23 ديسمبر، 2024 12:05 ص

كوردستان بين ضرورة التحديث و إيقاع الحداثة

كوردستان بين ضرورة التحديث و إيقاع الحداثة

بما أن الحداثة أمر مختلف كلیاً عن التحدیث، لأن الأخیر هو نوع من الأخذ بالتطور العلمي والتقني وتفعیل البنیة التحتیة للمجتمع حسب الأفكار الأساسيّة المرتبطة بالتطور كنقطة إنطلاق في جوانب الحیاة العمرانیة المختلفة وفي أنماط الإستهلاك والعیش وأدوات وأسالیب المواصلات والإتصالات وغیرها من المنتجات والمخترعات التي وصل إليها العقل البشري.
بالتأكيد هناك مجتمعات فاعلة تصنع التحدیث ومجتمعات غیر فاعلة تطبق وتنقل وتقلد التحدیث، تبقی قاصرة وتلعب أخیراً دور المستهلِك.
أما فيما يخص الحداثة فنری أنه مختلف عن التحديث بشکل كبير، فهي تهتم بالدرجة الأولی بالجوانب الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية القائمة في المجتمعات ومفاهيمها.
هناك مفاهيم جدیدة في الفلسفة تم تقدیمها من قبل الحداثة، التي شددت على تبني العقلانية وتفعيل العقل وأكدت على العلمانية وأحدثت قفزة فكرية شديدة الأهمية في تاريخ الفكر الإنساني وحققت ثورة سياسية من خلال تبنيها أُسُساً جديدة للدولة الحديثة كمفاهيم الحرية و تسليط الضوء علی مفهوم الفردانیة (الفرد الحر) والمساواة والديمقراطية وإصلاح الخطاب الدیني ونقد التراث و الأفكار العقائدية الجامدة.
وبفضل الحداثة تمكنت المجتمعات من الإنتقال من عصر الزراعة الی عصر الصناعة ومن الفكر الإقطاعي الی الدولة القومية ومن الإستبداد والسلطة المطلقة الی الديمقراطية والديمقراطية الجذرية. إذن التحديث هو نتيجة من نتائج المجتمعات الحديثة وتابع الزامي لها.
الحداثة دخلت الی كوردستان عندما تم صدور أول جریدة كوردستانية في الثاني والعشرين من أبریل عام ١٨٩٨، ماضينا يقودنا الی ما نحن عليه في حاضر هذا العصر المعولم.
في أقليم كوردستان هناك ومنذ سنوات سعي جاد من قبل القيادة الكوردستانية الحکيمة في إدخال الديمقراطية من الباب الأمامي، بغية تأسيس الديمقراطية والتحول والتغير الديمقراطي، اللتان لاتأتيان إلا من خلال إصلاح واع و جريء.
هناك بوادر لإحترام التميز الفردي وفضاء إيجابي يفسح المجال للإبداع والإبتكار و يكافئ و يقدر المتفوق لتحقيق ذاته.
إن إعطاء هذا الحق الأخلاقي الطبيعي للمواطن الكوردستاني في تحقيق ذاته هو الأساس الناجح والصحيح لنظام یعمل بعقلية الحکم الرشيد. وحب الشعب الكوردستاني لقياداتها السياسية الفاعلة يزداد بإزدياد قدرة القيادات علی تحمل المسؤوليات و إشراك الشعب معها في إدارة الأزمات.
لقد تمكن السید نيجيرفان بارزاني بسياسته الحكيمة المتوازنة، أن يؤدي دور رئيسي في نهضة الإقلیم من خلال بناء الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي المساهم في الإعمار والبناء وأثبت کرجل دولة ولمرات عدیدة قدرته علی إدارة الإختلاف والتنوع بعقلية الحوار والإستيعاب وبإشتغاله علی المعطی الوجودي بكل أبعاده من أجل تحويله الی أعمال وإنجازات.
نحن نعرف بأن الحوار بالعنف هو عجز عن استخدام لغة العقل والمنطق. أما الحوار المتبادل بين مختلف الفئات والأفكار والاتجاهات بشكل موضوعي يستمع فيه الجميع إلى الآخرين بوضوح وتفهّم فأنه يمكن أن يؤدي بالنتيجة إلى إيجاد قنوات مشتركة تحقق التفاعل الاجتماعي الحيوي وترسم معالم الإصلاح والتحديث بشكل طبيعي مستمر على ملامح الشعب الكوردستاني، وتنشئ أسساً متجذرة من التماسك والتلاحم والوحدة.
هناك ضرورة ملحة للتحدیث والعصرنة في المجتمع الكوردستاني، لأن إستمرار وجود البنيات التحتية القديمة وعدم تطورها وتكاملها مع التغييرات العالمية المتصاعدة تصبح أساس للتخلف المتجذر في قواعد الفكر والعمل.
فالتحدیث مابعد الحداثة تساعدنا علی أن لا تُنتزع منّا أسس الأصالة والثبات في المبادیء الأساسية للثقافة الكوردستانیة وأن لا ندخل في متاهات العصر المتقدم ونضيع في دوامات الانخراط في مظاهر الحضارة الحديثة.
أن ثورة الاتصال والمعلوماتية بفضائها المفتوح في كل الاتجاهات إخترقت كل خصوصيات المجتمع و ايقاع العصرنة يتسارع في كل جوانب الحياة. أما التحديث فلا يتم إلا عبر إصلاح العقول التي صدئت من انغلاقها على نفسها، ورفضت الانفتاح على الآخرين.
ولكي نتمکن من التغلب علی صعوبات العصرنة، علینا أن نحدد العصرنة السياسية و نشجع، كما يعتقد العالم السياسي الأمريكي و منظّر “صدام الحضارات”، صاموئیل هنتنغتون، الإصلاح الإجتماعي والسياسي في نشاط الدولة، بمعنی تغيير القيم وأنماط السلوك التقليدية وتوسيع نطاق الولاء ليصل ولاءنا الی الأمة الكوردستانية، بعد دفع النخبة الشابة من المثقفين، الذين يمتلكون مقومات التحديث لإعادة الهياکل المؤسسية الی مؤسسات فعالة في الدولة تساهم في ترسيخ الديمقراطية و التعایش السلمي و علمنة الحياة و عقلانية البنی في السلطة.
وختاماً نقول مع الفيلسوف الهولندي باروخ سبینوزا (١٦٣٢-١٦٧٧)، “بقدر مايعيش الناس تحت رعاية العقل، فإنهم يکونون فاعلين، يقومون بالضرورة بما هو خير بالنسبة للطبيعة الإنسانية.”