الأزمة الوبائية لجائحة (كورونا) هي بكل تداعياتها أزمة كغيرها من الأزمات المعقدة والمركبة التي لطالما مر بها العالم بدرجات متباينة الشدة والخطورة؛ كالأوبئة.. والكوارث الطبيعية.. والحروب.. والأزمات الاقتصادية العميقة؛ والتي ستمر – لا محال – وتصبح جزءا من التاريخ؛ كجميع الأزمات التي مرت على البشرية، ولكن هذه الأزمات (لا) تمر إلا وقد أحدثت تغييرات جوهرية على كل مستويات الحياة الاقتصادية.. والاجتماعية.. والسياسية .
ولهذا فإننا اليوم مقبلون على تغييرات مهمة في تركيبة النظام ومنظومة الحياة بعد إن أربك الاستقرار العالمي وتحطم نظامه نتيجة تدهور الأوضاع الصحية.. والمعيشية.. والاقتصادية.. وانهيار أسواق العمل.. والمال.. والتجارة.. والصناعة.. والبنوك.. والمصارف.. بما اثر تأثيرا بالغا على التوازنات الدولية والإقليمية نتيجة الكساد والركود (الاقتصاد العالمي) بما أدى إلى تراجع قيمة العملات وتدهور أوضاع (الأسواق المالية) بانخفاض حاد لقيمة الأسهم في (سوق السندات) بما لا يمكن إيفاء بالتزاماتها المالية وفي دورها في ضمان (الودائع) وهذا ما يؤدي إلى تدهور قيمة (الائتمان) محليا وعالميا والذي بدوره سيؤدي سلبا إلى تجميد العمل في (الاستثمارات) وتأخير معدلات النمو والازدهار الاقتصادي .
نعم إن جائحة (كورونا) ألقت بظلالها القاتمة بشكل مباشر على طبيعة (النظام الدولي) و(النظام الاقتصادي) و(النظام المالي) وهذه المستويات أحدثت رجة عاصفة في مجمل تكتلات والعلاقات الدولية بما مهد لإحداث تغييرات واسعة في مراكز السيطرة والتحكم على مستوى النظام العالمي .
فانتشار الفيروس وفقدان السيطرة الدولية علية والحد من انتشاره؛ ترك تداعيات على (النظام الدولي)، بعد إن أجبرت كل دول العالم إلى وقف حركة النقل.. وإعلان الانغلاق العام.. والعزلة.. والتباعد الاجتماعي.. وتم إيقاف الدوام الحضوري في المدارس والمعاهد والجامعات.. كما تم إيقاف الأنشطة الثقافية.. والفنية.. والرياضة.. و كافة الاستثمارات والتبادلات التجارية العامة والخاصة وفي مختلف المجالات، وهذا ما أدى إلى تقنين (الإنتاج الصناعي) نتيجة الكساد وتذبذب الأسعار التي أصابت الأسواق المحلية والعالمية وعلى كافة أنواع ومستويات الإنتاج الصناعي، الأمر الذي اظهر للعالم اجمع مدى هشاشة النظام العالمي المعولم بـ(الرأسمالية) وبسياساته (الليبرالية)؛ ومدى ضعف قوة أدواته في مواجهة الأزمات والكوارث، بحيث لم يعد لدول (الرأسمالية) والسائرة في ركابها حلا؛ سوى وقف وإغلاق للحدود الدولية البرية والجوية؛ كإجراءات لحماية مواجهة الضغوط الطارئة التي واجهتم من انتشار وباء (كورونا) .
الإغلاق كان أول شرارة لانطلاق القيم الشعوبية والقومية
وهذا (الإغلاق)؛ كان أول شرارة للانطلاق ولتعزيز القيم (الشعوبية) و(القومية) لإعادة تشكيل (الجيوسياسية) بين دول العالم؛ وبما ما اثر سلبا على نمط العلاقات والتكتلات الدولية؛ بعد إن لم يعد باستطاعتهم إن يلعبوا أي دور بناء في مواجهة الفيروس الوبائي لـ(كورونا)؛ لا على المستوى النظام (الصحي)؛ ولا على مستوى (الاقتصادي) و(المالي)؛ ناهيك عن غيرها من القطاعات، بما احدث هذا الإخفاق إلى تغيير أنماط (العلاقات الدولية) والتي أثرت هي أخرى على العلاقات الاجتماعية داخل الدولة وعلاقاتهم بالدول الأخرى؛ وهو الأمر الذي مهد وسيمهد لإحداث تغييرات في (النظام الدولي) بعد إن برزت على السطح – بانتشار الجائحة – تنافر حادة بين (الصين) و(أمريكا) وتوترت العلاقات بينهما على كل المستويات الاقتصادية.. والتجارية.. والمالية.. وكذلك على المستوى السياسي .
