لم تكن المعارك في افغانستان حرب جبهات.
فالقوات السوفيتية، وعديدها لم يتجاوز الستين ألفا في بدء الحملة، لم تواجه عدوا منظما، يتحرك وفق السياقات التقليدية المعروفة؛ وإنما مجاميع تصغر، وتكبر حسب تطور الوضع في مختلف المناطق على مدى كل شهور الحرب القاسية والطويلة.
كنّا نتجول في “المناطق المحررة”؛ اي القرى والقصبات الخاضعة لسيطرة حكومة “حزب الشعب الديمقراطي الافغاني”، ونسمع من المسؤولين الحزبيين،والإداريين؛ تصريحات مفعمة بالتفاؤل، ان السكان المحليين يؤيدون الإجراءات الثورية ويرثون الاراضي من الاغوات.
ثم نكتشف في زيارة لاحقة ان تلك “المناطق المحررة “خرجت عن سيطرة الحكومة، وعادت الى فصائل المقاومة الاسلامية ؛التي اختزلها السوفيت بكلمة واحدة “دوشمان- العدو”رغم ان بين العمائم الدوشمان تباينات تصل الى حد الاقتتال والتصفيات الجسدية والتسقيط السياسي.
اتبع الأفغان المعادون للسوفيت تكتيك حرب الانصار الذي برع السوفيت في فنونه اثناء مقاومة الاحتلال النازي للأراضي السوفيتية، سنوات الحرب العالمية الثانية.
وبرع الروس في عمليات “партизан «partisanاي الوحدات الصغيرة من كلمة Partigiano الإيطالية وتعني الجزء.
فقد لجأ القادة العسكريون الروس الى تشكيل فصائل الانصار لمواجهة حملة نابليون بونابرت على روسيا عام 1812. وكذلك في معارك الحرب العالمية الاولى.
وأوقع المقاتلون المنتشرون بين السكان خسائر جسيمة في صفوف العدو.
بيد ان الخبرة التاريخية المتراكمة، لم تسعف القوات السوفيتية، في مواجهة حرب العصابات في افغانستان.
وأوقعت مجاميع “المجاهدون” الصغيرة خسائر فادحة في صفوف القوات السوفيتية،انتهت بانسحابها.
خلال تلك السنوات، لم نصادف، في شوارع المدن الكبرى، بدءا من كابل مرورا بقندهار والى جلال آباد وجودا ظاهرا للدوشمان.
“لكن كل ملتحف بالعباية،يعتبر من وجهة نظر عسكرية، عدوا محتملا، انخرط لشتى الأسباب في الاحزاب والفصائل الافغانية الممولة والمدربة أمريكيا وباكستانيا ومصريا”
هكذا كان يحدثنا مرافقونا من المسؤولين الحكوميين.
وحين كنّا نسال؛
كيف حصل وعادت المدن والقصبات الى سيطرة المجاهدين، و منذ فترة ليست بعيدة، حسبناها ضمن خارطة
” المناطق المحررة ” من سطوة الدوشمان؟!
لم نحصل حينها على اجوبة واضحة، وإنما استنتاجات وتفسيرات؛ تلمح لضعف اداء القوات الحكومية التي لم تقف على قدميها “وبحاجة الى المزيد من معونة الرفاق السوفيت”!
كانت الحياة تبدو طبيعية في كابل،وكنا نتجول في شوارعها وأسواقها،صحبة أعضاء في الحزب.
مرة دخلنا (مسجد وزير اكبر خان )الواقع على مسافة ليست بعيدة عن المبنى الرئاسي، فِي الحي الاكثر عصرية ونظاما بين احياء العاصمة الافغانية الرثة المتهالكة.
كان لزاما اداء صلاة تحية الجامع والجلوس على السجاد الافغاني الذي لا يقل ألقاً، وفخامة عن الإيراني.
لم يلتفت احد الى ملابسنا الأوربية المختلفة ، فالمسجد يؤمه الأجانب المقيمون والعاملون في كابل، وان كانت أعدادهم تقلصت بمعادلة طردية مع تصاعد الحرب.
