9 أبريل، 2024 1:46 ص
Search
Close this search box.

كنت في تشيرنوبل ! – 2

Facebook
Twitter
LinkedIn
سمع مواطنو الاتحاد السوفيتي بخبر التسرب الإشعاعي، او الانفجار النووي، من ” الأصوات المعادية” النعت الذي تطلقه السلطات على الإذاعات الاجنبية مثل” صوت اميركا” ،”بي بي سي” و
” اوربا الحرة” او “راديو الحرية”
و” الموجة الألمانية”،وغيرها من الإذاعات الموجهة، وبعضها يبث بلغات عدد من شعوب الاتحاد السوفيتي الى جانب الروسية.
وفِي العادة، يستمع الساخطون على النظام السوفيتي، والباحثون عن الاخبار المثيرة،الى تلك الإذاعات فيما يعرف لدى الأدباء والمثقفين المنشقين السوفيت، ” جمهور المطبخ” في إشارة الى حرص المواطن المسكون بهوس الملاحقة والتنصت على حياته الشخصية، على الاختلاء بجهاز الراديو بعيدا عن اعين الفضوليين. وليس أفضل من المطبخ ملاذا لا تصل مسامعه اذان الجيران .
“الأصوات المعادية ” نسبت الخبر اولا الى متحدث باسم جهاز الرصد السويدي(فورسماك) اكد ان معدلات الإشعاع القادم من الحدود السوفيتية بلغ معدلات قياسية، وان السحب النووية غير المرئية تحلق قريبا من السماء الأوربية وبدات باختراقها.
وطلبت السويد من موسكو توضيحا، فقوبل طلبها بالصمت.
ولم تنطق الخارجية السوفيتية؛ الا بعد ان هددت ستوكهولم؛موسكو بتقديم شكوى الى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبالفعل لم تفوت “الأصوات” الفرصة في تصعيد دعايتها المضادة للاتحاد السوفيتي، مستغلة صمت موسكو، وغياب بيانات رسمية من الكرملين، الذي كان سيده الجديد ميخائيل غورباتشوف اطلق العنان لسياسة” بيريسترويكا- اعادة البناء” و” غلاسنوست- الشفافية” بعد سنوات ثقيلة من ” الزاستوي- stagnation اي الجمود” على يد ليونيد بريجنييف وسدنة الكرملين الكهول.
لقد بات معروفا اليوم ان القائمين على محطة تشيرنوبل الكهروذرية، وتباعا السلطات الحزبية في أوكرانيا السوفيتية، سعوا لإخفاء حجم الكارثة في ساعاتها الاولى عن موسكو؛ املا في تطويق الحادث،وإطفاء النيران المشتعلة في المفاعل،التي تم التعامل معها على انها حريق من الدرجة الاولى وبعثوا بعمال الإطفاء مع معدات بدائية دون ملابس واقية، فتعرضوا للموت بالإشعاع.
حين تم ابلاغ موسكو؛ لم تكن سياسة
” غلاسنوست- الشفافية” في ابريل نيسان من العام 1986، شهر الكارثة، قد حفرت عميقا في جدران الكرملين القرمزية السميكة.
فالقائد الجديد للحزب والدولة السوفيتية،بدء عهده بمكافحة الإدمان على الكحول المتفشي بين مواطني بلاده ، ومحاولة رفع الإنتاجية؛ قبل ان يطرح شعار “غلاسنوست” في فبراير /شباط من 1986 اي قبل الكارثة بشهرين. و”بيريسترويكا” عام 1987وهو يدخل السنة الثالثة من ولايته، اي بعد حول تقريبا من كارثة تشيرنوبل .
في غضون بضع ساعات من شيوع الخبر في الوكالات العالمية، أخذ المراسلون الأجانب يتقاطرون على المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية في المبنى رقم 4بشارع زوبوفسكي بولفار الملاصق لوكالة “نوفوستي” الشهيرة،
ولم يجد الصحفيون معلومات تطفيء العطش، او تجيب على الاسئلة اللاعجة.
بيد اننا اقتنعنا من خلال الإجابات المبعثرة، والقلقة لمسؤولي المركز الاعلامي، ان أمراً جللا قد وقع بالفعل وان حادثة نووية، لم يوضحوا حجمها وابعادها؛ قد وقعت في مفاعل تشيرنوبل.
ولاحضنا حرص الموظفين في الخارجية السوفيتية على عدم النطق بكلمة “كارثة”التي كانت “الأصوات”تلوكها منذ ان تسرب إشعاع الخبر الرهيب.
وفِي اليوم الثالث فقط ، على ما اذكر، نظم المتحدث باسم الخارجية السوفيتية، إيجازا صحفيا ( على الواقف) في الباحة الصغيرة عند مدخل قاعة المؤتمرات بالمركز الصحفي، كرر خلاله ما نشرته بعض صحف أوكرانيا، من خبر صغير في الصفحات الداخلية عن
” حادث في محطة تشيرنوبل الكهروذرية، تتولى الأجهزة المختصة ازالة اثاره”.
وعلى نفس المنوال،ظهر الخبر في نشرة الساعة التاسعة من محطة التلفزيون الحكومية في البرنامج اليومي الشهير
” فريمية- الوقت” وبنفس الصياغة الخشبية المقتضبة.
