18 ديسمبر، 2024 5:54 م

وقع بين يدي كتاب صدر حديثاً بعنوان ( كنتُ بعثياً ) لمؤلفه البعثي محسن الشيخ راضي ، وينسب إنه من الرعيل الأول من البعثيين ، والذي عاصر أحداث مهمة ، بل كان من صناعها في تاريخ العراق السياسي وفي حقبات مهمة من مسيرته السياسية مازالت الأراء والمواقف محتدمة حولها . في التحويشه الأخيرة من العمر أزداد تلهفي في الاطلاع على السير الذاتية للشخصيات ورجال السياسة والفكر والدين على حد سواء ، مثلما سعيت في الحصول على نسخة من هذا الكتاب بعد أن قرأت بعض النتف حول إصداره ، كان أكثرها توسعاً ما نشره السيد جمال العتابي على صفحات جريدة المدى بثلاثة حلقات متتالية ، مثلما أسعى في الحصول على مذكرات البريفسورة سيمون دي بفوار المعنونة ( وانتهى كل شيئ ) .

الموقف الذي يسجل له وهو على عتبة التسعين من العمر ، وأن أتى متأخراً أهون من أن لا يأتي أبداً ، هو أعتذاره من العراقيين على ما أقترفوه البعثيين من جرائم بحق شعبنا والانسانية ، وحمل نفسه مسؤولية تلك الاحداث في أنتفاد ذاتي واضح والاعلان عن ندمه . ما يهمني ويهم العراقي المغضوب على امره في أعتقادي هو الاشكالية والموقف والحدث من الصراع الدموي بين الشيوعيين والبعثيين والقوميين ؟.

بيان رقم ١٣ في ٩ شباط عام ١٩٦٣ ، الذي يدعوا الى إبادة الشيوعيين عن بكرة أبيهم . والذين أصاغوه حسب رواية محسن الشيخ راضي في صفحات كتابه ، عبد السلام عارف ، أحمد حسن البكر ، صالح مهدي عماش . وفي الوقت الذي يدين ويستنكر هذا البيان ، لكنه في كتابه يحاول أن يعطي التبريرات في صياغة هذا البيان الفاشي . أن الشهيد سلام عادل في ظهيرة ٨ شباط وزع البيان المدوي في شوارع بغداد ”إلى السلاح لسحق المؤامرة الاستعمارية الرجعية ” دعوة صريحة لمقاومة الانقلابيين والحفاظ على مكتسبات الثورة والجمهورية الفتية مما زعزع الثقة والبلبلة بين صفوف الانقلابيين والخوف من سيطرة الشيوعيين على الوضع ، الذي ما زال متأزماً وغير محسوم ويعتبروها كرد فعل على الموقف وما سطره الشيوعيين من ملاحم مقاومة بطولية في عدة مناطق في بغداد ، الكاظمية ، الشاكرية ، باب الشيخ . ويذكر السيد محسن الشيخ راضي في كتابه ” كنا نتوقع من الشيوعيين فقط بيانات شجب وإستنكار لحين أن تهدأ الاوضاع في إيجاد صيغ وطرق للتفاهم والحوار ” . يبني محسن الشيخ راضي فرضيته هذه بعدم مقاومة الشيوعيين لهم جراء ما تعرضوا له من وسائل تنكيل وسجون وأضطهاد من قبل الزعيم لهم في فترة حكمه ، حيث تشير المصادر عدد الذين كانوا يقبعون في سجون الزعيم قاسم بحدود ٥٠٠ شيوعي وشيوعية ، فكانوا لقمة سائغة وسهلة في جعبة البعثيين .

