23 ديسمبر، 2024 2:06 ص

كوفيد١٩ الوباء الأشد فتكا للقيم السائدة

كوفيد١٩ الوباء الأشد فتكا للقيم السائدة

يعتقد كثير من الناس وأنا منهم ان العالم الذي يتصنع ما بعد جائحة كرونا مختلف إلى حد كبير عن العالم الراهن، حيث لم تشهد الكرة الأرضية حدثاً استثنائياً عميقا ومروعا في بنيتها السياسية والاقتصادية والفكرية كما يحدث الان هنا في كل بقاع العالم.
لعل الكثير أثار انتباهه الحجم الهائل من استنزاف الموارد والخسائر المادية بسبب الوباء، حيث تقدر التقارير خسائر أسواق المال العالمية بما يقارب ٣٠ تريليون دولار منذ تفشي وباء كرونا، وهو ما ينذر بانكماش اقتصادي عالمي غير مسبوق.
أضف الى ذلك ما يتوقعه عدد من المراقبين من اشهار افلاس العديد من الشركات والمصانع الضخمة، والتي قد نشهد غيابها للأبد مع نهايات الوباء، مترافقا مع تزايد أعداد العاطلين عن العمل والتي بلغت ٦.٦ مليون عاطل حتى مطلع شهر ابريل، منها 1.7 مليون فرصة عمل مفقودة في الوطن العربي، ولذا فإن الموضوع الاقتصادي جدير بالبحث والتدقيق لما سوف يترتب عليه من آثار واقعية شديدة وقاسية الأثر.
غير ان الأخطر من ذلك هو رصد التغيير الحاد في البنية السلوكية والمعرفية لشعوب العالم، لاحظ مثلا التحول نحو قيم الانغلاق والعزلة التي طرأت بضغط الوباء وتم القبول بها من قبل كل شعوب الارض، وهي قيمة تقف على الضد تماما من قيم الانفتاح الكوني وعالم القرية الصغيرة بل متناهية الصغر التي كان العالم المتقدم يبشر بها، ويسعى حثيثا نحو إنجازها بوصفها أحد قيم التمدن.
لقد اضافت العولمة لشعوب ودول العالم الحياة برغد من العيش، ومنحتهم فرص توفير جميع مستلزماتهم بأقل قدر من الجهد، بيد أنها تحولت كذلك إلى عبأ مرعب عليهم عندما وفرت سهولة انتقال العدوى لهم، وتبين أن سرعة انتشار العدوى تفوق سرعة حركة رؤوس الأموال، وبكل انسيابية تنقّل فايروس كوفيد-١٩ على طريق التجارة العالمي ضاربا بعرض الحائط كل مبادئ الاقتصاد الرأسمالي وساخرا من قوانين السوق، معلنا عن قوانين جديدة لم تكن من أحد اختيارات الدول الأكثر ثراء في العالم.
ولم تعد الرفاهية والنفوذ وسلطة الاقوى فقط هي التي تطل من هرم العولمة، ولكن ايضا يمكن ان يطل المرض والخطر والموت ليتنقل من دولة الى أخرى بسرعة البرق وبشكل مدهش، وكلما كانت الدولة أكثر انفتاحا ولديها إمكانات جاذبة للوفود السياحية ورؤوس الأموال كلما كانت بيئة خصبة وحيوية أمام انتشار جائحة كورونا بشكل غير قابل للتصديق.
إن قيم الانفتاح وكسر الحدود، والتبادل التجاري القاري، وتسليع الانسان والاشياء، لم تعد تشكل كل الحقيقة ومظهر الجدة والعصرية، ولم تعد السمة الوحيدة للمجتمعات السعيدة والمرفهة، وإنما اتضح أيضا ان إغلاق الحدود وتقليل المخالطة وتأمين المستقبل من الداخل والاعتماد على الإنتاج المحلي، وحماية الانسان من قلق الفناء، يعكس جزء من الحقيقة التي لا يمكن التقليل من أهميتها، بل ربما يتعدى بمراحل أهمية الاندماج الكوني.
أصبح العالم من ادناه إلى اقصاه امام هيئة كونية جديدة تفرض نمطا مختلفا من التفكير، يتركز حول القدرة على البقاء، ليعود ذات الهم الذي كانت تعيش هواجسه القبائل البدائية والتي كنا نتداول حكايتها في الكتب المدرسية، والقصص التاريخية في أوائل حياتنا المعرفية، الصراع من أجل البقاء، وأن البقاء للأقوى، هكذا افاق العالم على تصريح رؤساء دول عظمى وهم يتحدثون عن مناعة القطيع.