وبعد نصف ساعة من التجول بين النقوش والزوايا الجميلة في المسجد الوثير، دب الخدر في اجسادنا، وشعرت شخصيا بانتشاء غريب، افتقدته منذ سنوات الطفولة، حين كنّا نؤدي مع كبارنا صلاة العيد؛ ونخشع للقراءات الركبانبة والماهورية العلامة الفارقة للمدرسة العراقية في التجويد.
كان حرم المسجد يعج بالجالسين، والقاعدين والراكعين، في غير وقت الصلاة، والهدوء يلف المكان، الا من وجيف الادعية همسا.
وحسبت الخدر الجميل، عودة في رحاب الله الى الطفولة السعيدة ،وأيامنا المفرحة،المليئة بالطيب والطيبين.
كانت تفوح في الجو رائحة عطرة اختلطت مع ماء الورد ؛ الا انها قوية وتشبه رائحة اللباد.
لاحظنا ظاهرة لم نألفها في مساجد بلادنا؛ ان بعض المصلين يدخنون داخل الحرم وخارجه. ويتصاعد الدخان الأزرق من سجائر اللف؛ ومعه تتصاعد رائحة الحشيش العبقة التي نهلنا منها رغما عن انوفنا!
كانت المرة الاولى والأخيرة في حياتي استشعر تاثير ( кайф) وتعني الانتشاء بالروسية.
يبدو ان الكلمة اصلها ” گيٓف” بفتح الكاف وتشديد الياء الشائعة في العامية العراقية؛وربما في بعص اللهجات الخليجية. ومعناها نفس معنى (кайф) الروسية، المأخوذة عن الفارسية او من لغة شرقية اخرى.
تنبهنا الى ان البقاء في رحاب (وزير اكبر خان )فترة اطول؛ يعني جرعات ” كَيٓف” اكبر. وخشينا العاقبة، وأثرنا النجاة فأسرعنا في الخروج! تاركين المتعبدين يحلقون في تامل الخلق والتقرب من الخالق سبحانه وتعالى. ولله في خلقة شؤون.
يعتبر تعاطي الحشيش في افغانستان ظاهرة عادية، فلا يوجد نص قراني صريح يحرمه، وزراعة الشجيرات الصغيرة، تغطي مساحات شاسعة، في طول البلاد وعرضها، وتعتبر اهم مصدر لدخل ملايين المعدمين.
كنّا نصادف في الدكاكين الصغيرة لبيع السلع والمواد الغذائية، من يعرض لفائف الحشيش ،باسعار بخسة اذا اعتقدك سوفيتيا!
فوراء هذا الكرم الايفيوني،غايات اهم من الربح؛
تشجيع تفشي المخدرات في صفوف قوات (شوروي- السوفييت).
لم نتعرف على مدى إجراءات الانضباط في صفوف القوات السوفيتية لدرء هجوم مدمر خفي في حرب اللاجبهات،استخدمت فيها كل الأساليب القذرة.
ومع تكشف الملفات السرية للحرب الافغانية ،ظهرت تقارير وافلام توثق لتجارة المخدرات غير المشروعة سنوات الجمر، كان ” ابطالها” شخصيات قيادية في الجمهوريات السوفيتية المحاددة لافغانستان وجنرالات وضباط.
ونشرت معطيات عن إعداد المدمنين جراء سنوات الحرب ؛من بينها الدراسة التي اجراها الأكاديمي الكسي يابلوكوف وقدمها الى الكرملين بعيد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي. وتتضمن أرقاما وإحصائيات ومؤشرات خطيرة.
خلال تلك السنوات قتلت الحرب خيرة الضباط والجنود وأكثرهم إخلاصا لواجبهم العسكري؛ وبينهم من امن بانه يقوم بواجبه الاممي للدفاع عن الشعب الافغاني ضد المؤامرة الإمبريالية.
ودفن الضباط والجنرالات والجنود في مقابر متفرقة ،بكل ما يليق من احترام ومهابة.وارتفعت النصب التذكارية مع صور منحوتة على الجرانيت،او تماثيل نصفية .
بيد ان السلطات السوفيتية حرمت الإشارة الى انهم قضوا في افغانستان.
لم نشاهد آنذاك ما تناقلته وسائل الاعلام الغربية والاميركية عن ما يُزعم بسياسة “الارض المحروقة “التي انتهجها السوفيت في افغانسان.