الخلافات الدولية وبداية التكتلات للنظام الدولي الجديد
وكان من ابرز سمات لبروز هذا المستوى من الخلافات بين (الصين) و(أمريكا) هو تصاعد قوى كلا الدولتين على المستوى العالمي، فـ(الصين) برزت زعامتها على المستوى دول (أسيا) و(أفريقيا)؛ بينما برز دور (أمريكا) بين دول (الأوربية) وخاصة حينما استطاعت (الصين) بنجاحها في تدبير كل ما يتعلق بانتشار وباء (كورونا) عبر نظامها المركزي؛ بينما عجزت (أمريكا) من السيطرة على الجائحة؛ وهذا الأمر هو الذي عزز مكانة (الصين) ومركزها في (النظام الدولي) من خلال إستراتيجية دولة (الصين) في التعامل مع انتشار الوباء والأزمة التي خلفتها (كورونا) في كل مجتمعات العالم؛ وبما قدمته (الصين) من نموذج ايجابي في التعامل مع الوباء مجتمعيا وبشكل ناجح وملفت؛ وبما رافق في الجانب الأخر والمتمثل بـ(أمريكا) والدول (الأوربية) من ضعف الإدارة والاستجابة في التدابير الوقائية من فيروس (كورونا)، ولهذا – لا محال – سواء إذ طال أمد جائحة (كورونا) أو ما بعدها؛ فان (مركز القوى) سيتحول من (الغرب) إلى (الشرق)؛ وتحديدا إلى (الصين)؛ كقوة أسيوية ستكتسب مركزا ومكانا فعال في (توازن القوى) و(النظام الدولي)؛ الذي سيتغير – لا محال – ما بعد (كورونا)؛ وبما قدمته (الصين) من دبلوماسية بناءة لرسم إستراتيجية دولية يحسب إيجابا لها؛ بعد إن بادرت بتقديم مساعدات طبية للبلدان التي اجتاح فيها الوباء وفقدت الدول السيطرة عليها؛ فبادرت بحسن النية إرسال دعم لوجستي وفرق طبية للسيطرة على انتشار الوباء؛ وهذا ما فعلته باتجاه كثير من البلدان (الأوربية) التي أخفقت في معالجة الأزمة الوبائية وتحديدا (ايطاليا) و(اسبانيا) إضافة إلى الدول (الإفريقية) .
تغيير الخارطة السياسية ومراكز القوى في العالم
لنستشف من خلال هذه الحقائق والتي أفرزتها جائحة (كورونا) بكون هذه الأزمة الوبائية ستسهم في تغيير الخارطة السياسية ومراكز القوى في العالم؛ بعد إن غلب عليها الصراعات والنزاعات الدولية وغاب عنها التعاون الدولي السليم؛ وخاصة بعد هذه الأزمة الوبائية التي أربكت الاقتصاد العالمي وبرز حاجة الدول إلى منتجات وصناعات ومستلزمات الطبية التي انهار توريدها في ظل تزايد الطلب عليها اثر انتشار وباء (كورونا) وصعوبة إيجاد بدائل لها، الأمر الذي خلق نوع من إرباك وعدم التوازن والاستقرار لسد احتياجات الدول بما عرضها لصدمة غير متوقعة وفجائية نتيجة هشاشة النظام (الرأسمالي) بعولمته وليبراليته التي أخذت تتفرج على مشهد انتشار الوباء المعدي بدم بارد عاجزة من وضع حلول فورية لمعالجة الأوضاع المتدهور؛ بل أظهرت مؤسساتهم الدولية المتمثلة بـ(الأمم المتحدة) وهيأتها المتخصصة؛ ومنها (منظمة الصحة العالمية) قصور أدائها وعجزها في مواجهة جائحة (كورونا) والتهديد الذي عرض السلم والأمن الدولي إلى مخاطر حقيقية؛ وذلك لعدم استجابتها السريعة للوقاية والحد من انتشار الوباء وعدم تقديم بيانات صحيحة؛ بل إن اغلب ما كانت تقدمة اثر انتشار الجائحة اقتصر على نصائح وإرشادات لا تقدم ولا تؤخر من شيء؛ إن لم نقل اغلبها كانت خاطئة وغير صحيحة؛ بكونها لم تستطع تحديد مصدر الوباء ومسبباته وبكيفية انتشاره السريع في كل أنحاء العالم؛ بالإضافة إلى ارتباك في إعطاء معلومات غير دقيقة حول اللقاحات؛ ولهذا وجه لها انتقادات وخاصة من (أمريكا) التي تساهم بحدود (عشرين بالمائة) من ميزانية (منظمة الصحة العالمية)، وكذلك وجه لها انتقادات من (الهند) و(البرازيل) و(اليابان) وغيرها من دول العالم التي تمول هذه المنظمة، بل إن ارتباك لم ينحصر في توجيه النقد إليها بل قامت (أمريكا) الانسحاب من دعمها .
