منذ عام 2003 وحتى اليوم، لم تنجح الطبقة الحاكمة في بغدادالمتمثلة بقوى “الإطار التنسيقي” في بناء نموذج حكم يحترم الدستور، أو يلبّي الحد الأدنى من تطلعات العراقيين. في المقابل، استطاع إقليم كوردستان، رغم التحديات البنيوية والضغوط الإقليمية، أن يقدم نموذجاً أكثر تقدماً في الإدارة السياسية، وتطبيق القوانين، وجذب الاستثمارات، والتموضع الإقليمي، ما يطرح سؤالاً مشروعاً: لماذا تقدّمت أربيل وتأخرت بغداد؟!.
الأداء السياسي: التأسيس مقابل الاجترار
السياسيون في إقليم كوردستان يقدّمون أنفسهم كصنّاع سياسات ومفاوضين محترفين، يتعاملون مع القضايا الكبرى بمنطق الدولة، لا بمنطق الطائفة أو الثأر أو الماضي. هم يدركون أن السياسة فن الممكن، وأن الاستقرار والإنتاجية يتقدمان على النزاعات الأيديولوجية. أما القوى الحاكمة في بغداد، فغالباً ما تنكفئ إلى خطاب رجعي يتغذّى على ذاكرة الصراع، وأسطوانة “التهديد البعثي”، التي أكل عليها الزمن وشرب، لكنها ما زالت تُستخدم لمغازلة جمهور مغيّب ومشدود إلى خطاب التخويف والبكائيات التاريخية.
قضايا استراتيجية: أين الرؤية ؟
في الوقت الذي يتحدث فيه مسؤولو الإقليم عن الطاقة، والاقتصاد الرقمي، والانفتاح الإقليمي، ووضع سياسات تعليمية طويلة الأمد، لا يزال السياسيون في بغداد منشغلين بقضايا مثل “المقاومة”، ومقارعة “المؤامرة الغربية”، وتثبيت “الحق المذهبي”. وبينما تسعى أربيل لشراكات استراتيجية مع شركات عالمية مثل توتال الفرنسية وشيفرون الأميركية، تكتفي بغداد بتصريحات نارية لا تسمن ولا تغني من جوع، وعقود فاسدة تشوبها رائحة الصفقات، دون رؤية متكاملة أو خارطة طريق واضحة.
الدستور: بين النص وروح القانون
في الإقليم، يُعامل الدستور بوصفه وثيقة مرجعية تنظم العلاقة بين العاصمة الفيدرالية والإقليم، ويُحتكم إليه في حل النزاعات السياسية والإدارية. مؤسسات الإقليم، على الرغم من التحديات، تلتزم نسبياً بما ورد فيه من مواد تخص الفيدرالية واللامركزية والتوزيع العادل للثروات. في بغداد، يُنتهك الدستور يومياً، سواء عبر تغييب المحكمة الاتحادية لصالح فتاوى فقهية، أو عبر تجاهل العديدمن الدستور، أو الاستفراد بقرارات تتناقض مع بنية النظام الفيدرالي. ولعل أخطر مظاهر الانتهاك هو استخدام الدستور كأداة للمساومة السياسية، لا كأساس تعاقدي بين المواطن والدولة.
الفساد: جائحة بغداد
في بغداد يُنهب المال العام بلا رادع، يكفي أن نذكر ملفات “سرقة القرن”، أو مزاد العملة، أو ملفات شركات النفط الوهمية، أو التعيينات الوهمية، أو شبكات التهريب الجمركي، التي تحولت إلى اقتصاد ظلٍّ موازٍ للدولة. في المقابل، لا نقول إن الإقليم خالٍ من الفساد، لكنه مضبوط بآليات مؤسسية، ومحكوم بضغط شعبي، وإعلام له هامش معقول من الحرية، وسقف قانوني واضح. وهذا ما جعل الفساد هناك أقل تأثيراً وأصغر حجماً، ويُواجه غالباً بحملات مساءلة ومحاسبة علنية.
الاستثمارات: شمال يجذب وجنوب ينهشه السلاح والعمولات
تشهد كوردستان تدفقاً استثمارياً ملحوظاً، في الطاقة والسياحة والبنية التحتية والعقار والزراعة، مدفوعاً بسياسات تشجيعية واضحة المعالم، وقوانين جاذبة، واستقرار كبير في البيئة الأمنية. أما العراق الاتحادي، فيعاني من بيئة طاردة للاستثمار، بفعل غياب الاستقرار، استثراء الفساد واستجداء العمولات، وتغوّل الميليشيات، وتداخل الصلاحيات بين الدولة والدولة الموازية، وغياب الحوافز القانونية والمالية التي يمكن أن تقنع المستثمر المحلي أو الأجنبي بالمجازفة.
