لم يكن لديٌ عنوان دقيق لبيتها ( والذي حولته حكومة موسكو عام 1992 الى متحف) , و هكذا اضطررت أن أسأل الناس حولي عن موقعه , وقال لي أحد المارة في الشارع , ان تمثال تسفيتايفا يقع على اليمين , وان متحفها على الاغلب قربه. وهكذا وجدت التمثال , وتبين ان المتحف يقع فعلا مقابله تماما . وقفت عند التمثال هذا طويلا وتأملته بامعان. كانت تسفيتايفا تجلس وقد وضعت كلتا يديها على الجانب الايمن من رأسها , وكانت حزينة جدا , حزينة لدرجة اني بدأت اقترب أكثر من التمثال واحدق في وجهها عن قرب , لكي اتأكد , هل كانت دموعها تسيل على خدٌها ام لا ؟ اذ بدا لي و كأنها كانت تبكي . و قلت بيني وبين نفسي , ان الفنان الذي نحت هذا التمثال ربما أراد ان يجسٌدها في اللحظة التي عادت بها لتقف امام بيتها الحبيب ؟ وكيف يمكن لشاعرة رقيقة مثل تسفيتايفا ان تحبس دموعها و لا تبك وقد عادت الى البيت الذي عاشت به مع عائلتها أجمل أيام حياتها , منذ عام 1914 الى عام 1922 ؟ ام ان النحات اراد ان يجسد تلك اللحظة الحاسمة والحزينة في حياتها, عندما قررت تسفيتايفا بها ان تنتحر ؟ لقد حدثت هذه المأساة عام 1941 بعد ان هاجرت من روسيا عام 1922, ثم عادت اليها عام 1939 , اي بعد سبع عشرة سنة من حياة الغربة وعذاباتها , ثم قررت ان تنتحر بعد سنتين ليس الا من عودتها الى الوطن , لانه ( لم يكن هناك من مخرج آخر ) كما كتبت في واحدة من ثلاث رسائل تركتها قبل ان تعلق نفسها بالحبل الذي قدمه لها باسترناك – كما تقول احدى المصادر عنها – كي تستخدمه لربط حقيبتها .
كانت باقات الورود تحيط بالتمثال , بل وكانت هناك باقة ورد وضعوها في حضنها . كل الورود كانت بسيطة , ومن الواضح انها جاءت من حدائق الناس البسطاء وبيوتهم الصيفية المتواضعة , وليس من مخازن الورود الغالية الاسعار, وان هذه الورود قد انتقاها المعجبون بايديهم كي يجلبوها الى تسفيتايفا , بل اني لاحظت , ان احدى الباقات كانت ملفوفة بجريدة قديمة ليس الا , واكثر الاشياء التي أثارت انتباهي ودهشتي في تلك اللحظة هي تلك التفاحة , التي قدمها لها أحد المعجبين بها , ووضعها على منصة التمثال عند قدميها, وقد حاولت ان التقط صورة للتمثال وركزٌت على تلك التفاحة بالذات , لانها كانت تمثٌل – بالنسبة لي – الحب والتعاطف والوصال الروحي بين تسفيتايفا والناس . لقد حكيت قصة التفاحة هذه الى الموظفة المسؤولة عن هذا المتحف الرشيق, فضحكت – وبكل سرور – وأجابتني , ان سبب هذه الهدايا هو مرور يوم ميلاد تسفيتايفا قبل ايام قلائل , وان جميع محبيها قد ارادوا ان يقدموا لها هدية ما في هذه المناسبة , ويبدو ان هذا الشخص لم يجد معه شيئا سوى هذه التفاحة , فقدمها لها تعبيرا عن حبه لها واعتزازه بها واعجابا بابداعها, والتفاحة (المتواضعة !) هذه هي أجمل هدية بلا شك في رأي , لأنها تعني ان تسفيتايفا لازالت تعيش بيننا , وانها بحاجة ان تأكل التفاح .
وهكذا دخلت الى هذا المتحف الفريد وانا غارق في اجواء تمثالها الحزين والازهار التي تحيطه والتفاحة التي تقف ( شامخة!) بين تلك الازهار .