تفكيك دول الاتحاد الأوربي والولايات التابعة لأمريكا
فالإرباك في المشهد الدولي امتد بين تفكيك التضامن الدولي وخاصة بين دول (الاتحاد الأوربي) أو بين كل ولاية من الولايات التابعة لـ(الولايات المتحدة الأمريكية)؛ والتي قامت كل (دول) من دول (الاتحاد الأوربي) وكل (ولاية) من (الولايات المتحدة الأمريكية) انفرادا بإغلاق حدودها واتخاذ إجراءات العزل والوقاية وانكفاء كل دولة و ولاية ضمن حدودها بعيدا عن الاتحاد؛ سواء بين دول (الاتحاد الأوربي) أو بين الولايات التابعة لـ(الولايات المتحدة الأمريكية)، وقد انطلقت أول شرارة تفكيك دول (الاتحاد الأوربي) بخروج (بريطانيا)؛ وإذ ما تعمقت الأزمة الوبائية والاقتصادية وتوسعت النزعات الشعوبية والقومية بين دول (الاتحاد) فان أمر لا محال سنشهد خروج دول أخرى من (الاتحاد الأوربي).
اما في إمكانية تفكيك (الولايات المتحدة الأمريكية التي تضم خمسين ولاية) بعد أن توسعت النزعة الشعوبية.. والتمييز العنصري والطبقي.. وانقسام الشعوب (الامريكية) في الانتخابات الأخيرة 2020 ؛ التي أدت إلى توسيع رقعة هذه الانقسامات بين (الحزب الجمهوري والديمقراطي) وقد عكست سلبا وتعمقت هذه الخلافات بين الولايات بما سيؤدي إلى تفكيك (ولايات المتحدة الأمريكية) كما تفكك (الاتحاد السوفيتي) السابق، فكل المؤشرات الأوضاع القائمة اثر الانتخابات (الأمريكية) الأخيرة؛ إضافة على ما أفرزته جائحة (كورونا) من تداعيات خطيرة اثر تأثيرا بالغا على المستوى الاقتصادي بين الولايات (الأمريكية)؛ بما وسع هوة التفكيك (الولايات المتحدة الأمريكية) بعد إن تجددت دعوات المواطنين لبعض الولايات كولاية (كاليفورنيا) و(واشنطن) و( اريجون) و(كارولاينا الجنوبية) و(تكساس) و(ألاسكا) و(فيرمونت) و( كنتاكي) و(بنسلفانيا) و(جورجيا) و(ويسكونسن) و(ماساتشوتسن) و(برتوريكو) وغيرها من الولايات؛ التي ظلت تطالب بالانفصال على مر السنوات السابقة؛ وتم تجديد هذه المطالبات في هذه المرحلة التي تعم في (الولايات المتحدة الأمريكية) الفوضى والاضطرابات نتيجة تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو أمر لا محال سيحدث خلال الحقبة القادمة؛ فالتفكيك سينشئ إما بين اثنين أو ثلاثة أو حتى خمسة ولايات ليشكلوا فيما بينهم دولة تستقل عن (الولايات المتحدة الأمريكية)، وكل مؤشرات التفكيك اليوم يتسع في (الولايات المتحدة الأمريكية)، وهذا ما أدى إلى ارتجاج دعائم الوحدوية سواء في دول (الاتحاد الأوربي) أو بين ولايات (الولايات المتحدة الأمريكية) نتيجة تداعيات الأزمة الوبائية؛ ليعاد الاعتبار إلى الدولة القومية وبروز النزعة الشعوبية والعنصرية والطبقية .
