18 ديسمبر، 2024 6:37 م

كورونا والعولمة والصيند

كورونا والعولمة والصيند

غيرت جائحة فيروس كورونا أموراً كثيرة في كل العالم؛ حيث نال الدول الكبرى نصيبٌ من ويلات الفيروس المسبب لهذه الجائحة أضعاف ما أصاب دولاً كانت تُعدّ من دول الجنوب، المتخلفة منها أو التي توصف بأنها في طريق النمو. نعم فقد فوجئ سكان الأرض بأن الدول التي تمثل قمة هرم التطور التكنولوجي والصحي والوقائي والعلمي، كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ومن قبلهم الصين، انكشفت عوراتها أمام فيروس قاتل، سريع الانتشار، تسبب بإصابة أكثر من مليوني شخص، ومقتل الآلاف في العالم، جُلهم من هذه الدول التي تُمثل واجهة العالم المتقدّم والمتطور.
وأظهرت جائحة كورونا أيضاً، وبشكل جلي، محدودية نظام “العولمة” الذي أُريد له أن يُحول جميع الظواهر، محليّة وإقليمية، إلى ظواهر عالمية، تتسيدها الولايات المتحدة وبعض دول الشمال القوية، من خِلال احتكار مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، واستخدامها لإحكام السيطرة على دول الجنوب الفقيرة والضعيفة. ولكن ما انكشف جلياً أمام قادة دول العولمة القوية خلال مواجهة فيروس كورونا أن الصين هي المهيمنة على الصناعات في العالم كله، وأن توقف مصانعها فترة وجيزة أوقف الإنتاجية في العالم كله تقريباً، وهذا يعيدنا إلى عرض الصين في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في يناير/ كانون الثاني 2017، حين أعلن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، حينها، أن بلاده مستعدّة لـ”تحمّل” قيادة العالم، وجعل العولمة “صالحة” للجميع، وهو ما دفع كبار المحللين، في الولايات المتحدة تحديداً، للتساؤل عن إمكانية ظهور الصين فعلاً قائدا للنظام العالمي الجديد.
كانت الإشارة الأولى لبدايات التغيير العالمي، سقوط جدار برلين، أواخر ثمانينيات القرن
الماضي، حيث مكّن الحال العالمي وتقلُص مخاوف الحرب الباردة من توحيد النظام الاقتصادي العالمي، ثُم بروز الصين دولة حاضنة لكل مراكز الإنتاج العالمية، بسبب العروض السخية في كُلف الإنتاج المتدنية، ما دفع المنتجين العالميين إلى إنتاج (وتصنيع) أغلب منتجاتهم وقطع الغيار اللازمة لها هناك، فأصبحت الصين خلال سنوات “قلب” الإنتاج العالمي لسلع ومعدّات، بمختلف أنواعها وحجومها وعلاماتها، كما ساهمت وفرة الأيدي العاملة ورخص الأجور والمواد الأولية في انخفاض كبير في أسعار المنتجات الاستهلاكية والتصنيعية، بما وفر ملايين فرص العمل للصينيين، وأنعش الحياة الاقتصادية في بلدهم، على حساب ارتفاع كبير في نسبة البطالة في البلدان المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة.
استطاعت الصين، منذ نهاية الثمانينيات، أن يعادل حجم تبادلاتها التجارية أكثر من 35% من حجم التجارة العالمية، كما تعمّدت أسلوب الانسياب السياحي في دول أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، وذلك عبر تسهيل سفر مواطنيها السياحي إلى تلك الدول، وبأعداد مليونية، ما يعني ملايين السياح لكل دولة كل عام لتصبح نفقاتهم أحد موارد تلك الدول المهمة.
