23 ديسمبر، 2024 11:00 ص

كوليزادة واعتزال الكتابة السياسية

كوليزادة واعتزال الكتابة السياسية

لا شك ان المعارضة والنقد السياسي والتعبير الحر والراي الاخر، تعاني من اجواء مواجهات قاسية وغنيفة، وتتعرض الى مجابهات محفوفة بالمخاطر واالاغتيال والموت المحقق في الشرق الاوسط ومنها العراق واقليم كردستان، وقوائم الصحفيين والاعلاميين وكتاب الرأي والمحللين مملوءة بالقرابين والضحايا والاعتداءات والاغتيالات، وهي موثقة بالعشرات والمئات من قبل المنظمات المدنية المحلية والاقليمية والدولية، وكذلك الحال بالنسبة للناشطين المدنيين والمحتجين السلميين حيث يزج بهم في السجون، وقد يتعرضون الى اغتيالات متعمدة من قبل جهات امنية ومسلحة معروفة لدى الجهات الرسمية، كما حصل لثوار احتجاجات تشرين في العراق، والتظاهرات التي حصلت في الاقليم احتجاجا على سرقة الرواتب ونهب موارد النفط والايرادات العامة من قبل الاحزاب والعوائل الحاكمة بالسلطة.
المهم في الامر ان المعارضة والانتقادات السياسية باشكالها المدنية والكتابية المتنوعة عملية شاقة وعسيرة تجابه بالعنف وسحق الحقوق الدستورية، ولها ضرائب قاسية مادية وحياتية واقتصادية ومعنوية، واقساها هي التعرض الدائم لمعاناة وضائقات أليمة وجارحة خلال مجريات الحياة اليومية، وخاصة المجابهات الحاصلة ضد الكتاب السياسيين اصحاب الاقلام الحرة الناقدة لسياسات السلطة الحاكمة الفاسدة ونظامها الجائر بحق المواطنين.
والمشكلة الاكبر بالاقليم ان الفساد الرهيب والمارد المتفشي منذ ثلاثين سنة يتميز بخواص وسمات منفردة على الصعيدين الاقليمي والدولي، ولا يمكن لاصحاب الاقلام الحرة واصحاب الاتجاهات السياسية المعارضة التغاضي عنها ابدا، وهي:
* تفشي قارونية فريدة للفساد على مستويات عالية للسلطة والحكومة والاحزاب والعوائل الحاكمة والمسؤولين، وخاصة منهم الرؤساء، فهم رأس البلاء واساس غرس بذرة الفساد والنهب واللاعدالة منذ مجيئهم الى راس الحكم بعد الانتفاضة مباشرة.
* التوسع الفاحش والانتشار الكاسح لمنظومات الفساد داخل مفاصل الحزب والحكم والسلطة والعوائل الحاكمة.
* غياب العقلانية والوطنية والمسؤولية من جميع شخصيات اهل الحكم من رئيس ووزير الى ابسط موقع وظيفي وحزبي.
* فقدان النهج الاقتصادي الانتاجي والادارة الرشيدة والامانة الوطنية لدى جميع اصحاب المناصب والمواقع لاهل الحكم.
* الالغاء المتعمد لدور منظومات الرقابة الادارية والمالية القانونية الملزمة بالتدقيق والنزاهة والاستقامة من قبل الحكومة.
* عدم فسح المجال لظهور بديل وطني لمراقبة وادارة نظام الحكم العام، وقيادة الاصلاح بمستوى القمة والقاعدة على جميع الاصعدة الحكومية والحزبية والعائلية والقطاعات الرسمية والاهلية.
وغيرها من السمات والخواص التي تقشعر لها وجدان وقلب الانسان، وخاصة من ناحية عدم التفاعل مع المشاعر الانسانية عند حصول المآسي والكوارث الطبيعية والحوادث الخطيرة على حياة المواطنين، مثل الممانعة عن تقديم الاعانات والاغاثات، ورفض الاعانات الفيدرالية الموجهة لضحايا الفيضانات والكوارث.