في تلك الأثناء، انتشر نبأ “الحادث” في العالم، بأسرع من الشعاع، وأخذت
” الأصوات” تتحدث عن الاثار المدمرة للكارثة على أوروبا والعالم، وتحّمل موسكو المسؤولية عن ما وصف حينها “الاخفاء المتعمد” للمعلومات التي تخص حياة وصحة البشر جميعا.
لم يقتصر الامر على وكالات الانباء ووسائل الاعلام المعتمدة في الاتحاد السوفيتي، اذ انخرطت السفارات الأوربية وسفارة واشنطن،وبعثاتها التجارية وملحقياتها وقناصلها؛ في مهمة جمع المعلومات عن حقيقة ما جرى، وحجم الكارثة.
ورصدت اجهزة امن الدولة السوفيتية ( كي جي بي) نشاطاً محموما للبعثات الدبلوماسية المعنية ؛ بحثا عن التفاصيل المتعلقة بالكارثة. وفقا لما كشف عنه ضباط سابقون في الجهاز ، نشروا مذكراتهم في الخارج.
حتى ان سفارة فرنسا؛ كانت تتصل من موسكو بمتدربين من مواطنيها، يتلقون دراستهم في كييف، عاصمة أوكرانيا السوفيتية، وتطلب منهم تزويدها بأية معلومة يحصلون عليها حول تشيرنوبل. وفِي وقت لاحق حدثني دبلوماسي فرنسي، كان على وشك الانتهاء من مهمته في موسكو،والالتحاق بسفارة بلاده في دولة عربية؛ ان باريس لم تعمد فورا على اجلاء رعاياها من اوكرانيا؛ املا في ان يصبحوا مصدرا للمعلومات عن الكارثة وتفاصيلها وابعادها على خلفية، جفاف الاخبار والمعطيات من موسكو الرسمية.
ومع تصاعد حملة المطالبة ب” غلاسنوست” من ميخائيل غورباتشوف، تزايد ضغط المراسلين الأجانب على المركز الصحفي لوزارة الخارجية السوفيتية.
وغص البار والمطعم الأنيقين الملحقين به في الطابق الثاني، بالزبائن الباحثين عن كوة في جدار الصمت، مع جرعات من كؤوس الفودكا الصغيرة.ووجبات ساخنة من طبق “بيلميني*” يعده النادل الكهل الوسيم مارين مارينوفيتش، المسكون بالاتكيت، ورثه عن جده الإيطالي المهاجر الى روسيا، وكان صاحب حانة في بطرسبورغ القيصرية.
مارينوفيتش، كان الباب الخلفي لمعلوماتي غير الرسمية “لمطبخ ” الخارجية السوفيتية السياسي ، يهمس لي بين الحين والآخر بمعلومات خارج النص!
فقد كان يشرف على ولائم الكبار في الخارجية السوفيتية، ويسمع
” طرطشات” من هنا وهناك. يسرني بها من باب الثقة مع عبارة رنينها أوطأ من الهمس::
” لا تخبر احدارجاء”!
ولربما اسمع مارينوفيتش نفس العبارة وهمس بتلك “الطرطشات”لغيري. لكنه كان معي نزيها في كل الأحوال!
ولعل مارينوفيتش كان أعلمنا جميعا بحجم الكارثة، ولذلك، لم يتوان عن النصح باحتساءاكبر كمية من الفودكا لانها حسب الاعتقاد تساعد على درء خطر الإشعاع!!
ولدى الروس فان الفودكا دواء لكل داء!
كان يعجب بانتقائي للمائدة، وجمال نديماتي، وأناقة ضيوفي القادمين من الخارج؛ ومع كل وجبة دسمة من الأطباق الإيطالية التي يشرف عليها بنفسه لزبائنه المفضلين ، كان يزيد جرعات، الهمس، ومعها، حزمة من الاخبار خارج النص.
و من النادل الأنيق وكأنه في عرض أزياء باريسي؛ علمت قبل الجميع، ربما، ان قيادة المركز الصحفي للخارجية السوفيتية؛ تدرس فكرة، السماح لفريق من الصحفيين الأجانب بزيارة موقع تشيرنوبل، وأنهم يناقشون؛على من يقع الاختيار؛لان الرحلة ستكون بطائرة خاصة ولعدد محدود كدفعة أولى، على ان تسير رحلات اخرى مع تطور الوضع.
وهمس بأذني وانا اجزل له في دفع الحساب؛ بعد سهرة؛ كان غبار تشيرنوبل؛ غطى فيها على عطر السيدات خلال الجلسة الضاجة؛؛
-سنيور! لاتفوت فرصة السبق الصحفي واحرص على ان تكون مع اول فريق يطير الى هناك.
واسرني:
-المسؤول عن الرحلة (أ.ب.غ) وهو كما اعلم يحترمك كثيرا، ويرتاح للجلوس والتسامر معك.
ثم اردف:
-لا تخبره اني افشيت لك سر الرحلة المزمعة رجاء!
-طبعا طبعا لا تقلق عزيزي مارين مارينوفيتش فالحياة اكبر من الأسرار!
قهقه النادل الأنيق، والتمعت عيناه الخابيتان وراء النظارة السميكة المعتمة.
ووعد بان يطلعني على كل معلومة مهمة تلتقطهما أذنيه” بالصدفة”!
يتبع…
*بيلميني: أكلة شعبية روسية من اللحم المفروم في كبايات عجين صغيرة. وتقدم في بعض المطاعم على انها طبق مشهيات بوصفة خاصة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب