23 ديسمبر، 2024 4:03 م

 تغفو مدينتي الجميلة  على ضفتي الفرات ويمشط شعرها التمري نسيم الجنوب ، ذاك الزمن العفوي ، الستينات من القرن المنصرم ،كانت ولا تزال عروس سومرية بحلة خضراء ، يطوقها  وشاح اخضر من بساتين النخيل من كل جانب ، تزهو بفراتها المعطاء الذي تطرز مياهه العذبة زوارق صيادي  (البني والكطان) والطيور الحرة (الخضيري والبط وطيور الهور الحرة) ومهيلات التمر والرطب والعنبر تشق عباب سلسبيله العذب …!
كان شارع النهر ، في محلة السيف، سوقا للقوت اليومي ،  والذي لا يستطيع الشراء يستخدم السنارة لاصطياد عشاءه من النهر، حيث لا توجد ثلاجات او مجمدات في ذاك العهد العذري ،  الطبيعة ويد الفلاح  هما المصنع والمصدر الوحيد الذي يغذي سكان الريف والمدينة ، وحين يحل الظلام ،  يحط الرحال بتلك المنتوجات بمكان قريب يدعى بــ (الاستهلاك) كان يقع خلف المصرف العقاري اليوم على شارع النهر استعدادا للتسوق الصباحي…..اما في وقت (الكصاص) حين ينضج  الرطب  ويصير تمرا يأتي الناس من مناطق المدينة الريفية الشمالية ، عوائل كاملة  تسمى حينذاك بـ (النيسانية : عمال جمع التمور) ويسكنوا في العراء عدة ايام على شارع النهر  ليعرضوا خدماتهم على اصحاب البساتين للعمل في (الجراديغ : امكنة لجمع التمر وكبسه ) بعد ذلك يرسل الى مدينة البصرة لتصديره الى خارج العراق لان تمور العراق كانت ولا تزال اجود تمور العالم…..!!
كنا شبابا نجوب شوارعها هنا وهناك حتي يستقر بنا المطاف في مقهى في وسط الشارع الرئيسي للمدينة عكد الهوى(شارع الحبوبي الان) ولعدم توفر عناصر تكنولوجية للهو  كما يتوفر الان , فلا  تلفزيون او تليفون او موبايل…..الخ …من الوسائل المختلفة الان  ،فكان الشيء الوحيد لقضاء فائض الوقت لدينا هو التمشي على شارع النهر مع كيس من( الحب او الشامية) او الذهاب الى المقهى لسماع ام كلثوم وفريد الاطرش وعبد الحليم حافظ من راديو المقهى…واحيانا للسينما.
كانت الحياة عذرية ، بسيطة جدا وجدية وواقعية ، فكل شيء فيها حقيقي ولا مجال للكذب والرياء….حتى السياسة كانت اصيلة وحقيقية بممارساتها و رجالها و مصطلحاتها وعناصرها ومحتواها واهدافها الديمقراطية والحرية و الاشتراكية . كانت حقيقية في كل شئ ، حين يحتدم النقاش بالمقهى بين القوميين والبعثيين والشيوعيين يكون الاشتباك بالأيدي فقط ولا وجود للسلاح والمتفجرات ومسدسات كاتمة الصوت….!!؟؟ كان كل شيء عذري له معنى وقيمة وطعم  انساني حقيقي….!!
اما حياة الناس في المحلة كانت الطف مما ذكرت سابقا فالعوائل تعيش فوق بساط الله المفروش بالحب والبساطة والسلام والمحبة تربطهم الاخوة والطيبة وحسن الجوار. في المساء يبرز مشهد اسطوري مفعم بالحب وتطرزه الانسانية والتكافل الاجتماعي حين تبرز صواني الطعام وهي الشي المألوف الذي يدور بين ابواب البيوت في المحلة، كل جار يشارك جارة بما رزقه الله من طعام…..!؟
يتبادل الجيران حتى الملابس وحين يسافر احدهم يترك عائلته امانة عند جاره حتى يعود…..!!..ان حدثت مشكلة يبادر الجميع لحلها….! اذكر ان الجار يستعير عباءة او بدلة  جاره يلبسها اثناء سفره ….!!..هكذا كنا ،والله ، يدا واحدة واناءا واحدا وقرارا واحدا، …..ماذا حل بنا الآن…هل الفرقة والتشرذم والعداء والفرقة هو نوع جديد من التقدم والتحضر …اذا كان كذلك…. قاتل الله التقدم والتحضر….انه والله جهل وظلم  وظلام…..!!؟
 انا لا طيق الجلوس في المقهى مطلقا، لكن ما سمعته عن جبار (الشقاوة) وحكاياته العجيبة وقدرته على أطلاق الافيال في الهواء اجتذبني هذا الصيت كثيرا نحو المقهى. كان جبار شخصية غريبة  قوي البنية ، مفتول العضل ،طويل القامة رغم ذلك فهو انسان مسكين من عائلة فقيرة يسكن مع والدة في كوخ في (قرية فرحان ، محلة الصالحية الان) . يجلس جبار في المقهى محاطا بالشباب للاستماع لحكاياته الغريبة المحلقة بين الخيال والكذب الصبياني وتتخللها عبارات غريبة منها( افعصك  كالنملة ، اقسمك نصفين بضربة واحدة ،اقتل عشرة بأصبع واحد…!؟) كان يستخدم تلك العبارات لعرض شجاعته وجبروته الفطري امامنا ونحن نمتدح واحيانا نصفق له لنزيده حماسا لأطلاق افيالا اكبر…! في يوم وهو محلق في اثير بطولاته الاسطورية ازعجته ذبابة جدا ، فكلما يطردها تعود مرة اخرى..! فترك الحديث واطلاق الافيال وبدا يلاحق تلك الذبابة ، تحت ذهولنا واستغرابنا، حتى استقرت فوق فخذه الايسر ، سحب سكينه الكبيرة ،التي يحملها دائما، دون تفكير وضربها بكل ما اوتي من قوة ولم نسمع سوى صرخته وتدفق الدم من فخذه….!؟…ركضنا جميعا نحوه وحاولنا ايقاف نزيف الدم فلم نستطع….!! ؟ وخرج من في المقهى وعمت الفوضى ، وضعناه في عربة لنقل التمر واسرعنا به الى المستشفى . بعد شهرين عاد جبار الى المقهى وهو يتعكز وبرجل واحدة ولم يعد جبار كما كان….!؟…وصار اسمه جبار الاعرج بدلا من جبار الشقاوة…!؟ يبدو ان حكايتنا في العراق مع سياسينا كحكاية جبار …..!؟