وفِي العادة كنّا نصل الى مواقع المعارك بعد ان تصمت المدافع، ونرصد بقايا آليات معطوبة او أغلفة قنابل .
حينها لم نسمع بتفجير مساجد او دور عبادة، كما شاع بعد وصول طالبان ودخول قوات التحالف الأطلسي لافغانستان بعد 11 سبتمبر2001.
“المجاهدون” لم يتوانوا عن حرق وتدمير عشرات المدارس والمستشفيات ومخازن الأغذية والمحلات التجارية باعتبارها أهدافا مشروعة في حربهم المقدسة ضد “الكفار السوفيت”كما أفتى كارتر!
لا ندري ما اذا كان ضباط الاستخبارات الأميركان والمصريين والباكستانيين المدربين .ورعاة الجمعيات الخيرية التي مولت الجهاد الافغاني، كانوا يحضون مسلحي الجماعات الاسلامية، على تدمير البنى التحتية للدولة الافغانية انتقاما من موسكو وحلفائها.
في نفس الوقت،لم يشجب داعمو الجهاد غربا وشرقا؛الاعمال الارهابية ضد المدنيين والمنشآت بذريعة انها تابعة للنظام الشيوعي.
كان السؤال الاكثر الحافا في اغلب اللقاءات مع المسؤولين الافغان، كم تبلغ مساحة الاراضي الواقعة تحت سيطرة القوات الحكومية ؟
سؤال لم نتلق يوما اجابة واضحة عليه، لانه في حقيقية الامر، يصعب قياس مدى نجاعة، وفعالية العمليات العسكرية ضد مجاميع المجاهدين الذين قادوا حرب عصابات فعالة ضد من ابلى بلاء حسنا في ادارتها حين تعرضت بلاده الى الاحتلال الألماني وقبله الفرنسي.
وبعد سنوات حين اصبح الكلام مباحا ادلى احمد شاه مسعود الملقب “بأسد بانشير” بتصريحات صادمة لقناة( سري للغاية )التلفزيونية الروسية ربيع العام 1997، كشف فيها عن انه أقام صلات مع شخصيات رفيعة ومع جنرالات ومراتب عسكرية؛كانت تزود المجاهدين بمعلومات عن تحركات القوات السوفيتية:
“بفضلهم نجونا من معارك طاحنة”
قالها “اسد بانشير” منتشيا. واضاف :
“بعضهم ساعدنا ايمانا بضرورة اسقاط الاتحاد السوفيتي واستقلال الجمهوريات والبعض الاخر للحصول على المال وكنا ندفع حسب تسلسل المراتب”.
وحين ساله المذيع:
-انتهت الحرب ومرت سنوات على انسحاب القوات السوفيتية هل يمكن ان نعرف الاسماء؟
قهقه مسعود ورد على الفور:
-لا اعرف ماذا حل بهم .
واضاف بمكر:
-ربما لا يزالون في مراكزهم والمجالس أمانات!!
على المقلب الاخر، كشف الجنرال بيوتر سومان قائد كتيبة المدرعات682 ؛عن ان أسطورة «وادي بانتشير» الذي يتكرر في التقارير ان القوات السوفيتية؛ عجزت عن اقتحامه، مجرد دعاية.
وقال للقناة الروسية الاولى في مقابلة بثت عام 2009 بمناسبة ذكرى التدخل السوفيتي:
-خلال السنتين التي خدمت فيها كتيبتنا هناك؛ كنّا نفاجأ بان العدو يتلاشى قبل ايام من بدء الهجوم الذي اعددنا له، ثم بظهر في الخلف.
واكد قائلا:
– الامر ليس في حدود الشكوك، وإنما بالأدلة اليقينية، كان ” دوشمان” يتلقون معلومات ثمينة عن تحركات قطعاتنا ، وبفضلها تجهض خطط الهجوم !
لم يوجه الجنرال سومان، الاتهام لشخصيات محددة. الا ان السؤال يبقى يدور؛؛
لماذا لم يتم التحقيق في خيانة رموز بارزة من سدنة السلطة السوفيتية؟ ولماذا يقتصر الحديث عن الخيانات في وسائل الأعلام والمؤلفات الوثائقية فقط وليس في دوائر الادعاء العام العسكري؟
يتبع ..