ولا شك خلال كتابتنا للمقالات والتحاليل السياسية من خلال هذا المنبر الحر ومنابر اخرى وطوال اكثر من عقدين، انتفدنا كل اشكال الفساد الرهيب الوارد اعلاه، وعرضنا افكارا ومقترحات واوراق عمل للاصلاح والتغيير بعشرات ومئات المرات خلال سنواات طويلة، واهمها اقتراحنا بتخصيص 5% من الايرادات العامة لحكومة الاقليم ومن خلال هذا المنبر في سنة 2007 كاحتياط نقدي للكيان الكردي تحوطا للمستقبل، وقد اعدنا الاقتراح سنة 2009، ولكنه لم يؤخذ بالحسبان ولم يهتم به اي سياسي او حزب حاكم بالاقليم لفسادهم وانشغالهم فقط بالنهب وسرقة الايرادات والاراضي والممتلكات العامة في الاقليم، ومع هذا تواصلنا بتقديم افكار ومقترحات بناءة ومساعدة لمعالجة الازمات والمشاكل، ولكنها ذهبت ادراج الرياح، وبقيت سطورا صامتة على الاوراق تتساقط عليها غبار سنوات الحكم الحزبي العائلي الكردي الفاسد الجائر.
واليوم وبسبب تقاعدنا في الوظيفة بعد وصولنا الى سن التقاعد، ووصولنا الى شعور متسم بشبه احباط ويأس نتيجة السواد القاتم للوضع السياسي الفاسد الرهيب القائم في اقليم كردستان، وانطفاء ضوء نهاية النفق، ونتيجة للتحكم الجائر الكامل للحزبين والعائلتين الحاكمتين بجميع المقدرات المالية والاقتصادية والتجارية والطبيعية للمواطنين بالاقليم، ونتيجة لعدم القدرة على مستوى االافراد والجماعات على ازالة هذه السيطرة الطاغية والفساد المارد الرهيب للمكونات السياسية والحزبية والحكومية، وبسبب تواصل القمع والظلم من قبل نظام الحكم الجائر، وبسبب السنوات الطويلة لكتاباتنا المتسمة بالمعارضة النقدية المنطقية والعقلانية للحكم المارق والمدمر والمخرب للحزبين الحاكمين العائدين للرئيسين البرزاني والمرحوم الطالباني، والتعرض الدائم خلال هذه الفترة من الزمن الكردي الرديء الى متاعب ومجابهات قاسية وخطيرة، واستنادا للحكمة العربية القائلة “ان للكعبة رب يحميها”، ولكن كرد العراق لا احد يحميهم، وبسبب غياب الشعور الوطني والوعي المسؤول عن مكونات شعب الاقليم وخاصة الاحزاب والنقابات المهنية والجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني وشرائح اصحاب الشهادات الجامعية، وبسبب قناعتنا بان الجو العام بات قاتما تماما امام حياة المواطنين وخاصة الاغلبية المتجهة نحو الفقر واصحاب الدخل المحدود، ولاسباب وضغوطات سياسية وأمنية، وبسبب افتقادنا الى جهة راعية وحامية لتوجهات قلمنا المعارض، ونتيجة تعرض حياتنا الى مخاطر حقيقية، فاننا نعلن عن اعتزالنا للكتابة السياسية بسبب ايماننا بان حالات المعارضة والانتقاد والاحتجاج المدني باتت بحاجة الى حماية دستورية حقيقية واممية، وبسبب ضرورات حاجة الاقليم الماسة الى افعال مدنية على مستوى الجماعات وليست اقوال على مستوى الافراد، وذلك للدفع باتجاه احداث تغيير سليم ايجابي صائب في الوضع الفاسد القائم في الاقليم، ومع الاستمرار والعودة الى الكتابات العلمية والاقتصادية والمستقبلية التي ابتدئنا بها قبل اكثر من 35 سنة في جريدة الجمهورية البغدادية.
ولا شك خلال مسيرة طويلة من الكتابة المتواصلة (1985-2021) التي ابتدئنا بها بالعلمية والاقتصادية والمهنية وانتهينا فيها بالكتابة السياسية، وجدنا ان النتاجات التي قدمنا قيها افكارا واراءا واقتراحات ومشاريع وخطط عمل ورؤى خارطة طريق لمعالجة الازمات والمشاكل والمستندة الى رؤية اصلاحية، هي التي بقيت سطورا لامعة في مسيرة حياتنا الصحافية والاعلامية بالرغم من عدم تبنيها من قبل السلطات الفاسدة الحاكمة في اربيل وفي بغداد، ولكن احداث السنوات اللاحقة اثبتت صحتها ودقتها في تحديد مواقع الخلل وبواطن الامور والمخاوف الناشئة من الازمات والمخاطر العملاقة الناتجة عن الفساد المسلط من قبل سلطة الحزبين والعائلتين الحاكمتين على شعب الاقليم.
