في الطريق الى بيت مكسيم غوركي في موسكو( الذي تحول الان الى متحف) تذكرت مسيرتي الشخصية نحوه , و طريقي الذاتي اليه , منذ ان حصلت – وبصعوبة ومجازفة وخطورة – على روايته ( الام ) عندما كنت في الصف الثاني المتوسط ببغداد قبل حوالي ستين سنة , والى نقاشاتي الحادة ( والساذجة معا ! ) مع المرحوم الاستاذ مراد غالب سفير مصر في موسكو عام 1962 عندما أخبرته برغبتي ان أدرس واتخصص باديب ( الواقعية الاشتراكية غوركي ) في كلية الآداب بجامعة موسكو , وكيف كان السفير مراد غالب يناقشني بهدوء ودبلوماسية وهو يبتسم حول ذلك ويشرح لي موقع غوركي الحقيقي في مسيرة الادب الروسي ( انظر مقالتي بعنوان – غوركي ومراد غالب ) . وتذكرت كذلك كيف قمت بتدريس تلاميذ الصف العاشر في احدى المدارس السوفيتية آنذاك ضمن تطبيقات التخرج من الجامعة , وكانت مادة الدرس ذاك – (بافل فلاسوف – بطل رواية الام لغوركي ) , وكيف تعثٌر التلاميذ في اجاباتهم حول ذلك , والذي كان واضحا انهم لا يتقبلون هذا الموضوع كما يجب , وكيف اضطررت ان الومهم بشدة واحكي لهم قصة العراقيين مع هذه الرواية وبطلها وقصتي انا شخصيا عندما قرأتها في تلك السنين الخوالي . وتذكرت طبعا اسماء بعض الادباء العراقيين المعروفين, الذين كانوا يحاولون محاكاة ( ولا أقول تقليد ) غوركي وطبيعة كتاباته…..
وهكذا وصلت الى البيت المهيب , الذي أهدته الدولة السوفيتية برئاسة ستالين الى مكسيم غوركي , كي لا يعود الى ايطاليا , اذ لم يكن يمتلك غوركي مكانا للسكن في موسكو. لقد بنى المليونير الروسي ريابوشينسكي هذا القصر عام 1902 وسكن فيه الى عام 1917 , وترك روسيا مع عائلته عندما حدثت ثورة اكتوبر , واصبح القصر ضمن املاك الدولة السوفيتية , وشغلته عدة مؤسسات سوفيتية منها جمعية الاتصال الثقافي مع الخارج , ثم
معهد علمي , ثم روضة للاطفال , واخيرا تم تخصيصه لغوركي وعائلته , وعندما توفي غوركي عام 1936 بقيت عائلته تسكن هناك , وأخذت زوجة ابنه تخطط لتحويله الى متحف خاص لغوركي والحفاظ على تراثه , وقد عرقلت الحرب العالمية الثانية طبعا تنفيذ هذه الخطة , ولكنها استمرت بتنفيذها , وهكذا تحول هذا البيت الفخم الى متحف غوركي عام 1965 , وقد كان افتتاحه مناسبة كبيرة لمجئ كل اقارب غوركي من كثير من بلدان العالم , وشارك في حفل التدشين شخصيات رسمية وادبية كبيرة .
