18 ديسمبر، 2024 10:56 م

كنت في تشيرنوبيل! – ٣

كنت في تشيرنوبيل! – ٣

وقع الاختيار على عدد محدود من المراسلين الأجانب، المعتمدين في موسكو؛ لزيارة وتفقد موقع تشيرنوبيل. وعلمت ان مراسلين معتمدين اعتذروا، عن تلبية الدعوة؛ خوفا من الاثار الناجمة عن تعرضهم للإشعاع اذا وصلوا الى منطقة الكارثة؛ فيما سارع اخرون لتلبيتها بحثا، عن السبق الصحفي.
كان ممثلو الوكالات،والصحف الغربية والأمريكية، والقنوات التلفزيونية، في مقدمة من قفز نحو مقاعد الرحلة الاستثنائية، بطائرة خاصة؛حلقت بِنَا من مطار حكومي اعتقد انه كان مطار فنوكوفا.
وكنت ،على ما أظن، الوحيد من بلد عربي بين فريق المراسلين المحلقين نحو إشعاع تشيرنوبل!
قبل بدء الرحلة تجمعنا في صالة الانتظار، واستمعنا الى ايجاز صحفي من ممثل المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية، ابلغنا خلاله بان المعركة مع المفاعل المتمرد تقترب من نهايتها.
كان ذلك في اليوم الحادي عشر من شهر أيار / مايو عام 1986 اي بعد 15 يوما من “الحادث”.
الخارجية السوفيتية، انتظرت،كما يبدو الانتهاء،من احتفالات عيد النصر على المانيا الهتلرية، المصادف التاسع من أيار / مايو.
ويتم الاحتفال بالمناسبة على نطاق واسع وبعروض عسكرية وشعبية ضخمة.
وقبلها بعيد العمال العالمي، في الاول من الشهر، وتعتبر من الأعياد التي ينتظرها السوفيت بشوق، لان الدولة
” تكرم” مواطنيها بما يتيسر من لذيذ المأكولات، والحلويات، والكافيار الاحمر في علب صغيرة. و بعض المواد والسلع الاخرى الشحيحة عموما على مدار العام، وتفتح أبواب المخازن الحكومية الأمامية بالمناسبتين.
اما في الأيام العادية؛ فان ابوابها الخلفية تستقبل؛ من كانت جيوبهم ثقيلة، وقادر على التعامل مع السوق السوداء!
والاهم من ذلك ان المحاربين القدامى يجدون في التاسع من أيار/ مايو فرصة لاستعراض نياشينهم المثقلة بها الصدور واستحقوها عن جدارة؛دفاعا عن الوطن السوفيتي الذي قدم قرابة 25 مليون من ابنائه وبناته، سقطوا في ساحات المعارك وبحرق المدن، والقرى الروسية والبيلاروسية والأوكرانية وتدميرها ، وخلصوا ببسالتهم، العالم من طاعون الفاشية والنازية.
يتواعد المحاربون القدامى في ذلك اليوم للقاء في الساحة الحمراء، وواجهة مسرح بولشوي تياتر الشهير، تحت نظرات كارل ماركس الحجرية.
ومع كل عام تتناقص أعدادهم بسبب العمر وعوادي الحياة.
وفِي الطائرة كنّا نحن المحلقين نحو شعاع تشيرنوبل، نسال ممثل الخارجية لماذا لم تؤجل السلطات في كييف احتفالات أيار/ مايو درءا لتعرض المشاركين في المسيرات الضخمة الى الإشعاع بفعل ” الحادث”؟!
لم نسمع اجابة محددة، بل عبارات فضفاضة، وتأكيدات بان الوضع ليس بدرجة السوء التي تتصورونها أيها السادة !
بيد ان دول المراسلين الغربيين ومؤسساتهم،كانت على ما يبدو تملك معلومات دقيقة عن حقيقة الوضع.
ولهذا فقد أمنت على حياة مندوبيها بآلاف وربما ملايين الدولارات؛ وهم يطيرون نحو تشيرنوبل، كما فهت من أحاديثهم.
وحين سالني مراسل فرنسي بشكل جدي
وانت كم امنوا على حياتك؟ وأردف
مبلغ كبير بالتأكيد فأنت مراسل صحيفة عربية !!
أجبته وانا اجهد لترجمة الآية الكريمة
” قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا”
واردفت مقلدا نبرة ممثل الخارجية السوفيتية :
  • مسيو تصورك عن بلداننا ليس بالشكل الذي تعتقد!