وخلال هذه المسيرة الشاقة الطويلة، لابد من الكشف عن بعض الشخصيات العزيزة التي تأثرنا بها وتعلمنا منها امورا مهنية صحافية واعلامية، شجعتنا على تبني النهج الصحيح وتقديم وتبني المزيد من الافكار، منها على سبيل المثال اصدار مجلة نصف شهرية سياسية عامة في العاصمة الاتحادية باسم “بغداد حاضرة الزمان”، ومن هؤلاء الشخصيات العزيزة علينا المرحوم الاستاذ اسماعيل زاير صاحب امتياز ورئيس تحرير جريدة “الصباح الجديد” الذي منحنا الخبرة المهنية الكافية والذي كلفنا بمسؤوليات صحافية مهمة عديدة كمحرر صفحات وعضو هيئة التحرير ومدير تحرير متدرب خلال فترة لم تتجاوز سنة واحدة، حيث تعلمنا واكتسبنا فيها خبرة لا يمكن اكتسابها الا بعشرين سنة، وذلك بفضل الجهود الفاعلة للاستاذ العزيز المرحوم زاير، والذي اعتبره معلمي الكبير في الصحافة والاعلام، ومن هؤلاء ايضا السادة الزملاء والاصدقاء الاعزاء الاديب والصحافي الاستاذ الشاعر والروائي عبدالرحمن الماجدي، والكاتب الصحافي شيرزاد شيخاني، والكاتب الصحفي الاديب جمال كريم، والصحفي المرحوم عبدالرحمن الباشا، والفنان الرسام القدير المرحوم احمد الربيعي، والصحفي القدير عامر القيسي، والكاتب الصحفي محمد واني، وكذلك الى السادة الصحفيين المحترمين الذين عملت معهم في جريدة “الصباح الجديد”، والسادة المحترمين الذين عملوا معنا في مجلتنا “بغداد حاضرة الزمان”، وكذلك الى المستشار الاستاذ الكاتب كفاح محمود كريم لجهوده المشكورة في ايصال بعض مقالاتنا واقتراحاتنا الى مكتب الرئيس مسعود البرزاني.
وكذلك اتقدم بالتحية الحارة والشكر الجزيل للسادة الصحفيين المحترمين بجريدة “الجمهورية” البغدادية في فترة الثمانيات (انشالله جميعهم بصحة وعافية وطول العمر) عندما كنا ننشر فيها مقالاتنا، ومنهم المحرر الصحفي محمد الجزائري مسؤول صفحة عالم الغد بالبجريدة ومسؤول تحرير ملحق طب وعلوم، واتقدم بالشكر الجميل ايضا للاستاذ موسى كريدي رئيس تحرير سلسلة الموسوعة الصغيرة التي اصدرت لنا كتيبا بعنوان “الانسان والبيولوجيا المعاصرة” سنة 1991 ضمن السلسلة.
ومن باب الاعتراف بالجميل والفضل الاعلامي لمؤسسات فضائية وجهات صحفية مميزة، لابد ان اتقدم بالشكر الجميل والتقدير العالي لكل من: جريدة “الصباح الجديد”، والجريدة الالكترونية “ايلاف” اللندنية، وجريدة “الاتحاد” البغدادية، والموقعين الالكترونين “الحوار المتمدن” التقدمي و”كتابات” العراقية، وكذلك الى الفضائيات العربية والكردية خاصة المميزة منها والتي احتضنتنا فيها لمرات عديدة طوال سنوات: “الحرة” و”سكاي نيوز عربية” و”الغد”، و”كي ان ان” و”كةلى كوردستان” الكرديتين.
وبالختام لا يسعني الا ان اتقدم بامنيات طيبة للجميع بالصحة والعافية والسلامة من الاوبئة التي بدأت تحتل مواقع لها بصدارة الاحداث في حياتنا المعاصرة، وان تنعم البشرية بالهدوء والسلام والصحة خلال احداث السنة الجديدة 2022، وان تنعم منطقة الشرق الاوسط وشعوبها والمناطق الساخنة الاخرى، بالسلام والامان وذلك من خلال جهود انسانية خيرة معززة برحمة ومباركة من رب العالمين، آمين.
والله من وراء القصد.
[email protected]