عندما دخلت الى المتحف واردت ان اشتري بطاقة الدخول كما هو متبع في المتاحف الروسية , فوجئت ان الشخص الجالس في المدخل قال لي ان زيارة متحف غوركي مجانا للجميع , وان الشرط الوحيد لدينا هو كتابة اسماء الزائرين ليس الا , اذ ان هذا المتحف هو الوحيد بين المتاحف الروسية الذي يضم اسماء الزائرين له قاطبة ومهنهم . ابتسمت أنا لهذه المفاجأة الجميلة وقلت له , اني سأكتب اسمي بالعربية والروسية , وهذا ما فعلته , وقد فرح مسؤول الاستعلامات وقال لي انه سيعرض ذلك بكل سرور لادارة المتحف . وهكذا بدأت زيارتي لبيت غوركي . دخلت الى غرفة سكرتير غوركي الانيقة , وشاهدت مكتبه وعدة اجهزة من التلفونات القديمة والاثاث المتواضع للضيوف , ثم دلفنا الى مكتب غوركي نفسه , وشاهدت المنضدة الواسعة جدا التي كان يجلس خلفها كل يوم من الصباح لاكمال روايته الملحمية ( حياة كليم سامغين ) وبقية نتاجاته ومراسلاته في اعوامه الاخيرة . كانت تلك المنضدة نسخة طبق الاصل من تلك المنضدة التي كانت عنده في ايطاليا – واسعة وبلا مجرٌات , وعليها العديد من الاقلام وقناني الحبر , وكانت هناك ورقة عليها خط غوركي الانيق والجميل جدا . شاهدت في تلك الغرفة مجموعة هائلة جدا من التماثيل العاجية الصغيرة والتي كان غوركي يحب جمعها من اليابان والصين , وهي مجموعة لا تضمها حتى المتاحف المتخصصة بتلك الاعمال الفنية, وتشغل مكانا كبيرا في دواليب خاصة ومعروضة بشكل جميل جدا . انتقلنا بعدئذ الى غرفة منامه المتواضعة , ثم الى باحة البيت , حيث شاهدنا السٌلٌم
الى الطابق الثاني . يعد هذا السٌلم تحفة فنية , اذ ان المهندس المعماري واسمه سيختيل, الذي أشرف على تخطيط البيت , بنى سياج هذا السٌلم من المرمر على هيئة موجة من امواج البحر , وقد أدهشني بجماله لدرجة ان الشخص الموجود قربه لاحظ ذلك , واقترب منيٌ وقال لي , ان هذا السٌلم قد دخل ضمن الاعمال الفنية العالمية النادرة في الفن المعماري , واوصاني ان الاحظ الابواب والشبابيك في هذا البيت , والتي خططها و أشرف على تنفيذها المهندس المعماري سيختيل بنفسه . وفعلا بدأت الاحظ الابواب والشبابيك ووجدتها تجسٌد اعمالا فنية مدهشة الجمال وكل واحدة من تلك الابواب والشبابيك تمثٌل لوحات فنية قائمة بحد ذاتها , وخصوصا غرفة الطعام وسقفها , ومكتبة غوركي الغنية جدا بالكتب الروسية , وبحثت في تلك المكتبة عن كتب اجنبية ولكني لم أجد اي كتاب بلغات اخرى , ومن الواضح ان غوركي لم يكن يتقن اي لغة اجنبية . دخلنا بعد ذلك في غرفة خاصة للضيوف ووجدنا هناك اسماء كبار الزوار الذين زاروا غوركي ومنهم ستالين و الكاتب الفرنسي رومان رولان والكاتب الانكليزي برنارد شو وغيرهم .. ثم رأيت آخر ورقة صغيرة كتبها غوركي بيده , وهي موجودة على منضدة صغيرة ومحفوظة تحت قطعة من الزجاج , ويكتب غوركي هناك كلمات متشائمة نتيجة مرضه واحساسه باقتراب الموت , و اقدم للقارئ بعض ما جاء فيها – ( …احساس غريب جدا…لا توجد لدي اي رغبة بالكلام , وأصل حتى الى الهذيان , وأشعر باني اتكلم دون ربط … أشعر باني لن ابقى حيٌا …لا أقدر ان انام او أقرأ…ولا اريد اي شئ . )
عندما خرجنا من بيت غوركي , بدأنا نتكلم عن انطباعاتنا بعد هذه الزيارة, فقال احدهم – لقد منح ستالين لغوركي قصرا مهيبا في محاولة لاغرائه ان يكتب عنه , كما كتب غوركي عن لينين , لكن غوركي تهرب من ذلك بمختلف الحجج , ولم يستطع ستالين ان يجبره على ذلك رغم انه قدٌم له هذا القصر الفخم لمليونير روسي قبل الثورة .