وهنا يجب أن نؤكد بان (الصين) لعبت في تعميق هذه الإبعاد بين دول (الاتحاد الأوربي) أو حتى بين الولايات التابعة لـ(الولايات المتحدة الأمريكية) بعد إن أظهرت لهم بكونها الجهة المساندة والمساعدة إنسانيا في وقت الأزمات رغبة منها لتوسيع نطاق التحولات الجيوسياسية في دول (الاتحاد الأوربي) بل وحتى بين ولايات (الولايات المتحدة الأمريكية) من اجل تحقيق مآرب سياسية ومصالح تقوية نفوذها في (النظام الدولي) الجديد الذي سيعقب بعد مرحلة ما بعد (كورونا) .
ولهذا فان أرادت دول (الاتحاد الأوربي) أو (الولايات المتحدة الأمريكية) تجنب هذا الارتباك وهذا التفكيك وهذا التدخل الخارجي في شؤونهم الاتحادية الداخلية؛ لا بد لهم العمل الجاد في ترميم أماكن الخلل في اقتصادياتهم ومؤسساتهم الصحية والاجتماعية والسياسية؛ وذلك في بناء قطاع الصناعة الصحية عبر التضامن في شؤون الوقاية الصحية وكافة مستلزمات وشؤون قطاع الصحة؛ ورفع مستوى المعيشة للوصول الاتحاد سواء في (أوربا) أو (أمريكا)؛ إلى مرحلة الجيوسياسية متماسكة بينهم ومتكاملة وبإستراتيجية موحدة وعليهم الاستفادة والاستيعاب من مخاطر هذه الجائحة التي هددت أمنهم واستقرارهم ووحدتهم واقتصادياتهم وبعد إن أضعفت قدرتهم التي أصبحت رهينة ابتزاز من الممولين والمانحين في مجالات التي ظهر فيها العجز وخاصة في مجال الصناعة الطبية والصحية والدوائية .
مسار التغييرات خلال العشرين سنة القادمة وتحطم النظام الدولي
ومن هنا تبرز دور إصلاح مؤسسات الدولية في كل دول العالم لتكون أكثر قدرة وكفاءة وصمود واستجابة في حالة اشتداد ومداهمة الأزمات والنكبات؛ كما برز اثر انتشار وباء (كورونا)، لان كل ما نستشف منه هنا؛ بان الكوارث حين تحل بالمجتمعات البشرية سواء كانت (حروب) أو (أوبئة) أو (كوارث طبيعية) تنعطف فيها مسارات التغييرات على كل الاتجاهات؛ تتغير الأنظمة.. وتتفكك خارطة الدول.. ويختل قوى التوازن الدولي.. وأقطابه.. ومنظومته.. والعلاقات الدولية.. وهو أمر طبيعي في مسار (التاريخ) وان المنتصرون – كما يقال – هم من سيكتبونه .
فالتغييرات التي يتوقع إن تحدث اثر انتشار هذه الجائحة والآثار المدمرة التي أحدثته في عالمنا وعلى كل المستويات؛ فان قطبية (النظام الواحد) الذي تحتله اليوم (أمريكا) سيشهد تحديات لا حصر له؛ في ظل أزمة هذه المرحلة الوبائية الخطرة، ورغم تحدي الذي ستواجهه من قيادة (الصين) و(روسيا)؛ إلا إن إمكانيات (أمريكا) الهائلة وعلى كل مستويات الصناعية.. والتكنولوجية.. والبشرية.. والصناعة العسكرية والمدنية التي تمتلكها اليوم سيمكنها من التكيف مع واقع الأزمة بخلاف أية دولة أو نظام أخرى على الأقل خلال العشرين سنة القادمة؛ ريثما تصعد على قطبية العالم بثنائية مع قطب (أمريكا) و(الصين) أو قطبية متعددة مع (روسيا) و(دول الاتحاد الأوربي) و(الصين)، لان النظام الدولي منذ (الحرب العالمية الثانية) لم يواجه تحدي مثل الذي يواجهه بتداعيات جائحة (كورونا) التي بما أفرزته من ارتباك وإخفاق منظومة الحياة الصحية.. والاقتصادية.. والاجتماعية.. أعطت مبررات من جدوى التي شكلت وفرضت بالقوة على المنظومة القطبية الأحادية لـ(أمريكا)؛ بعد إخفاقاتها في مواجهة الأزمة الوبائية لـ(كورونا) وتحديدا في الجانب (الاقتصادي) و(الصحي)؛ وهذا ما سيمهد للمرحلة القادمة لقيام صراعات وإعادة ترتيب وبناء القوة من اجل تعددية الأقطاب ورسم جديد لمعالم النظام وزعامة العالم ليتم تقسيم النفوذ وخلق توازنات من جديد .
وهذا سيكون خلال الحقبة القادمة أي خلال العشرين سنة المقبلة بعد القضاء على فيروس (كورونا)؛ لان احتواء الوباء لا محال ستكون له تداعيات واسعة النطاق و سيؤدي إلى تحولات على مستوى السياسي.. والاجتماعي.. والاقتصادي.. والتي لا تظهر آثارها في هذه المرحلة إلا بعد أن تتسع رقعة الانكفاء القومي والشعوبية والعزلة؛ وعلى الأمد الطويل سيكون توجهات المجتمعات البشرية إلى تطوير هذه المشاعر إلى (براغماتية) ستخلق نظم جديدة وسيعاد التفكير في كل مناحي الحياة وستعيد إنتاج توجهاتهم بما استفادوا من تجارب إخفاقات هذه المرحلة الوبائية؛ ليتم تأمين الدعم واخذ كل الاحتياطي من الموارد وخاصة الصحية والاقتصادية بما سيؤدي إلى تغيير سياسات الدول داخليا وخارجيا؛ لان توجه الدول نحو الانغلاق سيعزز في المجتمعات كافة؛ روح الاستقلالية والتحكم في المصير، بعد إن تعلمت مجتمعات دول العالم من أخفاق استراتيجياتها والتكيف مع الوباء لرسمها بالشكل الذي تواكب تطورات المرحلة ما بعد (كورونا)، بعد إن اخفق (النظام العالمي) إخفاقا سافر في إيجاد علاجات فورية للوباء (كورونا) القاتل، إذ ظلت كل دول العالم دون استثناء وخاصة المتطورة صناعيا وتكنولوجيا تتراوح في مكانها بعد مرور أكثر من عام على انتشار الوباء، وما زال (الوباء) يفتك بالبشرية وينتشر بشكل أكثر قسوة وفتكا منذ بداية انتشاره؛ من دون وجود علاجات ووقاية منه؛ فقد بلغ عدد الوفيات لحين أعداد هذا المقال في كانون الثاني لعام 2021 بما تجاوزا حدود (مليوني) إنسان؛ بينما ارتفع عدد الإصابات بحدود (مئة) مليون إصابة، وما زال العدد في تصاعد مريب؛ على رغم يقين كل المنظمات الدولية والدول الكبرى المهيمنة على منظوم الحياة في العالم بان كل المؤشرات هذا (الوباء) توحي بمدى تأثيره السلبي على الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ والذي بدوره سيرفع سقف الخلافات الدولية لدرجة التي سيترتب عنها قيام قوة دولية تغير (النظام الدولي) بعد إن اخذ (النظام الدولي) الحالي يتحطم سياسيا.. واجتماعيا.. واقتصاديا؛ بما كان لا يمكن تخيله قبل هذه المرحلة الوبائية .
العالم يدخل المرحلة الثانية من الحظر رغم ظهور العلاجات
إذا (الاقتصاد العالمي) جر كل المؤسسات التي ترتبط به بهذا الشكل أو ذلك من (البنك المركزي) و(صندوق النقد الدولي) و(البورصات المالية) إلى حالة من أرباك نتيجة تأثر هذا القطاعات بجائحة (كورونا) والإجراءات التي اتخذتها حكومات الدول والمؤسسات (الصحية) لحد من أنشار الفيروس وتخفيف من حدة تداعيات الوباء؛ سواء عبر الإغلاق العام.. وحظر تجوال.. وإيقاف العمل.. والتباعد الاجتماعي.. ومنع التجمعات.. وتعطيل الدوام في المصانع.. والدوائر.. والمدارس.. ومؤسسات الثقافية.. والفنية.. والأنشطة الرياضية.. ومؤسسات الترفيهية، مع قيام الدول باتخاذ سلسله من حزم الدعم لكل القطاعات الصناعية العامة والخاصة؛ وشملت تأجيل وإعفاء سداد الضرائب وتقديم مساعدات للقطاعات المتأثرة بالأزمة؛ وكذلك تقديم حزمة من مساعدات للأسر والشركات المتضررة؛ وكذلك بتقديم قروض بفوائد منخفضة من أجل إنعاش الاقتصاد؛ ولكن أمر هذه القروض عرض النظام المصرفي في ظل هذه الأزمة إلى مخاطر رغم إن هدف هذه الإجراءات تأتي في هذه المرحلة الوبائية للحد من الأضرار (الاقتصادية) ولعدم دخوله في مرحلة الركود – إن لم يدخل فعلا إلى مرحل أكثر شدة من الركود اقتصادي عالمي من كل المراحل السابقة – والذي لا محال سيؤثر على معدل البطالة.. والتضخم.. والإنتاج المحلي.. ومعدل النمو.. الذي كلف الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار وذلك عبر مؤسسات المالية من (صندوق النقد الدولي) ومؤسسات ضمان الودائع بتخمينات بأن الركود السلبي في الربع الأول من عام 2020 سيتم تعويضه على الفور في الربع الثاني، ولكن هذه المراجعات ربما كانت متفائلة بكون العالم سيسيطر على الفيروس خلال أربعة أشهر من بداية انتشاره – ولكن هذه التوقعات لم تتحقق – ولهذا فان مؤشرات اليوم تؤكد بان الوباء مازال ينتشر وان العالم دخل (المرحلة الثانية) من الحظر بشكل أسوء من المرحلة الأولى؛ بعد إن انتشر الجيل الثاني من فيروس (كورونا) القاتل وتحديدا في (بريطانيا)؛ من دون وجود أي مؤشر لنهاية قريبة لهذا الوباء القاتل رغم وجود عدد من أنواع اللقاحات كلقاح (فايزر) و(بيونتيك) و(سبوتنك الروسي) و(كورونافاك الصيني) ولقاح أكسفورد (استرازينيكا البريطاني)، وهذا الأمر زاد من فقدان ثقة (المستهلك) و(المستثمر) بعد إن تراجع الاستهلاك في كل القطاعات الخدمية؛ بل و مازال في دوامة التراجع في قطاعات المطاعم.. والسياحة.. والسفر.. والمصانع الصغيرة.. وهذا ما يفسر بكون السلع الأساسية معرضة لخطر تراجع بشكل مستمر؛ مع ضعف العوائد التصديرية.. وتباطؤ نمو (الاقتصاد العالمي).. وتراجع محتمل للصادرات (النفطية)؛ وهو ما يؤثر على قطاع الصناعات (البتروكيمائيه)، الأمر الذي سينتج عنه الدخول في مرحلة حرجة من الركود الشديد نتيجة ارتفاع الأسعار مع ارتفاع نسبة البطالة؛ وهذا ما اثر سلبا وبشكل حادا على (الأسواق المال والمصارف) بما أدى إلى تراجع قيمة (الائتمان) على الصعيد العالمي، الأمر الذي سيؤثر أيضا بتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي في كل بلدان العالم؛ لان اغلب الشركات في العالم أوقفت الإنتاج أو الاستثمار بكونها لم تعد تستطع إيفاء بالتزاماتها مع (البنوك)؛ وهذا الأمر اثر تأثيرا بالغا على اغلب (بنوك العالم) بهذه الأزمة الوبائية؛ بعد إن انتقلت فعلا الأزمة المالية إلى (البنوك) والقطاع (المصرفي)؛ وبعد إن شهد الاقتصاد للبلدان النامية والصاعدة ارتفاع مستويات ديونها نتيجة الأزمة الوبائية ودخول العالم في (أزمة مالية) خانقة؛ وهو ما جعلها عرضة للضغوط المصرفية والمالية؛ وهذا ما خلفته تداعيات الركود الاقتصادي بعد تقليص الاستثمار.. وتآكل رأس المال.. وتصاعد معدل البطالة.. الأمر الذي سيجر معها تصاعد حدة الأزمة المالية وانهيار أسعار النفط .
وكل هذه التداعيات تتطلب وضع برامج مستقبلية لإصلاح مؤسسات الدول و(النظام الدولي) وعلى كل المستويات؛ لتحسين اطر العمل بعد نهاية جائحة (كورونا) لتمهيد أفق الإصلاح على المدى البعيد بآليات تستجيب بسرعة للأوبئة والوقاية منها؛ الأمر الذي يتطلب دعم قطاعات الصحة.. والأبحاث العلمية المتعلقة بالأوبئة.. لتكون تداعيات هذه المرحلة عبرة لرسم صورة المستقبل بأفق يزهو بالنمو والازدهار لترفل المجتمعات بأمن وسلام دون الاحتكار وتسلط المنظومة (الرأسمالية) على قرارات تتعلق بمصير ومستقبل الشعوب و أمنهم ورفاهيتهم .