بعد صدور بيان رقم ١٣ ، شنوا البعثيين والقوميين حملة كبيرة على أوكار قادة الحزب الشيوعي العراقي مدعومة بفتاوي من رجال الدين وبدعم من بقايا الاقطاع والرجعيين . في يوم ١٦ شباط ألقي القبض على الكادر الشيوعي حمدي أيوب وتعرض الى تعذيب وحشي فأدلى باعترافات شملت إلقاء القبض على عضو المكتب السياسي هادي هاشم الاعظمي ومسؤول تنظيمات بغداد وبطل السجون في فترة حكم النظام الملكي ، والذي يعده الشيوعيون من أكثرهم صلابة وقوة في الحزب ، فمنذ اللحظة الاولى التي ألقي القبض عليه تعاون معهم ووضعوه في حماية خاصة مع عائلته في بيت في الوزيرية ، بعد أن طلب اللقاء بعلي صالح السعدي وتحاور معه وقدم له جميع المعلومات المتوافرة لديه عن أوكار وتواجد قيادات الحزب الشيوعي ” ويذكر محسن الشيخ راضي أنه ألتقى به مرتين وخلال حديثه معه كان ينتقد الشيوعيين ، ويردد في حديثه بأن الحزب الشيوعي العراقي اصبح عائقاً امام حركة التحرر في العراق ، فاعطاهم أربعة عناوين لبيوت سرية يتنقل بينها الشهيد سلام عادل ، فبعد متابعة لتلك الاوكار ورغم كل تمويهاته تم إلقاء القبض على الشهيد سلام عادل في بيت سري يوم ١٩ شباط ، وكان مع أبنه الصغير علي برعاية أحدى الرفيقات لغياب زوجته ثمينة ناجي يوسف الى موسكو لحضور مؤتمر نسائي هناك ، وقد نجا أبنه من الموت لعدم فطنة الانقلابيين له أو ربما كانوا في لجة نشوة القبض على أهم رجل مطلوب لهم ، وكان معه أحد الرفاق حيث أدعى أنه عامل كهرباء جاء لطلب من صاحب البيت لمعاينة الخلل . ونقل الشهيد سلام عادل على عجل وبسرية تامة الى أقبية التعذيب فاستشهد تحت التعذيب يوم ٢٣ شباط .

في محاولة يائسة من السيد محسن الشيخ راضي في تبرير موقفه من تعذيب وقتل الشيوعيين وأشرافه حسب عدة مصادر مسربة هو من أشرف على تعذيب الشهيد سلام عادل .

يقول في صفحات كتابه في تبرير موقفه ” ذهبنا أنا وحازم جواد الى قصر النهاية فوجدت سلام عادل جالس على كرسي في ممرات قصر النهاية وفي وضع ميئوس منه وجلس أمامه حازم جواد : وسأله .. لماذا لم تتخذوا أجراءات الحذر واليقظة ولا تعمموا توجيهات الى تنظيماتكم العسكرية بعد أن تلقيتوا أخبار بمحاولتنا الانقلابية قبل يومين من وقوعها ، فرد عليه .. هذه ليس المرة الأولى التي تصلنا مثل تلك المعلومات ؟.

قبل يوم من وقوع الانقلاب نقلت الى قيادة الحزب القيادية الشيوعية المندائية ( روضة عبد اللطيف ) من أهالي منطقة المأمون في أثناء لقاؤها مع عشيقها البعثي العسكري برتبة عقيد في وزارة الدفاع يدعى ( جابر علي كاظم ) وهو محسوب على خط صالح مهدي عماش وفي غمرة وحرارة اللقاء بينهما لحظات سكره وولعه بها . قال لها باجر عندنا محاولة إنقلابية ضد الزعيم قاسم والشيوعيين ، فنقلت الخبر الى أحد اعضاء اللجنة المركزية وبدوره نقلها الى الشهيد سلام عادل لكنهم لم يأخذوها على محمل الجد . فوقعت الكارثة .

