الشرقية ل”المملكة العراقية”، والتي لا تبعد سوى حوالي (300) كلم عن الحدود الجنوبية-الغربية للإتحاد السوفييتي المتمثلة في جمهوريتَي “آذربيجان وأرمينيا” السوفييتيّتَين، ما يعني أن “الجيش الأحمر” يمكن أن يخترق الأراضي العراقية خلال بضعة أيام، إن لم يَلقَ مقاومة عنيفة تحرمه من التقدم.
ويبدو جلياً -ولو من وراء الستار- أن الدول الغربية الرأسمالية المتحالفة، وفي مقدمتها “بريطانيا العظمى” كانت تشجّع خلال أواسط الثلاثينيات عدداً من دول المنطقة المرتبطة معها أو القريبة منها سياسياً، وتحثّها لتشكيل “تحالف سياسي” من دول إسلامية يتخذ شكل ميثاق متعدّد الأطراف تتضامن فيما بينها لمناهضة الشيوعية الخطِرة على شعوبها، وذلك على الرغم من” معاهدة صداقة” كبرى كانت قد ربطت “تركيا” بالإتحاد السوفييتي منذ عام (1921) وذلك في عهدَي “فلاديمير لينين” و”جوزيف ستالين”.
وقد يمكن تلخيص الإستراتيجيات التي مهّدت للتفكير في عقد هذا الميثاق فيما يأتي:-
نزعة “تركيا” -بعد أن إستعادت بعض ثقتها وقواها ومركزها وثقلها السياسي- في تزعّم الشرقَين الأدنى والأوسط، لإعتبار ذاتها الدولة المستقلة الأقوى في ربوعهما.
رغبة الساسة الأتراك في التقارب من الدول التي سُمِّيَت بـ”الجبهة الديمقراطية” بزعامة “بريطانيا وفرنسا” تمهيداً للإفادة السياسية والإقتصادية منها.
كون المملكة العراقية مرتبطة في حينها مع “بريطانيا” بمعاهدات سياسية وعسكرية، ناهيك عن محاولة جدية خططت لها “بريطانيا” لسحب البساط من تحت أقدام “العراق” الذي إجتاحه مدٌّ قومي عربي، إذ بات ينادي بوحدة عربية شاملة.
على الرغم من عدم إرتباط “إيران وآفغانستان” بالكتلة الغربية جهاراً، إلا أن ميول سياستهما الخارجية كانت تنحو إلى الغرب، سواء رغبة منهما في إنتهاجها، أو خشية الخطر السوفييتي المتاخم لهما.
حلّ الخلافات العالقة والمتراكمة منذ القِدم، والمعاصرة منها، والتي كانت تؤثر سلباً على الإستقرار والتطوّر والتنمية بالمجالات كافة لدى دول المنطقة.
القناعة التي سادت نفوس قادة تلكم الدول عموماً لإنبثاق جبهة متراصّة للوقوف حيال إحتمالات تغلغل الشيوعية في بلدانهم.
إستهداف الإستراتيجية البريطانية خلال هذا العقد، أو قبله لتأمين الهيمنة غير المباشرة على منطقة الشرقَين الأدنى والأوسط عن طريق مثل هذه التحالفات، ودرء الخطر عن منابع النفط في كل من “إيران والعراق” معاً، تحقيقاً لمصالحها الذاتية ومصلحة حلفائها.
نبذة عن وقائع الميثاق
وإليكم نبذة مختصرة عن الأحداث والمعضلات والوقائع لتسليط أضواء على مُجرَيات الميثاق، وكما يأتي:-
الخطوة الأولى كانت فكرة لعقد “ميثاق تحالفي” يحتضن الدول الإسلامية الأربع، والتمهيد لذلك بإزالة العوائق والعوالق بين الدول المرشَّحة للميثاق بمساعٍ تركيّة.
إعلان حكومة إنقلاب “الفريق بكر صدقي” إستمرار “العراق” صداقته مع كل من “آنقرة، لندن، طهران” إبتغاء عقد الميثاق، ومُداخلات صحفية تشجيعية بريطانية وتركية بشأنه خلال عام (1936).
سعي “آنقرة” لإنهاء الخلاف الحدوديّ العراقي-الإيراني، وزيارة وزير الخارجية التركية لبغداد لهذا الغرض، والتوجّه مع وزير الخارجية العراقية سويّة إلى “طهران”، وإبرام “ميثاق سعد آباد” يوم (8/تموز/1937).