  • فاتسعت عيناه المحمرتان من كؤوس النبيذ، كان يعبها طوال الرحلة عملا بالنصيحة الشعبية الروسية ان الكحول تقلل من خطر الإشعاع وسألني
  • تطير بدون تامين؟!
  • فاعدتها عليه:
  • قل لن…!!
كان يوما ممطرا في كييف، وعلى بوابة الطائرة استقبلنا موظفون شباب يحملون المظلات، ويتحدثون الانكليزيّة، اسرعوا بِنَا نحو حافلة مضللة النوافد، ومغطاة بالستائر.
اتجهت على الفور الى مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الاوكراني.
في المبنى الفخم استقبلنا بعيون ذابلة ووجوه محتقنة، تبدو عليها اثار السهر قادة حزبيون ومسؤولون حكوميون، بينهم الأكاديميان الطبيب الدكتور ليونيد إيلين، واضع ومؤسس منهج معالجة الأضرار الناجمة عن الإشعاعات النووية. والأكاديمي استاذ الفيزياء النووية يفغيني فيليخوف؛ الاسمان اللذان علقا بالذاكرة اكثر من غيرهما لانهما عقدا مع فريقنا الصحفي، مؤتمرا صحفيا
افتتحه الأكاديمي فيليخوف بعبارة تركت في النفس اثرا مدويا:
“نحن الان ومع مرور أسبوعين تقريبا على الحادث ما نزال في حال الدفاع ولم نصل الى مرحلة الهجوم!
كنا نتطلع للقاء السكرتير الاول للحزب الشيوعي الاوكراني، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي فلاديمير شربينيسكي ؛ ويشار الى انه حقق اثناء قيادته لجمهورية اوكرانيا السوفيتية، قفزات نوعية في الانتاج، وفِي تحسن الحياة المعاشية، وزيادة غير مسبوقة في إعداد السكان، بعد السنوات العجاف في الحرب العالمية الثانية( الحرب الوطنية العظمي وفقا للأدبيات الروسية ).
و كان شربينيسكي يعد أقوى مرشح لقيادة الدولة والحزب، بدلا من ميخائيل غورباتشوف بعد مسلسل رحيل الصف الاول من القادة الكهول والمرضى واخرهم تشيرنيينكو في العام 1985.
وعلمنا بعد سنوات، حين اميط اللثام عن بعض اسرار الدولة السوفيتية العتيدة، وتفككها، ان الرجل البالغ من العمر آنذاك ثمانية وخمسون عاما، ويعتبر من جيل الشباب، قياسا الى عجائز المكتب السياسي ؛ يقوم برحلات مكوكية بين موسكو وكيف، لحضور الاجتماعات اليومية للقيادة السوفيتية، بزعامة غورباتشوف، الذي هدد شربينيسكي بسحب بطاقته الحزبية؛ اذا نفذ قراره بتعطيل الدراسة في كييف وضواحيها والمناطق المحاذية لتشيرنوبل.
لكن القائد الذي أنصفه المؤرخون بعد وفاته المبكرة، سنة 1990 ؛ تجاهل التهديد، وعطل الدراسة، ونقل مايزيد على 120 ألف تلميذ من المناطق المعرضة للإشعاع، الى بيوت الراحة ومعسكرات الأشبال في المنتجعات البعيدة.
ويروى عن شربينيسكي قوله وهو يستمع الى تهديد غورباتشوف عبر الهاتف الحكومي المغلق:
“لن نضحي بالأطفال مقابل البطاقة الحزبية”!
أثرت مخالفة السكرتير الاول للحزب الشيوعي الاوكراني، لاوامر الامين العام للحزب السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف، على مستقبله السياسي، وصار شخصا غير مرغوب فيه وسط سدنة غورباتشوف ، وطلب شربينيسكي،الإحالة على التقاعد واعتكف في منزله المتواضع؛ وتوفي في المستشفى بالتهاب الرئة الحاد قبل ان يبلغ الثانية والسبعين بيوم واحد .
ووفقا لما تكشف عنه محاضر اجتماعات القيادة السوفيتية فان شربينيسكي كان ارفع مسؤول في الحزب والدولة السوفيتية؛ أيد موقف العلماء والأكاديميين المعارضين لبناء محطة تشيرنوبيل الكهروذرية في موقعها المعروف .
وطالبوا بأبعادها عن المناطق المأهولة تحسبا للمحضور الذي وقع بعد سنوات قليلة من تشغيلها. .