أستشهد الشهيد سلام عادل تحت التعذيب يوم ٢٣ شباط ١٩٦٣ . وينفي السيد محسن الشيخ راضي على صفحات كتابه تلك المعلومات التي تداولت أن القيادي البعثي علي صالح السعدي هو من أطلق رصاصة الرحمه على الشهيد سلام عادل ، ويقرنها بقوله ” كنا مسافرين بوفد الى عاصمة مصر القاهرة يوم ٢٠ شباط لحضور الاحتفالات التي اقيمت في القاهرة بمناسبة عيد الوحدة بين مصر وسوريا ولم نعود الا يوم ٢٤ شباط ، وفي غضون غيابنا من تلك الايام لقد سمعنا باستشهاد سلام عادل . وقد القى في المؤتمر علي صالح السعدي كلمته الارتجالية بعد كلمة جمال عبد الناصر يوم ٢١ شباط . وإن ما نقل عن المرحوم علي صالح السعدي نحن حئنا بقطار أمريكي ، كان يقصد بعض البعثيين مما تعاونوا مع الامريكان في إنقلاب يوم ٨ شباط ١٩٦٣ ، حسب رواية محسن الشيخ الراضي .

في يوم ٩ شباط نفذ حكم الاعدام بحق الزعيم عبد الكريم قاسم وصحبه الشهداء طه الشيخ أحمد والمهداوي في مبنى دار الاذاعة في الصالحية بقسم غرفة الموسيقى بعد أن أستسلم للانقلابيين رغم محاولاته الحثيثة ومن خلال سلسلة أتصالات من وزارة الدفاع ببعض قادة الانقلاب وقادة الفرق العسكرية عارضا استسلامه على شرط الموافقه على إجراء محكمة علنية له وتسفيره وابعاده خارج العراق . كانت ردات الفعل أن يسلم نفسه بدون قيد وشرط ورأسه مطلوب ، مثلما أكد له طاهر يحي رأسك مطلوب فقط ومع كل هذا وهو القائد العسكري ذهب طوعاً الى الموت وهو أدرى بمصيره ، هنا نقطه رأس سطر .. بحاجة الى مراجعة حقيقية لتلك التراجيدية ؟. حصر نفسه بوزارة الدفاع ولم يقاوم لمدة أربعة وعشرين ساعة . كان الاجدى به الانتحار أو الموت في القتال , وليس أستجداء العطف من أعدائه . العقل الجمعي العراقي ( العاطفي ) ، ما زال يتغاضى عن سياسة الزعيم المربكة في أدارة أمور البلاد ، يتغلب ذلك العقل ومازال أنه الزعيم الاوحد بدون مراجعة ميدانية ( نقدية ) ، عن تسلكاته التي أدت الى هتك البلاد والتي يتم تبريرها بجملة إنجازاته بعيداً عن فحوى الواقع الذي كان طاغياً كما وصفه زعيم الشيوعيين العراقيين الشهيد سلام عادل في لقائه اليتيم معه أنه طاغية سيدمرنا ويدمر البلد . حيث لم يعير أهتماماً بصرخة تلك الجماهير التي خرجت الى الشوارع في الدفاع عنه بأسلحة يدويه وخفيفة ، ولم يمتثل لها وهي تطالبه بالسلاح كما يفسرها البعض خوفاً من أراقة الدماء في الوقت الذي أسيلت الدماء في الشوارع منذ الصباح الباكر يوم ٨ شباط في شوارع بغداد . وفي تقدير موضوعي للمتابعين أنه أمتنع عن تسليم السلاح للمدافعين عنه خوفه من الشيوعيين أن يتصدروا أمور البلد الذي كان يصفهم أنهم أعداء الله والعروبة .

لم أجد وأنا المتابع لقضايا تاريخ البلد كتابة أو دراسة خرجت منصفة بحق هذا الرجل حيث شفعت له إنجازاته على حساب تسلكاته وأدارة شؤون البلد والتي هي اليوم جزاً ليس قليلاً ما وصل له العراق ، رغم طول تلك السنيين والتجارب المريرة . وانا شخصياً لم يخامرني يوماً أدنى شك بنزاهته ووطنيته ، لكني لم أرى أنصافاً من الذين كتبوا عنه في الجانب الآخر الطامس من شخصيته دكتاتوريته وفرديته في أساليب أدارة الحكم .

Mohammed Al Saadi
Beider Media
www.beider-media.se
070 073 3003