الضعف الذي بدا بارزاً في الميثاق، وفَقدِ “تركيا” ثقتَها حيال الميثاق خلال عام (1939) بُعَيدَ إندلاع الحرب العالمية الثانية في الساحة الآوروبية، وعدم إستطاعة دول الميثاق من تحقيق مجرد إجتماع يتيم لبحث الأمور الخطيرة التي فرضت نفسها على مستوى العالم.
محاولات “إيران” والشاهنشاه “رضا خان بهلوي” للبقاء على الحياد بعيداً عن الميثاق، رغم الضغوط البريطانية الواقعة عليها، وسط تقوّلات عن إحتمالات تعرّض سوفييتي على منابع النفط لديها وفي العراق، وقلق “بغداد” الواضح جراء ذلك خلال عام (1940).
عرض لحال دول الميثاق خلال عام (1940)، وتقلُّب أوضاع “إيران” وصمت “آفغانستان”، وحسن النية المعدوم من لدن “طهران” نحو “العراق” و”تركيا”.
تصرّف دبلوماسي غير مقبول لوزير “تركيا” المفوض لدى “بغداد” حيال تشكيل حكومة الدفاع الوطني برئاسة “رشيد عالي الكيلاني” في شهر نيسان (1941).
إحتلال القوات البريطانية للعراق وإكتساحها لإيران خلال شهرَي (آب، أيلول/1941) وأفول “ميثاق سعد آباد” عن الساحة السياسية.
إحتلال “العراق” وإكتساح “إيران”
إندلعت الحرب العراقية-البريطانية إثر الفشل الذريع لـ”حركة مايس/1941″ وإنتهت أواخر الشهر نفسه بتدمير الإنكليز كامل القوة الجوية العراقية وتقليص الجيش العراقي إلى فرقتَي مشاة هيكليّتين عوضاً عن (أربع) فرق، فإستنبطت “بريطانيا” درساً إستراتيجياً جراء ذلك، فإتجهت بأنظارها نحو منابع النفط الإيرانية خشية وقوعها مستقبلاً بيد الآلمان الذين بدأوا تعرّضهم الواسع على الإتحاد السوفييتي أواسط (1941)، وإحتمال توجّه جيوشهم نحو القَفقاس (القَوقاز) المتاخمة لأقصى الشمال الغربي من “إيران”.
وفي حين لم تحرّك “آفغانستان” ساكناً تجاه هذا الحدث الموجع، وبينما لم يستطع “العراق” -المغلوب على أمره- أن يعمل شيئاً يُذكَر، فإن “تركيا” جمعت العديد من فرق جيشها وحشّدتها على الحدود مع “إيران”، ليس لإسناد حليفتها في “ميثاق سعد آباد”، وإنما خوفاً على بلادها من إكتساح مشابه.
موت الميثاق
وبعد تكلم التطورات الخطيرة يبدو أن “ميثاق سعد آباد” قد تلاشى وإنعدم ذكره في الأعوام العصيبة اللاحقة… وذلك مما يولّد قناعة في صميم أيّ باحث أو مُتابع لأمور الشرق الأوسط في التأريخ المُعاصر، وكأنّ غاية زعماء الدول الأربع لم تكن سوى التوقيع على أوراقه الصقيلة وعبارته المسبوكة، وإجراء مراسيم تبادلها دبلوماسياً وبروتوكولياً تحت أضواء وسائل الإعلام الساطعة، وذلك للظهور أمام العالم بمظهر الذين لا ينقصهم شيء، وأن بإقتدارهم أن يغدوا متحالِفين أسوة بالعديد من التحالفات التي قامت في “آوربا”.
لماذا فشل “ميثاق سعد آباد”؟
وهنا ينبغي التوقّف لنَتَمَعَّنَ في أمر هذا الميثاق الشرقي وتحليل مجالات ضعفه، قبل أن نستنتج أسباب إنحلاله طوعاً أو قسراً، ومن دون تدخل أجنبيّ، وبالتالي غيابه تماماً عن الساحة السياسية الإقليمية.
وما يجدر ذكره في شأن هذا الميثاق، مع ذلك الموقع الإستراتيجي الذي كانت دوله الأربع تتمتع به من النواحي الجيوبولوتيكية، والتي إن فرشناها ضمن خريطة متّسعة لوجدناها متحادّة ومتداخِلة فيما بينها، ونراها ذات مساحة شاسعة يبلغ طولها من أقصى الشمال إلى أقاصي الجنوب حوالي (1600) كلم، وعرضها من أقاصي شرقيّها إلى الغرب ما يربو على (2200) كلم، ويستقر على أراضيها ما يدنو من (70) مليون من البشر في حينه.
