ولد الكاتب فلاديمير غالاكتيونوفيتش كورولينكو عام 1853 في عائلة من اصول اوكرانية- بولونية بمدينة جيتومير الاوكرانية في الامبراطورية الروسية, وكان والده قاضيا شهيرا يتميز بالاستقامة والنزاهة في تلك المدينة , وفي عام 1871 التحق بمعهد التكنولوجيا في بطرسبورغ , وفصلوه بعد ثلاث سنوات من الدراسة فيه بسبب اشتراكه في الحركات الطلابية واحتجاجاتها,وانتقل للدراسة في موسكو ولقي نفس المصير, وهكذا بدأت رحلته بين المنافي وانتهت في سيبيريا لانه رفض اداء يمين الولاء للقيصر الجديد, وعاد الى مدينة نيزني نوفغورود عام 1885 وبقي فيها عدة سنوات , وهناك ابتدأ طريقه الابداعي, حيث نشر الكثير من القصص القصيرة والطويلة والروايات واهمها واشهرها روايته ( الموسيقي الاعمى ), و التي تم طبعها 15 طبعة اثناء حياته وتم ترجمتها كذلك الى العديد من اللغات الاجنبية في حينها, اما بالنسبة لترجمتها الى اللغة العربية , فقد قام المترجم السوري الشهير الدكتور سامي الدروبي بترجمتها الى العربية وارسلها الى دارالنشر السوفيتية ( بروغريس ) ( التقدم) في حينها واقترح عليهم نشرها دون مقابل , وهي مبادرة تاريخية من قبل المترجم العربي الكبير لا زال عطرها فوٌاحا و لازالت تتحدث الاوساط الادبية عنها, ومن الطريف ان نذكر هنا ان هذه الرواية قد اصبحت آنذاك الكتاب المنهجي المقرر للمطالعة في المدارس السورية وتم طبع 275 الف نسخة منها, وعندما علم الدكتور الدروبي بذلك قال ان هذه اكبر مكافأة ينالها في حياته اذ ان ترجمته لهذا الكتاب دخلت كل بيت في سوريا, وأظن ان كورولينكو كان سيقول الشئ نفسه لو كان آنذاك على قيد الحياة . وظهرت بالعربية ترجمة اخرى لهذه الرواية قام بها الدكتور محمد القٌصاص, ولم نستطع – مع الاسف – الاطلاع عليها. وتحولت هذه الرواية القصيرة ايضا الى فلم سينمائي انتجته السينما السوفيتية عام 1960 وحازالفلم هذا على نجاحات كبيرة في حينها. تتناول الرواية حياة موسيقي اعمى توفرت له كل متطلبات الحياة من رعاية وحنان وحب وموسيقى وثروة..الخ, ولكن كل ذلك لم يستطع انقاذه من تلك العتمة التي كان يشعر بها نتيجة فقدانه البصر, وبالتالي لم يكن يعرف معنى السعادة , وهي الهدف الذي يرى كورولينكو انه ضروري للانسان ( مثل التحليق للطيور), وهناك نتاجات اخرى له اشتهرت ايضا وتم ترجمتها الى اللغات الاجنبية الاخرى بما فيها لغتنا العربية مثل ( حلم ماكار ) و ( ضجيج الغابة ) وقد تم ترجمتها ايضا بعنوان ( حفيف الغابة ) وهو ألاصح, وقد ابتدأ كورولينكو بتأليف نتاج في بداية القرن العشرين يترجموه عادة بعنوان – ( تاريخ احد معاصرٌي) واظن انه يجب ان يترجم بعنوان – ( قصة احد معاصٌري ), وهو كتاب يتضمن مزيجا من ادب المذكرات والذكريات ونسيج الرواية وسردها , ويعٌده الباحثون والنقاد نتاجا مماثلا لما قدمه تولستوي في ثلاثيته المعروفة ( الطفولة / الصبا / الشباب) او ثلاثية غوركي ( الطفولة / بين الناس / جامعاتي ), وقد اصدر كورولينكو ثلاثة اجزاء من ذلك النتاج الكبير, الا ان الموت لم يمهله ولم يستطع انهاء الجزء الرابع والاخير منه.