عولمة حضارة القطيع

استفاق العالم على حقيقة مؤلمة لكنها شاخصة، ملخصها أن الشعارات مهما بدت مبهرة إلا انها لم تعد قادرة على قيادة مسيرة الحياة، فثمة ظواهر احرقت شعارات الحضارة وربما أفنتها عن آخرها وإلى غير رجعة، وفي لحظة اختناق واحدة توحش العالم المتمدن ولم تصمد مبادئه المعلنة أمام هجمات الوباء المفترسة، وتحول حارس الأمن الأوربي إلى قاطع طريق للاستيلاء على قوافل المعدات الطبية وأدوات التعقيم بما عرف بحرب الكمامات.
تلاها إعلان عدد من المستشفيات الكبرى في الولايات المتحدة استبدال الملابس الجراحية بأكياس القمامة ومعاطف المطر، وتحدث كبير الأطباء في مركز جامعة نيويورك الطبي “واين رايلي” ان الأطباء ليس لديهم الوقت لانتظار تعويض نقص المعدات من احتياطيات الدولة، لذلك علينا أن نكون مبدعين في مواجهة ذلك النقص الهائل في المستلزمات الصحية، يجري ذلك في الدولة صاحبة موازنة الدفاع الأعلى في العالم والتي بلغت عام ٢٠٢٠م 738 مليار دولار أمريكي.
ومع كل اشراقة شمس جديدة تستمر حوارية الدول الثرية في المنطقة العربية عن عدد الأشهر التي تستطيع ان تضمن الأمن الغذائي لشعوبها، يترافق مع نقاش شبه علني حول تقليل الفزع من احتمالات المجاعة وفرص الجوع، ويشكل الأمن الغذائي في دول الخليج على سبيل المثال أزمة حقيقية، بسبب الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد من الخارج بنسبة تصل إلى 90%، وعجزها عن تأمين احتياجات سكانها من المواد الغذائية الأساسية بنفسها.
وهو ما يطرح تساؤلا عريضا حول مآل الثروات الهائلة التي كانت في حوزة الحكومات والجشعين من اصحاب رؤوس الأموال والإقطاعيين المتضامنين مع الدولة من الذين لم يكتفوا بما تم سرقته خلال أعوام الرخاء، وإنما أيضا لم يضيعوا فرصة الوباء للتخطيط والسعي نحو نهب الدولة في سبيل مراكمة أرباحهم بخفة يد تكشف انهم لصوص مال عام من الدرجة المحترفة على الرغم من مظهرهم المتمدن، والقابهم الرفيعة، لقد ساهم الوباء بأكبر عملية تجريد لمدعي الفضيلة.
خلال أيام فقط من انتشار الوباء سقطت الادعاءات وانكشف لصوص الأوطان، والمتلاعبون بمصائر الشعوب، والمتكسبون سياسيا واجتماعيا على حساب المصالح العامة، وسقطت قيم ودخلت أخرى، بما يشير إلى اننا ننتظر فتح العشرات من الملفات رغما عن انف الفساد ورعاته، وهو ما يعني أننا أمام جردة حساب ضخمة قد تطال جهات لا يتوقعها أحد وذلك لأن فايروس كوفيد-١٩ لم يستثني أحد.
لعل هذه الجائحة تختفي قريبا بإذن الله وتصبح جزء من ذاكرة هذا الجيل، ولكنها بالتأكيد ساهمت في الكشف عن العديد من المثالب في المنظومة المعرفية والقيمية السائدة والتي اعتمدها العالم وسار خلفها بثقة تامة، بما يشي ان منظومة تبادلات القيم وتحديثاتها المنتظرة ربما تكون أكثر قسوة مما يتوقعه ويترقبه بعض المحللين.