17 نوفمبر، 2024 7:25 م
Search
Close this search box.

كن اعمى لترى

في إحدى المدن الفرنسية، أنشأ شخص فاقد للبصر مطعما لمن يماثله في ذلك، فكل من يعمل في هذا المطعم بدءا من صاحبه وصولا الى الطباخين وعمال الخدمة هم ممن حرموا من نعمة البصر، فتعايشوا مع الظلام ولم يركنوا اليه في حياتهم بل أناروا الفكر ببصيرتهم. أما كيف فعلوا ذلك، فلأنهم فتحوا أبواب مطعمهم لرواد من المبصرين، مع شرط واحد، قد يبدو غريبا للبعض. في مطعم فاقدي البصر هذا إشترط صاحبه على رواد المطعم أن يعيشوا في الظلام بدءا منذ لحظة دخولهم، حيث يتناولون طعامهم في ظلام دامس، فيكون الزبون مجبرا على أن يتعلم كيف ينقل خطواته في المطعم وكيف يختار طعامه ويجد طريقه الى فمه دون أن يشعل ولا حتى عود ثقاب. والهدف من كل هذا هو أن يشعر المبصر بأخيه فاقد البصر ويفهم معاناته كي يكون عونا له في الحياة.
وأنا أستمع الى هذا الخبر من إذاعة مونتي كارلو، مر أمامي شريط الاخبار الذي بث بالامس خبرا مصورا لزيارة بعض المسؤولين للنازحين من الرمادي الى بغداد. لااعرف لماذا ظلت صورة ذلك الشاب عالقة في ذهني، ربما شرود عينيه وهو يتحدث الى نائب رئيس الوزراء الذي يحاول بكلماته أن يبث الحماس والاطمئنان في قلبه. شعرت بلسان حاله يقول: وماذا أفعل بالكلمات، بعد قليل سترحلون أنتم وحماياتكم وكاميرات التلفاز لأظل وحيدا في العراء، وحتى إن فتحت لي أبواب بغداد وتنازلتم علن شرط الكفيل، هل سيعيد الي ذلك ماتركته هناك حيث كنت أعيش؟
الجميع يتحدث عن مشكلة النازحين، فقد تحولت الى الزبدة الطازجة التي يدهن بها المسؤولون حناجرهم وهم يستهلون أحاديثهم من على القنوات الاعلامية، كما تحولت الى هتاف تتشدق به منظمات المجتمع المدني وفقرة تضاف الى برامجها في كل احتفالية أو ندوة، فضلا عن انها أصبحت باب رزق للبعض من الذين تسلموا الملايين باسم النازحين الذين إكتوت أيديهم بالنار. فحالهم كحال (الهام شاهين) في احد الافلام الذي تدخل فيه مسابقة اعلان عن علكة فتجد نفسها وقد فازت بشقة فخمة في منطقة راقية من خلال القرعة. وبعد الضجة الاعلامية التي ترافق الخبر وعدة لقاءات تلفزيونية ومقابلات وشهرة، تكتشف انها فازت ب (شقة مفروشة) وبعقد ايجار، وفي منطقة شعبية والشقة لاتمت الى الفخامة بشئ، ومع ذلك تقبل بنصيبها، الا ان الصدمة تكون كبيرة عندما يخبرونها بأن العقد سينتهي بعد ثلاثة أشهر وعليها أن تخلي الشقة.
حال النازحين في بلدي لايختلف عن ذلك، فكل ماقيل عن التعاطف والتعاون معهم وتوفير سبل العيش الكريم لهم ليس الا كلمات اذا ماقورنت بوضع أي إنسان وجد نفسه فجأة دون بيت وعمل ومال، وكل مايملكه هي حياته وحياة عائلته مما يجعل الحياة نفسها عبئا ثقيلا. وفي حقيقة الامر، ان مشكلة النازحين لم تعد تخصهم وحدهم، بل تعدت ذلك الى المحافظات التي نزحوا اليها وابناءها، فكم من المتغيرات التي ستبرز لتشكل هموما حقيقة على الصعيد الاقتصادي والامني والحياتي.
ان مايحتاجه النازح ليس زيارات أو مساعدات أو خيم، بل يحتاج لأن يسكن المسؤول معه ولو ليوم واحد في خيمته ليشعر بما فعلته يداه بقومه.
 
 [email protected]

أحدث المقالات