توجد لدى كورولينكو جوانب ابداعية اخرى ترتبط بمساهمته الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية لروسيا وما جرى فيها من احداث كبيرة , وكانت له مواقف معروفة وشجاعة تجاهها,وكانت السلطات الحكومية تخشى قلمه, وقد استقال من اكاديمية العلوم احتجاجا على طرد مكسيم غوركي منها( وتضامن معه في حينها تشيخوف),وكان دائما في صفوف المعارضة ومع حركات المظلومين والمضطهدين وضد مختلف الاتجاهات العنصرية والشوفينية, وعندما حدثت ثورة شباط 1917 أيدها علانية , وكذلك أيد ثورة اكتوبر 1917 في بدايتها, ومن الوقائع الطريفة في تاريخ روسيا , ان اسم كورولينكو قد جاء في استفتاء حول – ( من يكون اول رئيس جمهورية روسية ؟)وقد كان من بين الذين أجابوا عن هذا السؤال لوناجارسكي, والذي أشار الى ان كورولينكو جدير بهذا المنصب, ولم يكن هذا رأي لوناجارسكي وحده , الا ان موقفه اللاحق من ثورة اكتوبرقد حال بالطبع دون ذلك , اذ شجب كورولينكو الاساليب القمعية للبلاشفة في بناء الاشتراكية وفضح وحشية الحرب الاهلية من قبل كل الاطراف ( بما فيهم البلاشفة ) انطلاقا من الموقف الانساني للكاتب في الدفاع عن حرية المواطن وكرامة الانسان وحقوقه , وقد انعكس هذا الموقف في كتاباته , وخصوصا في – ( رسائل الى لوناجارسكي) 1920 , وفي – ( رسائل من بولتافا ) 1921, وقد هاجمه لينين هجوما قاسيا وبقوة عام 1919 في رسالة وجهها الى مكسيم غوركي, والتي أشار فيها الى كتيب كورولينكو الموسوم – (الحرب ,الوطن , الانسانية ) واعتبره دفاعا عن ( الحرب الامبريالية) , وكان لينين يعني الحرب العالمية الاولى ( 1914-1918 ), وقال في رسالته تلك ان موت 10 ملايين من البشر في تلك الحرب قضية تستدعي التعاطف والتأييد من قبل هؤلاء ولكن موت مئات الالاف في حرب اهلية عادلة ضد الاقطاعيين والراسماليين تثير الهستيريا والتنهدات لديهم , وأختتم لينين رسالته الى غوركي قائلا , انه لا يمانع في ان يضع مثل هؤلاء في السجون لعدة اسابيع اذا كان هذا العمل ضروري للتحذير من المؤامرات التي تستهف الثورة بغض النظر عن تاريخ هؤلاء العباقرة. وكان كورولينكو يعرف هذه المواقف ولكنه لم يتردد من الاستمرار باعلان مواقفه تلك, ويمكن القول انه استمر هكذا الى النهاية مناضلا من اجل الدفاع عن مفاهيمه التي كان يؤمن بها عن قناعة ونتيجة لمسيرة طويلة من النضال من اجل الحرية والحقيقة لدرجة ان بعض الباحثين قد اطلقوا عليه تسمية – ( ضمير روسيا) , وأسماه احد النقٌاد – ( ممثل الراديكالية المثالية في الادب الروسي ), وقال ناقد آخر عنه مرة , ان كورولينكو كان يمكن ان يصبح أبرز اديب روسي في مجال القصة لولا وجود تشيخوف, أما تولستوي فقد قال له انه ( يغبطه !!!) لانه يمتلك خبرة طويلة وعميقة في مسيرته الحياتية النضالية, والتي لا يمتلكها تولستوي نفسه.
والخلاصة , فان كورولينكو يعد واحدا من عمالقة الادب والفكر الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين , وهو يشغل في الوقت الحاضر مكانته المتميزة في تاريخ هذا الادب. واختتم هذه السطور الوجيزة حول كورولينكو بكلمات مكسيم غوركي عنه – ( لقد كرٌس كورولينكو نفسه لقضية العدالة لدرجة وكأنه كان يراها ويتحسسها…رغم انها كانت شبحا..)