ومع ظهور فيروس كورونا، وإصابته أولاً الماكنة الإنتاجية للصين بالشلل، تحسّست الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عورات سياساتها الاقتصادية ومسؤوليتها عن توقف التصنيع في بلدانهم، ومنح الفرصة التاريخية للصين لتكون “مصنع العالم”. نعم، فقد انكشفت حكومات هذه الدول أمام شعوبها، بسبب عجزها عن توفير الإمدادات لمواطنيها من وسائل تُعد من بديهيات الوقاية الصحية والعلاجية، كالكمّامات وأجهزة التنفس الاصطناعي والملابس الواقية من الميكروبات ووسائل التطهير والمبيدات وغيرها.
ما جرى في الدول المتقدمة، العظمى خصوصا، من تبارٍ (حميد وغير حميد) في ما بينها،
“شلَّ الفيروس الإنتاج الصيني، فتحسّست أميركا وأوروبا عورات سياساتها الاقتصادية ومسؤوليتها عن توقف التصنيع في بلدانهم”
للحصول على كمّامات طبية وأجهزة تنفس وغيرها من الصين، جعل مواطني الدول الفقيرة، وتلك السائرة في طريق النمو، ينظرون بكثير من الاستخفاف إلى الهالة التي تغطي أسماء هذه الدول وصفاتها، ثم عجزها عن مواجهة فيروس يقتل شعوبها ولو بأقل الأدوات؛ كمّامات وسواها، كما جعلت حالة الفوضى والارتباك والموت الكثير أبناء هذه الدول إلى اعتبار دولهم “نمورا من ورق”، وربما هو وصف يشترك في اعتماده كثيرون، خصوصاً إذا ما اعتمدنا الأعداد الواردة من بكين بداية شهر مارس/ آذار الماضي، فقد قالت المسؤولة في دوائر الجمارك هناك، جين هاي، إن الصين صدّرت أكثر من أربعة مليارات كمامة، و37.5 مليون بزّة واقية، و16 ألف جهاز تنفس، و2.84 مليون جهاز لكشف الإصابات بفيروس كورونا، بقيم إجمالية قدّرت بأكثر من ملياري دولار، كما أصبحت صناعة الأدوية العالمية تعتمد على الصين في 80% من إنتاجها.
لن تترك جائحة فيروس كورونا العالم كما عرفناه قبل غزوها له، ويرى اقتصاديون عالميون أن بعض الحكومات الأوروبية يمكن أن تفرض سياسات تقشف قاسية على مواطنيها، بعد أن تنتهي الصيغ الحالية للعولمة بكارثةٍ دولية، ثمنها محاولة إيقاف الصين بوصفها بلدا محتكرا شبه وحيد لأكثر الصناعات العالمية. ولأن الصين التي حذر البنك الدولي، مطلع شهر إبريل/ نيسان الجاري، من تأثرها بتداعيات الاقتصاد العالمي، بما يتسبب في تراجع نموها الاقتصادي، وصولا إلى 2,3% هذا العام، مقارنة بـ6,1% في العام 2019، فإنها ستسعى، بكل قوة، من أجل إعادة وضعها الاقتصادي المتقدم عالمياً، مع انتهاء جائحة كورونا، كأقوى اقتصاد في العالم.
العالم إذن سيتغير، وستتغير معادلات السلوك الحكومي، المحلي والعالمي. وبحسب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، ستيفان م. والت، إن الجائحة ستقوّي هيمنة الدول وتعزّز توجهاتها القومية، وسنكون أمام عالمٍ، أقل انفتاحاً، أقل ازدهارًا وأقل حرية. واعتبر مدير معهد تشاتام هاوس، روبين نيبلت، أن الجائحة قد تكون بمثابة الضربة القاصمة للعولمة الاقتصادية، خصوصا أن حياد الولايات المتحدة عنها بدأ مسبقا في محاولةٍ لمجابهة تصاعد القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، فيما رأى الباحث البارز في معهد أبحاث الشؤون الآسيوية التابع للجامعة الوطنية في سنغافورة، كيشوري محبوباني، أن الكارثة العالمية لفيروس كورونا ستُحدث سرعة التغيير الذي بدأ بالفعل، وهو الحياد عن العولمة المتمحورة حول الولايات المتحدة، نحو عولمة متمركزة حول الصين.