هذا المتحف هو الشقة التي عاشت بها تسفيتايفا . انها شقة غير اعتيادية تماما بالنسبة لموسكو , اذ توجد فيها ثلاثة طوابق , وفي كل طابق غرف وممرات , وقد اخبرتني احدى مسؤولات المتحف , ان تسفيتايفا نفسها لم تكن تعرف عدد الغرف الموجودة في تلك الشقة ( هكذا كتب أحد الاصدقاء في ذكرياته عنها ) . في الشقة المقابلة لها ( والتي اصبحت الان جزءا من المتحف طبعا ) وجدت كتبها ورسائلها موضوعة في واجهات زجاجية رشيقة . كتابها الاول والثاني والثالث , وكتب الشعراء الروس في تلك السنين الخوالي – بلوك وغوميليوف ويسينين وماياكوفسكي وأخماتوفا وايرنبورغ وباسترناك وبيللي … وهناك رسائلها بخطها الجميل والناعم ,حتى بطاقات بريدية ارسلتها من تشيكيا عام 1903 عندما كانت تشارك في مخيم للصغار هناك … ووجدت هناك الكتب التي أصدرتها مع زملاء آخرين في برلين عام 1922 , عندما هاجرت من روسيا , وصور عديدة لها ولزوجها وابنتها ولشعراء وادباء روس مهداة لها , وتاملت صور باسترناك وايرنبورغ وماياكوفسكي وبلوك وبقية ادباء روسيا في العشرينات عندما كانوا شبابا , بل اني وجدت نسخة من جريدة اسمها ( ارادة روسيا ) كان يصدرها اللاجئون الروس في براغ عام 1922. بعدئذ دخلت الى شقتها التي عاشت فيها طوال تلك السنين , وشاهدت لوحة كبيرة تتوسط الغرفة الرئيسية في الشقة وهي لوالدها بروفيسورجامعة موسكو تسفيتايف – المتخصص بالفن وتاريخه ومؤسس متحف الفنون الجميلة في موسكو ومديره الاول ( لازال هذا المتحف موجودا في موسكو واسمه الان – متحف بوشكين , ويعد من أكبر متاحف الفنون في العالم ). وهكذا بدأت بالتجول في تلك الشقة غير الاعتيادية تماما . كان الاثاث موجودا كما كان ايام تسفيتايفا , واللوحات تملأ الجدران ( وجدت نفس اللوحة التي وصفتها تسفيتايفا في كتابها عن بوشكين , وهي اللوحة التي تجسد اصابته اثناء المبارزة , وتأملتها طويلا وتذكرت المقاطع الشاعرية المدهشة الجمال التي كتبتها تسفيتايفا عن تلك اللوحة – انظر مقالتنا بعنوان تسفيتايفا وبوشكينها ) . لقد شرحوا لي ان هذه الشقة قد تحولت الى غرف عديدة لسكن الكثير من العوائل السوفيتية في العشرينات والثلاثينات وزمن الحرب وبعدها ايضا ( كل عائلة تسكن في غرفة بنفس الشقة , وتكون الخدمات مشتركة للجميع , وهو نظام جاء نتيجة الازمات آنذاك ويكاد الان ان يتلاشى تقريبا) . ثم تم اتخاذ قرار بتهديم العمارة الا ان الحرب الثانية اوقفت القرار, وحاولوا تنفيذه في السبعينات, ألا ان واحدة من سكنة العمارة رفضت الاخلاء رغم كل محاولات السلطات , وهكذا اتخذت حكومة موسكو بعد سقوط الاتحاد السوفيتي قرارا بتحويل البناية الى متحف تسفتايفا , وقامت بتصليح البناية واعادتها كما كانت في السابق , ووضعت الاثاث واللوحات والكتب في الشقة حسب ذكريات معاصريها , لدرجة , ان واحدة من زوار المتحف قالت لي – ( عندما كنت اتجول في هذا المتحف شعرت بان من المحتمل ان تبرز امامي فجأة تسفيتايفا نفسها من احدى هذه الغرف ) .
لقد تحول هذا المتحف الان الى مركز ثقافي نشيط جدا , فيه منهج شهري يوزعونه مع بطاقات الدخول , وقد استلمت هذا المنهج بالطبع لشهر تشرين الاول / اكتوبرلهذا العام (2016) , واود ان اختتم مقالتي هذه بعرض سريع لبعض فقرات هذا المنهج ليس الا ( اكرر – لبعض فقراته) , اذ ان طبيعة المقالة لا تتحمل كل تفصيلاته , وهذه المختارات كما ياتي –
اليوم العالمي للموسيقى – حفل موسيقي ثم محاضرة بعنوان عائلة تسفيتايفا في الثقافة الروسية /// قراءآت شعرية مختارة من تسفيتايفا وأخماتوفا وباسترناك وغوميليوف …/// مسرحية بعنوان – غريب الاطوار ( عن حياة يسينين ) /// مسرحية مستوحاة من نتاجات تسفيتايفا ورسائلها ورسائل باسترناك /// مسرحية مستوحاة من قصة تسفيتايفا ( تسع رسائل ) /// المؤتمر العلمي العالمي التاسع عشر , المكرس لدراسة حياة وابداع تسفيتايفا ( لمدة يومين) بعنوان – من اجل ان يكون في العالم اثنان – أنا والعالم./// مسرحية فنية وثائقية بعنوان – والدتي مارينا تسفيتايفا /// حفل موسيقي بعنوان – في عالم الموسيقى من كل النوافذ /// عرض فلم سينمائي فرنسي بعنوان – ( زوجة الخباز) انتاج عام 1938 …..