ويفترض منذ النصف الثاني لعقد الثلاثينيات أن دولتَين من دوله الأربع “العراق وإيران” كانتا في طريقهما لتشكيل قوّتين إقتصاديّتين مهمّتين في المنطقة والعالم، حيث أُكتُشِف فيهما النفط وأُستُثمِر، فيما تمتلك الدول الأربع جميعاً من الخيرات والمواد الأولية والزراعة والمواشي والأنهار والموانئ المطلّة على بحار ذات شأن ما يمكن أن تدرّ عليها إقتصاداً متيناً لا يُضاهى.
أما حدودها العامة فإنها تُتاخِم “الهند والصين” شرقاً، والإتحاد السوفييتي وبحرَي “قزوين والأسود” شمالاً، والمحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي وشبه الجزيرة العربية جنوباً، و”سوريا والأردن” وبحرا “إيجه والأبيض المتوسط ودول “البَلقان” غرباً…. لذلك، فهي من مواقع العالم الإستراتيجية المهمة التي تتوسط قارات ثلاث.
أسباب الفشل
إذن، كيف يفشل مثل هذا الميثاق ويُقبَر في أقل من (أربعة) أعوام؟
وقد تكون واحدة أو أكثر من النقاط الآتية سبباً أو مسبّبات لذلك الإخفاق:-
عدم إرتباط دوله الأربع فيما بينها بروابط حسنة طوال التأريخ، إذ كان “العراق” النامي حديث العهد في إنسلاخه من الحكم العثماني… ولم تكن “تركيا” أيضاً قد نسيت ما يُسَمّى بـ”الثورة العربية” ضد “إستانبول” والتي مهّدت لإنشطار “بلاد الرافدَين” والعديد من أقطار الوطن العربي عنها… وكذلك كان الحال بين “تركيا وإيران”، حيث ظلت الأخيرة في مشكلات مع العثمانيين طوال قرون وصولاً إلى أوائل القرن العشرين… فيما كانت العلاقات الأفغانية-الإيرانية ملأى بالتضادّات التي لم تُحَلّ إلاّ بتحكيم تركي عاجل عام (1937)… فيما لم تضع معضلات الحدود أوزارها -ولو مؤقتاً- بين “إيران والعراق” إلا قبل بضعة أيام من التوقيع على هذا الميثاق… لذلك. فإن معاهدَتَيّ الحدود الإيرانية-الآفغانية والإيرانية-العراقية لم تضعا نهاية حاسمة للخلافات بين تلكم الدول، إنما ظلّت كامنة في النفوس قد تطفح إلى الوجود بين آونة وأخرى إثر حادث بسيط أو سبب واهٍ مادامت النيّات غير صادقة.
تباين الرؤى الإستراتيجية والسياسية أو تعاكس بعضها عن بعض قبلَ الميثاق ولدى إبرامه وبعده.. فـ”العراق” كان مرتبطاً بمعاهدات مع “بريطانيا” الممتلِكة لقواعد عسكرية وجويّة في أراضيه وتفويضاً بإستخدام أو إستثمار أية منشأة عسكرية عراقية عند الحاجة… و”تركيا” قد تقاربت كثيراً من “بريطانيا وفرنسا”، في حين كانت تحاول مجاراة الإتحاد السوفييتي… بينما تسعى “إيران” للبقاء على الحياد وسط هذه التشابكات، مَثَلُها مَثَلُ “آفغانستان”، إذْ لم تكن هاتان الدولتان على إستعداد لتحالف إستراتيجي مع الكتلة الغربية في هذه المرحلة.
لا شك فيه أن “تركيا” كانت صاحبة الفكرة وتحاول تزعُّم الميثاق وقيادته. ولكن هذه الدولة تنصّلت عنه شيئاً فشيئاً بذرائع مختلفة، ولربما لم تَرَ من الأوفق -لمصالحها ومستقبلها- أن تعتمد على مجرد دول ضعيفة سياسياً وعسكرياً، ما لا يؤمن لها مصلحة دفاعية وإقتصادية تُذكَر، إذْ رأت أن الأنسب لسياستها وإستراجياتها وموقعها أن تستند منذ عام (1938) على دولتَين عُظمَيَين قويّتَين تتمثّلان في “بريطانيا وفرنسا”، إضافة لتعاملها منذ عام (1934) مع “الحلف البَلقاني” الأقوى والأقرب إلى حدودها ومياهها التي قد تتعرض إلى خطر أجنبي قوي، لذلك فقد أهملت “آنقرة” “ميثاق سعد آباد”، وظلّت تتشبّث بصداقة متينة مع “العراق” بمفرده.