الشفافية: حيث يضيء الإقليم ويغرق المركز في العتمة
من السهل أن تطلع على موازنة كوردستان، أو أن تصل إلى بيانات وزاراتها، أو تحضر مؤتمراً صحفياًُ لوزير يقدّم أرقاماً ومؤشرات. أما في بغداد، فكل رقم محاط بجدار من الغموض، والقرارات تُمرّر في الغرف المغلقة، والتقارير الرقابية إما تُطمس أو تُشترى أو يُساوَم عليها، حتى الوزارات السيادية تعاني من فوضى إدارية تجعل من الشفافية مادة للتندر، لا للمحاسبة.
الخطاب الإعلامي: بين الوحدة والتحريض
الإعلام الكردي، رغم خصوصيته القومية، إلا أنه يتبنى خطاباً مسؤولاً، يركز على التنمية، والبناء، والتعايش، ويساهم في تهدئة الشارع بدلاً من تأجيجه. في المقابل، الإعلام التابع لقوى الإطار يعزف على أوتار الطائفية، ويفرّق بين العراقيين، ويوظف الكراهية كأداة للتحشيد، ويمنح الميليشيات منابر شرعية للتبرير والتهديد والتهويل. الفرق واضح بين من يريد بناء دولة، ومن يريد تصفية حسابات تاريخية لا تنتهي.
مكانة دولية: الاحترام لا يُشترى
وفود الإقليم تحظى باحترام في العواصم الدولية. سياسيون كُرد التقوا قادة كباراً في أوروبا وأميركا والأمم المتحدة، وشاركوا في مؤتمرات دولية، وقدموا الإقليم بوصفه شريكاً عقلانياً في المنطقة. بينما تراجع احترام بغداد بشكل مقلق، حتى الدول العربية تتردد في بناء علاقات مؤسساتية مع حكومة تُدار أحياناً من خلف الستار، ويتحكم بها السلاح المنفلت، ويُسيطر عليها خطاب عدائي تجاه محيطها العربي.، ولعل “قمة بغداد“ خير شاهد.
الملف الإنساني: النازحون مثالاً
احتضن إقليم كوردستان نحو مليوني نازح ومهجر من باقي المحافظات، هُجّروا بفعل بطش الميليشيات، واستُقبلوا دون قيد أو شرط، وتوفرت لهم فرص التعليم والخدمات والرعاية. في المقابل، فرضت بعض المحافظات قيوداً على دخول النازحين، وطلبت “كفيلاً أمنياً”، في مشهد يعكس عمق الانقسام المجتمعي الناتج عن خطاب الكراهية، ويؤكد أن الدولة في الجنوب والوسط باتت رهينة المزاج الطائفي، لا القانون.
اعترافات الإطار: فشل معلن وبقاء مريب
رغم كل هذا الخراب، لا يزال زعماء الإطار يصرّون على البقاء، رغم اعترافهم بالفشل في إدارة الدولة. نوري المالكي قالها صراحة: “فشلنا في إدارة الدولة”، وهادي العامري أقرّ بالحاجة إلى تغيير الوجوه. كأنهم لا يرون في العراق إلا وسيلة لإعادة إنتاج سلطتهم، لا مشروع وطن. الفارق أن الإقليم، ورغم خلافات أحزابه، لا يزال يعتمد خطابات مسؤولة تحترم قواعد اللعبة الديمقراطية وتسعى لتجديد النخب، بينما يتشبث زعماء الإطار بتاريخهم كأنه قدر لا فكاك منه.
الخلاصة:
من الواضح أن الفرق بين أربيل وبغداد لم يعد مجرد فجوة، بل أصبح صدعاً حضارياً في الأداء والتفكير والموقع. كوردستان، رغم التحديات، تحاول بناء نموذج مؤسسي وديمقراطي. أما بغداد، فمختطفة من قبل من لا يرون في الدولة سوى غنيمة، وفي المواطن سوى تابع، وفي الدستور سوى ورقة تفاوضية. ولهذا، سيبقى الإقليم متقدماً بمئات السنين على بغداد، ما لم تُستعاد الدولة من خاطفيها.