23 ديسمبر، 2024 12:23 ص

كمال سبتي والبلاد ..

كمال سبتي والبلاد ..

في عام 1989 تمكن الشاعر العراقي الراحل كمال سبتي المولود في مدينة الناصرية عام 1954 من الهرب خارج العراق بعد أن وجهت له دعوة ثقافية لحضور أحد المهرجانات في تونس ، كانت طريقة هروب كمال في ذلك الوقت قد أذهلت الوسط الثقافي العراقي ، فرصة ذهبية أغتنمها الشاعر وغادر البلاد قبل الموعد المقرر للسفر بيوم واحد ، دخوله الى مطار بغداد الدولي فيه الكثير من الخوف والرعب ، كان كمال غير مصدق بأنه سينجو ويفلت من الجلادين الذين يحكمون البلاد بالحديد والنار حتى والطائرة أصبحت في سماء العراق وقد اعتقد الشاعر كمال سبتي في حينها إن النظام العراقي يراقب حتى السماء ! يا له من ذعر خيم على روح الشاعر وهو يفلت بجلده من البلاد التي حُطمتْ ودمرت بالحروب والنكبات والمآسي والويلات على مدى سنوات طويلة .ويجوب كمال سبتي الدول والمدن الأوروبية بصحبة أوراقه الحاملة لقصائده التي أخلص لها منذ نعومة أظافره حتى رحيله ، ويذهب الى إسبانيا ويدرس الفلسفة في جامعة مدريد ومن ثم ينتقل الى الشمال الهولندي ليعيش سنواته الأخيره من حياته التي كرسها للشعر والحب والإخلاص والوفاء والجمال ويقدم لنا سبع مجموعات شعرية منذ عام 1980 حين أصدر ( وردة البحر ) مجموعته الشعرية الأولى .
وفي العام 2002 إلتقيت كمال سبتي في سوريا لأول مرة بعد هروبه من العراق ، وأنا أدخل مقهى الروضة في الشام رأيته جالساً ، كان لقاءً جميلاً دام لمدة شهر على طول مدة إجازتنا ، لم أفارق كمال ، كنا نذهب يومياً الى نادي الصحفيين ونلتقي بالعديد من الأصدقاء العراقيين والعرب ، حتى صدرت مجموعته ( آخرون قبل هذا الوقت) . واقيمت له أمسية فريدة من نوعها حضرها جمهور غفير من الأدباء والصحفيين ، وأذكر حين قرأ كمال قصيدته ( البلاد ) أصابه الوجع بقوة وبطريقة كانت واضحة على ملامح وجهه.انها قصيدة البلاد ، ويعني كمال سبتي في هذا العنوان أشياء كثيرة وكثيرة جداً ، حتى إن دموعه أحسها مازالت رطبة وأنا أتصفح مجموعته التي قام بإهدائها ليّ في دمشق يوم أمسيته ، وبعد أيام قليلة أقترب موعد السفر ، وكان عليّ بأن أقلع بطائرتي قبل طائرة كمال بأربع عشرة ساعة ، وقد كتب ليّ اهداءً جميل مازلت أسمع فيه صدى قهقهات كمال العالية وضحكاته التي كنت أحس بها مخنوقه ومربوطة بخيط غليظ من الحزن والألم واللوعة .
كتب كمال في إهدائه يقوله : (صديقي هادي : ستطير قبلي من دمشق باربع عشرة ساعة ، فطرْ قبلي ، كما يقول شيلر في نشيد الفرح: طيروا أيها الأخوان من مقاعدكم . أتمنى ألا تطير من مقعدك في الطائرة .. محبة كمال سبتي / دمشق 26 / 8 / 2002) ..
رحل كمال في شقته الهولندية عام 2006 وسط حزن وصدمة كبيرة تلقهاها الوسط الثقافي العراقي الذي نقل جثمانه الى مدينته الناصرية ومنها الى مثواه الأخير في مدينة النجف الأشرف .
لقد كان الشاعر كمال سبتي ومن خلال قصيدة البلاد يعرف سر البلاد وسر حتفها الذي أصبح واضحاً للجميع . لقد أسس كمال لمدرسة شعرية حديثة ، وتوجت تلك المدرسة من خلال مجاميعه الشعرية والتي حين نقرأها نشعر بنشوة الشعر الصافي . كتب كمال قصيدته ( البلاد ) بين عامي 1995 -1997 وهي نتاجه الشعري الوحيد لتلك السنتين ، إلا ان القصيدة لم تكتمل على حد قوله . فعاد في شباط من عام 2001 بعد أن أكمل قصيدة ( حكاية في الحانة ) وهي ثاني قصائد مجموعته ( آخرون قبل هذا الوقت ) ، فأكمل قصيدة البلاد في العام نفسه ، لترى النور في الصفحات الثقافية لجريدة الزمان اللندنية ، ولتأخذ قصيدة البلاد أكثر من ثلاث أرباع الصفحة بسبب المدى الواسع الذي تتحرك فيه القصيدة إضافة الى الأجواء الشعرية العالية التي تخيم على القصيدة برمتها لتجعل منها تراجيديا الشعر الحديث . يقول كمال سبتي في مقطع من قصيدة البلاد الطويلة والتي بكى وهو يقرأها في أمسية أحتفاءً بمجموعته الشعرية (آخرون قبل هذا الوقت ) :
القارِبُ الّذي لاحَ لي في النـَّهرِ كانَ جـُثّةً ..
أنكفئُ إلى سعادةِ شـُبـّاكٍ ، إلى عـُريٍ لا يـُضاءُ بمصباحٍ ،
وإلى حـَطـَبِ شـتاءٍ يـُشعِـلُهُ غزاةٌ صحراويـّونَ .
يـَصْـهـِلُ حـِصانُ الـذَّهـَبِ والفضـّةِ ، يـَصْـهـِلُ حـِصانـُكَ يا أميـرُ .
يـَرْتـَجِفُ الفنجانُ ، يـُلطـِّخُ بالقهوةِ خريطةً مـُهَرّبة.
يـَصـْهـِلُ حـِصانـُكَ يا أميـرُ ، حـِصانُ الذّهـَبِ والفـضـّةِ يا أميـرُ .
لا يبقى لي شـُـبـّاكٌ ولا عـُريٌ. يبقى لي حـَطـَبُ شتاءٍ على بـُعـدِ نهـرٍ ،
يبقى الأميـرُ وصحـبـُهُ والّليلُ ،
ويبقى شـُـقـْـرٌ مُـلْتـَحونَ يـَنتـظِرونَ الفـَجـْرَ والمينـاء .
أنكفـِئُ إلى نبيـذٍ مـُعـتـَّـقٍ وحـكاياتٍ ،
إلى صـورةٍ للذّئبِ عـَلّقـَـها قائدُ الحملةِ على الحائطِ .
يـَخـْرُجُ جـَـنـوبٌ في حـُلّةِ الحـربِ، ..
يـخرُجُ مـُستـَكشِفونَ بالخـرائِطِ،
ويـخرُجُ الذّئبُ بمنظارٍ. .