لم يكن الذي يجمع دول الميثاق عند إبرامه عام (1937) سوى الخشية من الخطر السوفييتي. لذلك فلمّا إستشعرت “تركيا” دون ذلك، سواء بالإعتماد على قدراتها العسكرية المنتشرة في تخوم أراضيها المنيعة المتاخمة للسوفييت، أو بتأمين جانب تلك الدولة بإستمرار، وخصوصاً بعدما أُضيفَ إلى ذلك توقيعها على المعاهدة الثلاثية للتعاون الدفاعي المشترك والتي جمعتها مع “بريطانيا وفرنسا” عام (1939)، فإنها أدارت ظهرها نحو الميثاق.
كان “العراق” يستشعر ببعض الأمان من السوفييت، ليس بالإعتماد على قوته العسكرية التي يمكن أن تنفتح في شماليّه المنيع نسبياً فحسب، بل يتوقع دعماً بريطانياً قوياً وإسناداً سياسياً وعسكرياً كبيراً إلى جانبه، ليس لسواد عيونه، وإنما لمصالح الإنكليز النفطية في أراضيه.
فيما نرى “آفغانستان” وقد إعتمدت على أراضيها الجبلية الأمنع تجاه أي غزو سوفييتي من جهة، وعلى عدم توقّعها أطماعاً أخرى نظراً لكون البلاد مُقفَرة وقاريّة لا تُغري أي أجنبي طامع، وليست لموقعها الجغرافي بالذات تلك الأهمية الإستراتيجية التي للبلدان الأخرى في حينه.
لذلك نرى “إيران” وقد أمست لوحدها في خشية من ذلك الخطر السوفييتي، إذ لم تكن الدول الثلاث الأخرى على إستعداد حقيقي للوقوف إلى جانبها بتعريض أوطانها وشعوبها إلى الدمار.
إنشغال “بريطانيا العظمى” -وهي التي كانت تدفع لتأمين منافعها الإستراتيجية وتهدئة هذه المنطقة إلى عقد هذا الميثاق- في الإسراع لمساعدة حلفائها وتحقيق إلتزاماتها الإستراتيجية الأهمّ في الساحة الآوربية خلال عامَي (1938-1939)، وذلك إثر تعاظم الخطر الآلماني وتصاعده وصولاً إلى تعرّض “بولونيا” لهجوم “آلمانيا” الكاسح، وما تبعه من إعلان “بريطانيا وفرنسا” الحرب عليها، فذلك لم يَدَع مجالاً لـ”بريطانيا” للتفكير في أمر هامشي التأثير على الساحة الآوروبية، كالذي كان “ميثاق سعد آباد” يمثّله، وخصوصاً بعد أن ضمنت وقوف “تركيا” إلى جانبها وأمّنَت حيادها تجاه الآلمان والسوفييت معاً، ناهيك عن تحالف “العراق” مع “بريطانيا” من حيث الأساس، ولذلك لم تَعُد تهتم بأمر “آفغانستان” بشكل نهائي وموقف “إيران” المشكوك فيه حتى عام (1941) ما دامت مصالحها الإستراتيجية والنفطية سائرة بشكل مقبول.
إعادة “بريطانيا” إحتلالها للعراق وإسقاط حكومتها الوطنية خلال شهر (مايس/1941) وإكتساحها للأراضي الإيرانية بالتعاون مع الإتحاد السوفييتي خلال شهري (آب وأيلول) من العام نفسه، كانا السببان الأخيران لقبر “ميثاق سعد آباد” بشكل نهائي.
لما أوردناه آنفاً، ولربما لأسباب أخرى أقل شأناً لا نبتغي الخوض في تفاصيلها، نرى “ميثاق سعد آباد” وقد غاب عن الأنظار السياسية والإستراتيجية، ولم تعد الأهمية الكامنة في متون أوراقه سوى سطور من أحبار، ولم تحرّك دوله الأربع ساكناً يُذكَر خلال الأحداث الخطيرة والأخطار حقيقية التي تعرّضت لها (ثلاث) منها، في حين نشبت معارك كبرى في “البلقان” وعلى مقربة من بقاع “تركيا” منذ الربع الثاني لعام (1940)، والحرب غير المتكافئة التي إندلعت في قلب “العراق” بينه وبين “بريطانيا” أيام شهر (مايس/1941)، والضغط الثنائي البريطاني-السوفيتي الحليف الذي تعرّضت له “إيران” خلال شهري (آب وأيلول/1941)، إذ أُسقِطَت حكومتها وأُجبِرَ شاهنشاهها “رضا خان بلهوي” على التنازل عن عرشه الطاووسي.