23 ديسمبر، 2024 10:39 ص

كان الجلوس في مقهى السنترال داخل العاصمة عمّان يومياً ، فأغلب المواعيد واللقاءات للادباء والفنانين العراقيين تكون داخل المقهى ، فنقضي ساعات الظهيرة احياناً داخل المقهى خاصة حين يجتمع العديد من الاصدقاء . فاذا كان الشاعر جان دمو جالساً في المقهى ، هذا يعني انه لا يملك المال وينتظر احدنا ليأخذ منه المبلغ الكافي لشراء قنينة من الخمر ! في ذلك اليوم كنت ومعي الصديق علي السوداني نجلس في واحدة من زوايا المقهى ، وكانت نظرات جان دمو الذي يتخذ زاوية أخرى تراقبنا عن كثب ، اقترب منا وشاركنا الجلسة ، كان يفكر بالحصول على قنينة الخمرة ، سألني هل أملك ثمنها ، قلت له بأمكاني اعطاءك نصف الثمن ، ولكن ليس الآن . رد عليّ ولماذا ليس الآن يا حيوان !؟ قلت له الوقت الآن بعد الظهر وأريد أن تتحسن صحتك ولا بأس أن تشرب في الليل ، فالليل هو للعشاق وللشعراء وللسكارى . في تلك الفترة كان جان دمو قد مرّ بأزمة صحية لمدة طالت على الاسبوعين حتى راودنا الخوف من أن نفتقده . لحظات حتى دخل الشاعر نصيف الناصري بعد غياب طال لاكثر من اسبوع الى المقهى وهو يرتدي ملابساً أنيقة ويحمل حقيبة جلدية جديدة فيها أوراقه وكتب كان قد أشتراها من احدى المكتبات ، الكتب كانت عن شعراء الجاهلية وصدر الاسلام . ثم دعانا في ذلك اليوم الى شقته الجديدة الواقعة في منطقة البيادر بعد أن عمل في حركة الوفاق الوطني التي أتخذت من الاردن مقراً لها ، أشترى لنا الشراب وما نحتاجه من طعام وفواكه وأستأجرنا تكسي الى تلك المنطقة البعيدة نوعاً ما عن مركز المدينة ، دخلنا الشقة وهي عبارة عن غرفة واحدة مع منافعها . وما أن جلسنا لحظات حتى حاول جان ان يشرب بسرعة ، كانت سهرتنا قد ابتدأت مبكرة ، وكان جان في راحة تامة حيث الشراب متوفر والطعام المنوع ، وأصبح حديثنا عن الشعر وقد كان عن الشاعرة الامريكية ( سيلفيا بلاث ) المولودة عام ( 1932) في ولاية ماساتشوستس الامريكية كانت شاعرة وروائية وكاتبة قصص قصيرة . ودرست في جامعة سميث وجامعة نيونهام في كامبريدج قبل أن تشتهر كشاعرة وكاتبة محترفة . تزوجت من الشاعر تيد هيوو في 1956 وعاشوا في الولايات المتحدة قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا , وبعد صراع طويل مع الاكتئاب والانفصال الزوجي انتحرت سيليفيا بلاث في عام    1963.  كان جان دمو قد ترجم لها بعض القصائد وأخذنا الحديث عن هذه الشاعرة ونصوصها التي يعتبرها دمو واحدة من الشاعرات صاحبات البصمات الشعرية التي لا تنسى في الساحة العالمية . كان في غرفة الناصري سرير يتسع لشخصين أو أكثر ، قلنا لجان علينا أن ننام جميعاً في هذا السرير الكبير بعد أن شارفت الساعة على الثانية أو الثالثة فجراً ، نام جان في المنتصف وأنا على الجانب الايمين ونصيف الناصري اتخذ الجانب الايسر من السرير ، لحظات حتى صرخ جان وبقوة ،نهضنا على صراخه ! قال أولاد المرحاض ! أريد أن أنام فلماذا تحاولون أزعاجي ، لم نعلق على شيء وخلدنا للنوم  ، حتى مرت دقائق معدودات وإذا بجان يصرخ من جديد ، ها يا كلاب ! لماذا سرقتوا خمرتي ! وثالثة ورابعة ، حتى قلت لجان أنك يا جان لابد أن تحلم ، فدع أحلامك وكوابيسك الى وقت آخر ولابد من النوم . قال ليّ جان : الحلم سهاد ، قلت كيف ؟ قال قلة النوم ومصاعب الغربة وألم المعيشة وفراق الوطن وحياتنا البائسة ها هنا ، أستمر حديثي معه في ساعات الصباح الاولى عن الكوابيس التي تلاحقه بينما هو لا ينام إلا ساعات قليلة خلال ساعات الليل والنهار . وهكذا قضينا ليلتنا ما بين غفوة صغيرة يرافقها صراخ جان المزعج مع حركة لجسمه بحيث اوقعني أرضاً ، ومرة أخرى أوقع نصيف الناصري وخاصة إذا كان الانسان قد أدركه النوم فيكون الازعاج قد أخذ مأخذه منه . كانت السهرة جميلة لكن كوابيس جان التي اقلقتنا ولم تجعلنا ننام جعلت الصداع يرتفع في رأسي . وفي الصباح من اليوم الثاني ، تناولنا الشاي وبعض القطع الصغيرة من الجبن ، فأغتنمنا الفرصة بوجود حمام جميل وأنيق في الشقة من أجل الاستحمام ، قلت لجان عليك الاستحمام في هذا الحمام الجميل ، وافق ، لكنه حين دخل الحمام للاستحمام لم يتمكن بسبب وجود البانيو ، نادى علينا فهرعنا له على الفور ، وقد تبين أنه لا يجيد أي شيء في استخدام الحمام ، الأمر الذي جعلنا أن نخلع ثيابه ونقوم بتحميمه داخل البانيو وهو يضحك بقوة مع رشقات كثيرة من الشتائم التي كان يقفذف بها بأتجاهنا ، قلت له يا جان عليك الاستحمام من الآن فصاعداً في كل اسبوع مرة على اقل تقدير ، رد عليّ ضاحكاً وهل أنا بطة ! بعد ذلك ودعنا نصيف  وخرجنا جان وأنا وركبنا حافلة نقل كبيرة أوصلتنا الى وسط البلد . وعند شارع سقف السيل ترجلنا من الحافلة وبدأنا نسير في ذلك السوق ألتقينا بعض الاصدقاء وقفنا قليلاً ثم تابعنا المسير بأتجاه مقهى السنترال والذي يعتبر هو السنتر الحقيقي للقاء كل الاصدقاء .